التقوى في آيات الحج

عناصر الخطبة

  1. تكرار الأمر بالتقوى في ثنايا آيات الحج   
  2. فضل العمل الصالح في العشر الأول من ذي الحجة   
  3. دلالات ذكر التقوى في الآيات التي تناولت الحج والعمرة
اقتباس

هَذَا كُلُّهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي آيَاتِ المَنَاسِكِ، أَمْرٌ بِالتَّقْوَى وَحَثٌّ عَلَيْهَا فِي التَّوْطِئَةِ لِبَيَانِ المَنَاسِكِ الَّتِي زَخَرَتْ بِذِكْرِ التَّقْوَى؛ فَفِي الْأَمْرِ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِهِمَا، وَبَيَانِ فِدْيَةِ الْأَذَى، وَهَدْيِ التَّمَتُّعِ، خُتِمَتِ الْآيَةُ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: 196] وَفِي التَّذْكِيرِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى تَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ وَالشَّعَائِرِ، أَوِ التَّلَبُّسِ بِالْإِثْمِ فِي الْحَرَمِ وَالمَشَاعِرِ؛ فَإِنَّ المَعْصِيَةَ فِي الْحَرَمِ لَيْسَتْ كَالمَعْصِيَةِ فِي غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ الْعَاصِيَ الْمُحْرِمَ أَعْظَمُ إِثْمًا مِنَ الْعَاصِي الْحَلَالِ

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ؛ شَرَعَ المَنَاسِكَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهَدَاهُمْ لِمَا يُنْجِيهِمْ يَوْمَ المَعَادِ، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَعْطَانَا وَأَوْلَانَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ المَوَاسِمَ لِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَفَتَحَ فِيهَا أَبْوَابَ الْخَيْرِ لِخَلْقِهِ؛ فَمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا رَبِحَ كَثِيرًا بِعَمَلٍ قَلِيلٍ، وَمَنْ فَرَّطَ فِيهَا فَرَّطَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَيَّنَ لِأُمَّتِهِ أَنَّ عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ هِيَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَمَوْسِمُهَا أَكْبَرُ المَوَاسِمِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ مِثْلِهِ فِي غَيْرِهَا "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ" يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ" صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا حَظَّكُمْ مِنْ هَذَا المَوْسِمِ الْكَرِيمِ، فَأَحْسِنُوا فِيهِ الْعَمَلَ، وَأَقْبِلُوا عَلَى اللهِ تَعَالَى بِقُلُوبِكُمْ، وَعَظِّمُوا حُرُمَاتِهِ ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج:30].

أَيُّهَا النَّاسُ: مَنْ مَرَّ فِي تِلَاوَتِهِ بِآيَاتِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَلْحَظُ تَكْثِيفَ ذِكْرِ التَّقْوَى فِي ثَنَايَاهَا، بِحَيْثُ لَا تُذْكَرُ آيَاتٌ فِيهَا ذِكْرٌ لِلْحَجِّ أَوْ لِلْحَرَمِ إِلَّا وَيَتَخَلَّلُهَا ذِكْرُ التَّقْوَى، وَالْأَمْرُ بِهَا.

وَالتَّقْوَى هِيَ اتِّقَاءُ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ.

وَلِلْحَجِّ مَوَاقِيتُ زَمَانِيَّةٌ، هِيَ أَهِلَّةُ الْحَجِّ، وَقَدْ خُتِمَتْ آيَتُهَا بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ أَيْ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنِ اتَّقَى ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 189] أَيْ: تَظْفَرُونَ بِمَطْلَبِكُمْ مِنَ الْبِرِّ؛ فَإِنَّ الْبِرَّ فِي اتِّبَاعِ الشَّرْعِ. فَفِي الْآيَةِ حَثٌّ لَنَا أَنْ نَجْعَلَ تَقْوَى اللهِ تَعَالَى شِعَارَنَا فِي كُلِّ مَا نَتَحَرَّاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ الْفَلَاحِ، وَمَنْ مِنَ النَّاسِ لَا يُرِيدُ الْفَلَاحَ؟!

وَلمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى رَدَّ الْعُدْوَانِ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَمَرَ بِالتَّقْوَى؛ لِأَنَّهَا تَعْصِمُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى المُعَاقَبَةِ بِالمِثْلِ، وَتَمْنَعُ صَاحِبَهَا الْوُقُوعَ فِي الظُّلْمِ ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 194]. وَفِي مَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُتَّقِينَ شَرَفٌ وَرِفْعَةٌ وَعِزٌّ وَقُوَّةٌ، فَهُوَ مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَهُوَ مَعَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِتَخْفِيفِ سَكَرَاتِ المَوْتِ عَلَيْهِمْ، وَنَجَاتِهِمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَبِرِضَاهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ، وَإِزْلَافِ الْجَنَّةِ لَهُمْ.

هَذَا كُلُّهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي آيَاتِ المَنَاسِكِ، أَمْرٌ بِالتَّقْوَى وَحَثٌّ عَلَيْهَا فِي التَّوْطِئَةِ لِبَيَانِ المَنَاسِكِ الَّتِي زَخَرَتْ بِذِكْرِ التَّقْوَى؛ فَفِي الْأَمْرِ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِهِمَا، وَبَيَانِ فِدْيَةِ الْأَذَى، وَهَدْيِ التَّمَتُّعِ، خُتِمَتِ الْآيَةُ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: 196] وَفِي التَّذْكِيرِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى تَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ وَالشَّعَائِرِ، أَوِ التَّلَبُّسِ بِالْإِثْمِ فِي الْحَرَمِ وَالمَشَاعِرِ؛ فَإِنَّ المَعْصِيَةَ فِي الْحَرَمِ لَيْسَتْ كَالمَعْصِيَةِ فِي غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ الْعَاصِيَ الْمُحْرِمَ أَعْظَمُ إِثْمًا مِنَ الْعَاصِي الْحَلَالِ.

ثُمَّ بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً وَفِي أَثْنَاءِ ذِكْرِ المَنَاسِكِ وَآدَابِهَا أَمْرٌ بِالتَّقْوَى مُكَرَّرٌ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ الْآيَةِ (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197]. فَالْحَجُّ سَفَرٌ وَانْتِقَالٌ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مَرْكُوبٍ وَزَادٍ فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالتَّزَوُّدِ لَهُ، وَبَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى؛ لِأَنَّهَا الزَّادُ الْحَقِيقِيُّ المُسْتَمِرُّ نَفْعُهُ لِصَاحِبِهِ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ. وَلَا يَعِي ذَلِكَ إِلَّا أَهْلُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ فَتَوَجَّهَ لَهُمُ الْخِطَابُ ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾.  

ثُمَّ بَعْدَهَا بِآيَةٍ آيَةٌ فِيهَا بَيَانُ دُعَاءِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ سُؤَالِ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201].

ثُمَّ بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً بَيَانٌ لِأَيَّامِ مِنًى مَخْتُومٌ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ فَمَنِ اتَّقَى اللهَ فِي كُلِّ شَيْءٍ نُفِيَ عَنْهُ الْحَرَجُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمَنِ اتَّقَاهُ فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، كَانَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [البقرة: 203]. فَمَنِ اتَّقَاهُ وَجَدَ جَزَاءَ التَّقْوَى عِنْدَهُ، وَمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ عَاقَبَهُ أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ، فَالْعِلْمُ بِالْجَزَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّوَاعِي لِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، فَلِهَذَا حَثَّ تَعَالَى عَلَى الْعِلْمِ بِهِ.

وَمِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إِلَى سُورَةِ المَائِدَةِ؛ فَفِي أَوَّلِهَا نَهْيٌ عَنِ اسْتِحْلَالِ الشَّعَائِرِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَأَمْرٌ بِالْعَدْلِ مَعَ الْخُصُومِ الَّذِينَ صَدُّوا المُؤْمِنِينَ عَنِ المَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِتُخْتَمَ الْآيَةُ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى فِي مَوْضِعَيْنِ ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].

ثُمَّ بَعْدَ بَيَانِ أَحْكَامِ صَيْدِ الْمُحْرِمِ وَجَزَائِهِ، خُتِمَتِ الْآيَاتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [المائدة: 96] وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَهَمِّيَّةِ التَّقْوَى أَنْ تُخْتَمَ آيَاتُ أَحْكَامِ الصَّيْدِ بِالْأَمْرِ بِهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ المَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ بَيَانٌ أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهَا أَهْلُ التَّقْوَى، لَا أَهْلُ الشِّرْكِ ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 34].

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَحْكَامِ مُعَاهَدَاتِ المُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ، تُخْتَمُ الْآيَةُ بِمَا فِيهِ حَثٌّ عَلَى التَّقْوَى وَتَرْغِيبٌ فِيهَا ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 7]. وَالْإِخْبَارُ عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُتَّقِينَ دَافِعٌ لِلُزُومِ التَّقْوَى؛ لِأَنَّ المُؤْمِنَ يَسْعَى لِنَيْلِ رِضَا اللهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ المَنَاسِكِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ حَدِيثٌ عَنِ الشَّعَائِرِ، وَبَيَانُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الشَّعَائِرِ تَحْقِيقُ التَّقْوَى، وَأَنَّ تَعْظِيمَهَا دَلِيلٌ عَلَى التَّقْوَى، وَالْحَجُّ كُلُّهُ شَعَائِرُ ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32] وَمِنَ الشَّعَائِرِ الْكُبْرَى يَوْمَ النَّحْرِ: إِنْهَارُ الدِّمَاءِ شُكْرًا للهِ تَعَالَى. وَالْإِخْلَاصُ فِي نَحْرِهَا طَرِيقٌ إِلَى التَّقْوَى ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الحج: 37].

وَفِي آيَاتِ صَدِّ المُشْرِكِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنِ المَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ، بَيَانُ مَا مَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْ لُزُومِ كَلِمَةِ التَّقْوَى، وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَفَى بِالتَّقْوَى شَرَفًا أَنْ يَكُوَن شِعَارُ التَّوْحِيدِ كَلِمَتُهَا، وَكَفَى بِالمُؤْمِنِ شَرَفًا أَنْ يَلْزَمَهَا، فَتَحْجِزُهُ عَمَّا يُنَاقِضُهَا أَوْ يُخِلُّ بِهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ [الفتح: 26].

فَكَانَتِ التَّقْوَى حَاضِرَةً فِي الْآيَاتِ الَّتِي تَنَاوَلَتْ مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَالْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ؛ لِيَلْزَمَ المُؤْمِنُ التَّقْوَى فِي كُلِّ أَحْيَانِهِ، وَخَاصَّةً فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَحَالِ التَّلَبُّسِ بِالْإِحْرَامِ.

جَعَلَنَا اللهُ تَعَالَى مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَوْجَبَ لَنَا بِهَا المَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ، وَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنَ المُسْلِمِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ….

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ فِي عَشْرٍ مُبَارَكَةٍ تَتَأَكَّدُ فِيهَا التَّقْوَى ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ [الحج: 27] وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ: "يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا".

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: تَكْثِيفُ ذِكْرِ التَّقْوَى فِي الْآيَاتِ الَّتِي تَنَاوَلَتْ مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ لَهُ دَلَالَاتٌ مُهِمَّةٌ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَفْطِنَ لَهَا وَيَتَأَمَّلَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ:

عِظَمُ المَعْصِيَةِ فِي الْحَرَمِ حَتَّى إِنَّ الْهَمَّ بِهَا فِيهِ عِقَابٌ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْبِقَاعِ ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: 25].

وَفِيهِ أَنَّ رِحْلَةَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِيهَا مِنَ الرَّهَقِ وَالمَشَقَّةِ وَالْحَرِّ وَالزِّحَامِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ وَالمَنْعِ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ مَا يُوَتِّرُ النُّفُوسَ، وَيُسَبِّبُ الضِّيقَ، وَهَذَا ابْتِلَاءٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ، وَرِيَاضَةٌ لَهُ عَلَى الصَّبْرِ، فَوَجَبَ عَلَى مُؤَدِّي النُّسُكِ أَنْ يَتَحَلَّى بِالْحِلْمِ وَالسَّكِينَةِ، وَيَجْتَنِبَ الْغَضَبَ وَالْحَمَاقَةَ، وَيَضْبِطَ لِسَانَهُ عَنِ السَّبِّ وَالشَّتْمِ وَالْقِيلِ وَالْقَالِ؛ فَرُبَّ غَضْبَةٍ أَذْهَبَتْ أَجْرَهُ، وَرُبَّ كَلِمَةٍ أَفْسَدَتْ نُسُكَهُ، وَلَيْسَ لِلهِ تَعَالَى حَاجَةٌ فِي تَعْذِيبِ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُ ابْتِلَاءٌ يَبْتَلِيهِمْ بِهِ.

وَفِي مَكَّةَ وَالمَشَاعِرِ يَخْتَلِطُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ بِسَبَبِ الزِّحَامِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي الْخِيَامِ، فَتَتَأَكَّدُ عِبَادَاتُ غَضِّ الْبَصَرِ، وَحِفْظِ السَّمْعِ، وَصَوْنِ اللِّسَانِ، مَعَ شِدَّةِ الِابْتِلَاءِ فِي تَوَفُّرِ دَوَاعِي إِطْلَاقِهَا، كَمَا ابْتُلِيَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَهُمْ حُرُمٌ بِالصَّيْدِ قَرِيبًا مِنْهُمْ مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فَصَبَرُوا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: 94].

وَبِهَذَا نَعْلَمُ أَنَّ التَّأْكِيدَ عَلَى التَّقْوَى فِي آيَاتِ الْحَجِّ وَالْحَرَمِ كَانَ لِتَذْكِيرِ قَارِئِ الْقُرْآنِ بِتَعْظِيمِ زَمَانِ الْحَجِّ وَمَكَانِهِ وَحَالِ التَّلَبُّسِ بِالنُّسُكِ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَقْتَضِي تَعْظِيمًا خَاصًّا فَكَيْفَ إِذَا اجْتَمَعَتْ كُلُّهَا؟!

فَلْنُعَظِّمْ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَيَّامِ بِلُزُومِ الطَّاعَاتِ، وَمُجَانَبَةِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَثْرَةِ التَّكْبِيرِ وَالذِّكْرِ. وَمَنْ كُتِبَ لَهُ الْحَجُّ فَلْيُعَظِّمْ حُرْمَةَ الْحَرَمِ وَحُرْمَةَ الْإِحْرَامِ، وَيُحَاسِبْ نَفْسَهُ عَلَى كُلِّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. و"مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ…