العلمانية دعاة على أبواب جهنم

عناصر الخطبة

  1. العلمانية من أخطر الأفكار والفلسفات المنحرفة اليوم
  2. معنى العلمانية وتضادها مع دين التوحيد
  3. العلمانيون يستنكرون وجود علاقة بين الإسلام والحياة
  4. تخفي العلمانية خلف شعارات براقة
  5. اختلاف الظرف التاريخي بين ظهور العلمانية في الغرب والعالم الإسلامي
  6. سيطرة العلمانيين على وسائل العلماء
  7. ترويجهم للفواحش عن طريق المرأة
  8. حقيقة العلمانية رفض الدين وتنحيته عن الحكم
  9. الحركة العلمانية في بلاد المسلمين ذات توجهين
  10. ضرورة عدم التهاون في المعركة مع العلمانية
اقتباس

إن من عادة المنافقين؛ من علمانيين وحداثيين، عدم الإنكار الصريح والواضح، وعدم إظهار العداء السافر للإسلام، وهم يتخذون سلاح التلبيس والتمويه للالتفاف حول المسلمين لحين المعركة الفاصلة، حتى يفاجئوا المسلمين على حين غرة، من أجل ذلك يرفع هؤلاء الزنادقة من العلمانيين وأشباههم شعارات، يحاولون بها خداع أكبر عدد ممكن من المسلمين ..

إن الحمد لله… 

أما بعد:

أيها المسلمون: لقد أنزل الله الكتاب تبيانًا لكل شيء، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ففتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًًّا وقلوبًا غلفًا، وبدد بدعوته ظلمات الجهل والحماقة، وأسقط الأغلال التي كانت على العقول، غير أنه يجب أن نذكر دائمًا أن البلاء مستمر، ومادة الشر باقية، وشياطين الإنس والجن مستمرون في ترويج الضلال، حتى زخرفوه بكل لون، وروجوا له بكل لسان: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَـاطِينَ الإِنْسِ وَلْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام: 112]، ومن الواجب أن نتتبع طرق الغي، بالتحذير منها، وكشف مراميها وأبعادها، وسد السبل على دعاتها، حتى يكون المسلمون على بينة من ربهم، وبصيرة من سبيلهم، ولا يضرهم انتحال المبطلين، أو كيد الكائدين.

أيها المسلمون: لقد شاعت في دنيا المسلمين اليوم فلسفات وأنظمة خدعت الكثيرين ببريقها، وانتشرت شعارات ومصطلحات لو قدر لها أن تنتشر لم تأتِ على شيء إلا جعلته كالرميم، ومن أخطر تلك الأفكار: الفكر الصليبي غير الديني، وهو ما يسمى بالعلمانية، التي تسربت إلى مجتمعات المسلمين، ولعل أحد التحديات الخطيرة التي تواجه أهل السنة في هذا العصر، هي إسقاط اللافتات الزائفة، وكشف المقولات الغامضة، وفضح الشعارات الملتبسة، التي تتخفى وراءها العلمانية، التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة.

ومدلول هذا المصطلح وفكره هو إقامة الحياة على غير دين، سواء بالنسبة للأمة أو الفرد، إن هذه العلمانية لهي أكبر نقيض للتوحيد.

أيها المسلمون: لقد تغيرت بعض مظاهر العبادة، فلم يعد هناك تلك الأوثان التي كان العرب في شركهم يعبدونها، ولكن عبادة الشيطان ذاتها لم تتغير، وحلت محل الأوثان القديمة أوثان أخرى: كالحزبية والقومية والعلمانية والحرية الشخصية والجنس وغيرها، وعشرات الأوثان الجديدة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن الإنسان على مفترق طريقين لا ثالث لهما: فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية، ليصبح لا محالة في عبودية لغير الله، وكل عبودية لغير اللَّه -كبرت أو صغرت- هي في نهايتها عبادة للشيطان".

أيها المسلمون: إن العلمانية تعني: الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شرع الله، وقبول الحكم والتشريع والطاعة من الطواغيت من دون الله. فهذا معنى قيام الحياة على غير الدين: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئكَ همُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]. والجاهلية أنواع، منها: جاهلية الإلحاد بالله سبحانه، وإنكار وجوده، فهي جاهلية اعتقاد وتصور، كجاهلية الشيوعيين. ومنها: اعتراف مشوَّه بوجود الله سبحانه، وهي جاهلية الاتباع والطاعة، كجاهلية الوثنيين واليهود والنصارى. ومنها: اعتراف بوجود الله سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية، مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم مسلمين من العلمانيين، ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحققوه بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية، مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين، ومع استسلامهم لغير الله من العبيد.

أيها المسلمون: والعلمانية تجعل العقيدة والشعائر لله وفق أمر غير الله، وتجعل الشريعة والتعامل مع غير الله وفق أمر غير الله، وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله؛ لأن أهل الجاهلية الأولى لم ينكروا وجود الله، كما قال تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوتِ وَلأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه) [لقمان: 25]، وكذلك لدى أهل الجاهلية الأولى بعض الشعائر التعبدية، كما قال سبحانه: (وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَلأَنْعَامِ نَصِيبًا) [الأنعام: 136]، ومع ذلك فقد حكم الله عليهم بأن ذلك كفر وجاهلية، وعد تلك الأمور جميعها صفرًا في ميزان الإسلام.

واليوم بيننا من يقولون: إنهم مسلمون، لكنهم يستنكرون وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية، وفي مجتمعنا الواسع أناس حاصلون على الشهادات العليا من بعض جامعات العالم، يتساءلون أولاً في استنكار: ما للإسلام وسلوكنا الاجتماعي؟! وما للإسلام واختلاط الرجال مع النساء على الشواطئ والمنتزهات؟! وما للإسلام وتعليم العلوم الطبيعية؟! وما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟! وما للإسلام والمرأة وقيادتها للسيارة واختلاطها بالرجال وحريتها الشخصية في سفرها دون محرم وتصرفها في شؤونها؟! وما للإسلام أن تمارس المرأة الرياضة؟! وما المانع من إقامة دوري للقدم للفتيات؟!

وهم يتساءلون ثانيًا -بل بشدة وعنف-: لماذا يتدخل الدين في الاقتصاد؟! ولماذا تتصل المعاملات بالاعتقاد؟! أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد؟! ويقولون: ما للدين والمعاملات الربوية؟! وما للدين والسياسة والحكم؟! بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد أفسدته، فلا يذهبنّ بنا الترفع كثيرًا عن أهل مدْيَن في تلك الجاهلية الأولى حين قالوا لنبي الله شعيب: (أَصَلَوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) [هود: 87].

والعالم اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة وسلوك الشخص في الحياة والمعاملات المادية، تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود، وبعد أن استُهلِكت هذه الألفاظ، أضافت الجاهلية اليوم وصفهم بالتطرف! أليس هذا هو بعينه ما يريده رافعوا شعار: "الدين لله والوطن للجميع" من أدعياء الإسلام من العلمانيين الذين أفسدوا البلاد والعباد؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون.

أيها المسلمون: إن من عادة المنافقين من علمانيين وحداثيين وغيرهم من المنتسبين لهذا الدين، عدم الإنكار الصريح والواضح، وعدم إظهار العداء السافر للإسلام، وهم يتخذون سلاح التلبيس والتمويه للالتفاف حول المسلمين لحين المعركة الفاصلة، حتى يفاجئوا المسلمين على حين غرة، من أجل ذلك يرفع هؤلاء الزنادقة من العلمانيين وأشباههم شعارات، يحاولون بها خداع أكبر عدد ممكن من المسلمين، وتهدئة قلوب القلة التي قد تفضحهم وتشوش عليهم وتكشفهم للناس، هؤلاء الذين يرفعون شعارات العلمانية، بينما يسعون بواقعهم العملي لاقتلاع الإسلام من جذوره ولكن رويدًا رويدًا، فهم يحرصون على كل طريق يوصل لوسائل الإعلام.

أيها المسلمون: إن العلمانية التي ولدت وترعرعت في أحضان الجاهلية، لهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا ريب ولا التباس، ولكن الخفاء والريب والالتباس، إنما يحدث عمدًا من دعاة العلمانية أنفسهم؛ لأنهم يعلمون أنه لا حياة ولا اهتداء بجاهليتهم في بلاد المسلمين إلا من خلال راياتهم الزائفة، التي تخفي حقيقة أمرهم وباطن دعوتهم عن المسلمين، وتُلبس على العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل وتحقرهم ضد إخوانهم الصادقين الداعين بحقيقة هذا الصراع، المنبهين إلى خطرهم الداهم على الدين وأهله، ومن هؤلاء يجب التوقي والحذر، وأن لا يغتر المسلمون بكونهم من بني جلدتهم ويتكلمون بلغتهم، فلقد جاء في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟! قال: "نعم"، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟! قال: "نعم، وفيه دَخَن"، قلت: وما دَخَنه؟! قال: "قوم يَسْتَنون بغير سنتي، ويَهْدُون بغير هديِي، تعرف منهم وتنكر"، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟! قال: "نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها"، فقلت: يا رسول الله: صفهم لنا، قال: "نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا". وفي لفظ لمسلم: "وسيقوم فيهم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في جُثمان إنس". ولقد صدق الله: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مّنَ الْمَقْبُوحِين(42)﴾ [القصص: 42].

وقد يسأل أحدكم ويقول: كيف يكون بعض المسلمين دعاة على أبواب جهنم؟! الجواب: هو أنهم كذلك ببثهم الفساد والانحراف، وإشاعة الفاحشة في مثل صور فاتنة، أو مقالات تخدش الحياء، من خلال الصحافة مثلاً، أو في مجال التعليم، بزرع المبادئ الهدامة بين الطلاب، من خلال كوادر غير أمينة، أو من خلال منظري التطوير التعليمي في سائر البقاع، فيما يقدمونه من الحد والتقليص لما يقوي صبغة الله في نفوس الطلاب، أو التقليل من شأن العلوم الدينية، في مقابل الحرص الدؤوب على تكثيف ما عداها.

ويكون الإفساد ببث أفكار تسيء إلى الإسلام وأهله، وتحارب الدعوة إليه، وتزدري الدعاة وتسخر منهم، وتنادي بعزل دين الناس عن دنياهم، ويكونون دعاة على أبواب جهنم إذا روجوا لنشر الفاحشة في مجتمعات المسلمين عن طريق المرأة، بمحاولة إخراجها من بيتها، والزج بها في كل ميدان، وبالتهوين من شأن الحجاب، وتجرئتها على كسر الحياء، عن طريق إقناعها بضرورة المحافظة على نفسها بالرياضة، كالسباحة وكرة القدم، بل المطالبة بفتح أندية نسائية.

أيها المسلمون: ومن عرف دين الإسلام حقيقة بأصوله وأركانه ثم رأى وقرأ وتابع بعض ما ينشر ويعرض في كثير من وسائل الإعلام، تبين لـه حقيقة هذه الفكرة الضالة، ومناهج أهلها، وشدة خطرهم على المسلمين.

إن العلمانية ليست كما يشاع مجرد فصل الدين عن الدولة، بل هي في نهاية الأمر وحقيقته فصل الدين عن الحياة، ليتصرف الحاكمون بأمرهم على إشاعة الباطل وتدجين الأمة على قبول الهوان والتبعية للأعداء، بتقنين الباطل، وحكم الطاغوت.

ومن العجب أن يتحدث نفر من المنسوبين للإسلام بكل سذاجة وبِوَرَعٍ بارد حينما يدعوننا أن لا نتحدث عن خطر العلمانية، وأن لا نفضح العلمانيين، وأن لا نتهمهم بالخروج والضلال المبين. كيف لا نتهمهم بكل ذلك وأهدافهم أصبحت مكشوفة للجميع؟! وكيف لا نفضحهم وأفكارهم الرافضة للدين بانت لكل ذي عينين؟! وكيف لا نحذر الناس من شرورهم وتلك هي مواقفهم واضحة من الإسلام وعلمائه ودعاته والمنتسبين إليه؟! أين الحرية الشخصية التي تضمنتها دساتيرهم إياها ذرًّا للرماد في العيون؟! أين حقوق الشعوب في تعلم ما تدين به؟! بل أين مظاهر الإسلام حتى الشكلية منها؟!

لقد أكد كثير من علماء الإسلام أن حقيقة العلمانية هي رفض للدين أن يكون حاكمًا، بتنحية الإسلام عن الحياة في كل الأمور، والآن تقاتل العلمانية لمنع تحكيم الإسلام وعودته من جديد حتى بالوسائل الديمقراطية التي يتشدقون بها ليل نهار. فما هو موقف علماء المسلمين منها؟!

يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز –رحمه الله-: "وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله، أو أن هدي غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن من هدي الرسول، فهو كافر، كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج عن شريعة محمد أو تحكيم غيرها، فهو كافر ضال".

ويضيف –سماحته- في فتوى أخرى: "فالذين يتحاكمون إلى شريعة غير شريعة الله، ويرون أن ذلك جائز لهم، أو أن ذلك أولى من التحاكم إلى شريعة الله، لا شك أنهم يخرجون بذلك عن دائرة الإسلام، ويكونون بذلك كفارًا ظالمين فاسقين". انتهى.

هذه هي العلمانية، وهذا هو حكمها، فهي تلك التصورات القاصرة والمشبوهة عن الإسلام وأحكامه وأصوله، وهذا ما يدين به رموز العلمانية في كل بلد، مهما تظاهروا زورًا بخلاف ذلك. فاعرفوا العلمانية حق المعرفة، واكفروا بها لمصادمتها لدينكم، ولمعارضتها لأصول عقيدتكم، والواقع أكبر دليل على ذلك، فإلى متى نتجاهل ذلك ونؤول الحقائق؟! ثم حتى متى يتمسك بعض السذج بذلك الورع البارد الذي ينم عن مدى الجهل بالإسلام نفسه؟! إننا نذكّر الجميع بأن تلك هي مواقف العلمانية والعلمانيين من الإسلام، وذلك هو حكم الإسلام فيهم: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما﴾ [النساء: 65].

فاتقوا اللَّه -أيها المسلمون- وتأملوا فيما تقرؤون وما تسمعون، وساهموا بأمر الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر جهدكم واستطاعتكم، وقد رزقكم اللَّه جهدًا واستطاعة، واشكروا نعمة اللَّه عليكم، واحمد‏وه على ما أولاكم من النعم، وحافظوا على الصلوات المكتوبات، وأطيعوا ربكم في جميع الأوقات.

نسأل الله أن يحفظ على المسلمين دينهم، وأن يكفيهم شر الأشرار، وكيد الفجار، وأن يرزقهم اليقظة من إفساد المفسدين ونفاق المنافقين. وأقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولعموم المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه…

أما بعد:

أيها المسلمون: وعبر تاريخ المسلمين الطويل، حدثت بدع، وظهرت فرق، ونشأت طوائف، ضلت عن سواء السبيل في مسائل الإيمان والأسماء والصفات والقضاء والقدر وغيرها، كبدع الرافضة والقدرية والخوارج والمرجئة والصوفية وغيرها، كلما ظهرت بدعة وأطلت فتنة تصدى لها الأئمة وعلماء السنة بالرد والبيان، وهكذا في كل عصر ومصر، وإلى يومنا هذا لا تزال طوائف تقوم، وبدع تنتشر، لا تقل أثرًا ولا تهون خطرًا من تلك التي قاومها أئمة السنة وعلماء السلف.

أيها المسلمون: إننا ومنذ بداية الاستعمار الأجنبي على العالم الإسلامي والعربي نبتت هذه النبتة الغريبة في العالم الإسلامي، هذه النبتة، بل هذه النحلة والبدعة، أصلها ومنشؤها وملابسات نشأتها في الغرب النصراني، ثم صُدّرت إلينا، وبالأصح استوردها بعض المحسوبين على الأمة ضمن ما أُستورد من طرود الفكر والثقافة، فالعلمانية كانت في الأصل ثورة علمية في وجه قيود وأغلال الكنيسة في أوروبا التي حُرمت العلم والتفكير والإنتاج والإبداع، ثم طرقت أبواب العالم الإسلامي على يد المستغربين من الرواد الأوائل، الذين قبلوا -وبإعجاب شديد- جميع ما لدى الحضارة الغربية من خيرها وشرها، وحلوها ومرها.

الحركة العلمانية في بلاد المسلمين ذات توجهين:

الأول: حركة علمانية إلحادية، جاحدة بالرب، منكرة لوجوده، رافضة لكل تعاليم الإسلام في كل شيء، وهذا القسم من الوضوح والظهور بحيث لا يخفى على أحد حكم أصحابها وقلة خطرهم، لا لقلة جرمهم وانحراف مقالتهم وتأثيرها، وإنما لانكشافهم ومعرفة الناس لهم بالإلحاد المطلق.

القسم الثاني: علمانية لا تنكر وجود الله، بل تؤمن به، لكنها تنكر حكم الدين في شؤون الدنيا، وتنادي بعزل الدين عن الدنيا، وهذه هي الصورة الأكثر انتشارًا والأشد خطرًا والأسوأ أثرًا، من حيث الإضلال والتلبيس على عامة المسلمين؛ لأنهم لا يرونهم يجحدون الصلاة ولا الزكاة ولا الحج، بل ربما يرونهم يفعلون هذه العبادات معهم.

والحاصل أن العلمانية بصورتيها السابقتين نوع من أنواع الردة بلا شك ولا ارتياب، ومن آمن بها وتبناها بعدما علم دين الإسلام وتبين له الحق وقامت عليه الحجة وزالت عنه الموانع، فقد خرج من دين الإسلام؛ ذلك لأن الإسلام دين كامل، ومنهج واضح، لا يقبل ولا يجيز أن يشاركه منهج آخر، قال تعالى مبينًا وجوب الدخول في كل مناهج الإسلام وتشريعاته: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّة﴾ [البقرة: 208]، وقال سبحانه مبينًا كفر من أخذ بعضًا من مناهج الإسلام ورفض الآخر: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون﴾ [البقرة: 85]، والأدلة الشرعية كثيرة جدًّا في بيان ضلال من أنكر شيئًا معلومًا بالضرورة من دين الإسلام.

أيها المسلمون: إن المنافقين يزداد كيدهم في الأزمات والأحداث؛ فقد أدبر وتولى ابن أبيّ قائد المنافقين في غزوة أحد بطائفة من الجيش، والرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته أحوج ما كانوا إلى الاجتماع والقوة.

وكذلك هم اليوم، والغرب النصراني رمانا جميعًا عن قوس واحدة باسم محاربة الإرهاب، ثم نرى بعض أوليائهم من العلمانيين يساعدونهم في الداخل بالتهجم على الإسلام، تحت راية محاربة التطرف والذب عن حقيقة الإسلام في زعمهم، التي تعني إسلامًا وديعًا لا يعرف قوةً ولا شجاعةً ولا جهادًا ولا أمرًا ولا ونهيًا، هذه سماحة الإسلام في نظرهم، فهو لا ينكر عليهم باطلهم، ولا يتدخل في أمور الحياة. إنهم في حد زعمهم يحاربون التطرف والإرهاب، وهم حقيقة يمارسون أسوأ أنواع الإرهاب -وهو الإرهاب الفكري وإرهاب المصطلحات- بتمكنهم من كثير من وسائل الإعلام، فيطرحون ما شاؤوا وكيف شاؤوا.

أيها المسلمون: إن المعارك والجبهات التي تفتحها الفرق الضالة والمنتسبة لهذا الدين ضد أهل السنة كثيرة، وأخطرها دائمًا جبهة الرفض الباطنية، والتي تغذيها وتدعمها القوى والمعسكرات الجاهلية العالمية لتدمير أهل السنة، باعتبارهم الخطر الحقيقي والفعّال ضد هذه القوى.

إن هذه المعارك وهذه القوى يجب أن لا يتساهل ولا يتهاون معها أهل السنة، فإن حصونهم لا زالت مهددة من داخلها، وإن القوى العلمانية المتكتلة ضدهم من الداخل، والتي تصارعهم في معارك خفية حينًا وظاهرة أحيانًا أخرى، هي التي تمثل الآن جوهر الصراع القائم بين الإسلام والجاهلية في العصر الحديث، وإن أخطر مراحل هذا الصراع هي مرحلة تعرية هذه القوى العلمانية القبيحة، وفضحها أمام المسلمين؛ ليستبين لكل مسلم سبيل المجرمين الذين يحاولون خداعهم وتلبيس أمر دينهم عليهم وهم لا يعلمون.

اللهم …  

بطاقة المادة

المؤلف ناصر بن محمد الأحمد
القسم خطب الجمعة
النوع مقروء
اللغة العربية