الكبر

عناصر الخطبة

  1. تعريف الكبر
  2. التكبر ينازع الله في صفته
  3. جزاء الكبر
  4. مسببات الكبر
  5. فرعون إمام المتكبرين
  6. أبو جهل مثال آخر للكبر
  7. تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم-
اقتباس

وهذه أيضًا صفة أهل السلطة الذين يقدمون السياسة التي يرونها على حكم الشرع إذا ما وجدوا أن في الشرع انتقاصًا لمراكـزهم أو مسًّا لعروشهم، كل هذه الأمور المخالفة منبتها الكبر والعلو في الأرض، وإن من الكبر إعجاب المرء بنفسه، فقد…

الخطبة الأولى:  

أيها الإخوة: جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر"، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس".

ففي هذا الحديث بيّن النبي -صلى الله عليه وسلـم- أن الكبر بطرُ الحق، وهو دفع الحق ورده، أي عدم قبول الحق. وغمط الناس أي احتقارهم وإذلالهم.

فالمتكبر يريد أن يعلو على الحق وعلى الله تعالى برد الشرع والدين، ورد آيات الله -عز وجل- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والمتكبر أيضًا يعلو على الناس ويسخر منهم ويحتقرهم ويزدريهم.

أيها الإخوة: إن الكبر برد الحق هو تمرد على العبودية وخروج عن الطاعة لله -عز وجل-؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر:60].

وقال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص:83]، فالجنة والفوز بها هي لمن لا يريد علوًا في الأرض ولا تكبرًا؛ قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "من الذين يريد العلو على الناس والفساد في الأرض؟! الملوك والرؤساء المفسدون، كفرعون وحزبه، وهؤلاء هم شرار الخلق، والذين يريدون الفساد فقط بلا علو هم السراق والمجرمون من سفلة الناس. وأما أهل الجنة فهم الذين لا يريدون علوًّا ولا فسادًا. جعلنا الله منهم.

أيها الإخوة: إن الكبر منازعة لصفة من صفات الله -عز وجل- كما جاء في الحديث، فهو سبحانه الجبار المتكبر، إن الله تعالى يقول: "إن العز إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما عذبتهُ".

وهذه المنازعة قد تسبب العقوبة في الدنيا قبل الآخرة؛ كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "بينما رجل يجرُّ إزاره من الخيلاء خُسف به، فهو يتجلجلُ في الأرض إلى يوم القيامة"، أي هو يغوص فيها والعياذ بالله، والجزاء من جنس العمل، وكذلك يوم القيامة سيكون جزاء المتكبرين بأن يحشروا "أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسقون من عصارة أهل النار: طينة الخبال"، هذا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- رواه الترمذي عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، فهذا جزاء التكبر، الذل والصغار والإهانة والاحتقار يوم القيامة والعياذ بالله.

أيها الإخوة: إن التكبر قد يؤدي إلى الحسد والحقد -والعياذ بالله- كما قال تعالى عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين تكبروا على دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم إلى الإسلام ولم يستجيبوا للحق: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [البقرة:105].

فهؤلاء الكفار أصبح مما يسوؤهم أن تنزل علينا الخيرات على المسلمين، حسدًا وحقـدًا وتكبرًا.

وأيضًا قـد يؤدي الكبر إلى حسد الأقران بعضهم لبعض، وخاصة من أهل العلم والدعاة، فقد يرى أحدهم أنه أوتي بيانًا وفصاحة، فهو خطيب مفوّه، أو أوتي قلمًا سيالاً، فيقول في نفسه: ما لي لا أُتبع، بينما فلان وفلان لهم طلاب وأتباع وكلمتهم مسموعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فيتحين الفرص للإيقاع بهؤلاء ويفرح بما يصيبهم من أذى، ويُعلن أن ما أصابهم ما كان إلا بسبب أنهم ابتعدوا عما يراه ويظنه حقًّا والعياذ بالله.

وهذه أيضًا صفة أهل البدع الذين يبتدعون في الدين ليعارضوا به ما ثبت في القرآن والسنة فيشتهروا بين الناس بما يحدثوه في الدين.

وهذه أيضًا صفة أهل السلطة الذين يقدمون السياسة التي يرونها على حكم الشرع إذا ما وجدوا أن في الشرع انتقاصًا لمراكـزهم أو مسًّا لعروشهم، كل هذه الأمور المخالفة منبتها الكبر والعلو في الأرض، وإن من الكبر إعجاب المرء بنفسه، فقد يصاب الإنسان العابد الزاهد بالإعجاب يرى أنه بلغ المنى وعمل ما لم يعمل غيره، فيكون قد وقع في ذنب عظيم من أعظم الذنوب كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو لم تكونوا تذنبون لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك: العجب".

فالمذنب يشعر بالتقصير والندم، وأما المعُجب بنفسه فقد وقع في الخطر المفضي إلى الخسران والعياذ بالله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

إن قدوة المتكبرين الذين يردون الحق ويحتقرون الناس هو فرعون مصر وفرعون مكة، أما فرعون مصر فحينما جاءه الحق من موسى -عليه وعلى نبينا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم-.

قال متكبرًا: وما رب العالمين؟! وقال للناس: أنا ربكم الأعلى. وجمع السحرة، فحينما آمنوا واتبعوا موسى قال عنهم: إن هُم إلا شرذمة قليلون، وهددهم بالقتل والتعذيب، لقد بلغ فرعون في تكبره -والعياذ بالله- احتقاره للخالق والمخلوقين؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(19)﴾ [الدخان: 17-19]، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ﴾، أي لا تستكبروا عن اتباع آياته والانقياد لحججه والإيمان ببراهينه.

وقد ضرب فرعون مثلاً في العجب بالرأي واتخاذ القرار الذي لا يرد ولا يعاب، بل يريد من أتباعه أن يستسلموا لرأيه، وأنه هو الرأي الرشيد، وأن توجيهاتـه لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فهو يقول كما قال الله عنه: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر:29]، ولم يتقبل النصح من الذي آمن من قومه، لقد تكبر وتجبر حتى أغرقه الله فأخذه أخذ عزيز مقتدر، وإن في سورة غافر بيان شاف كاف لما ذكرته هنا باختصار.

وأما فرعون مكة أبو جهل -عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين- فما هو إلا صورة مشابهة لسابقه المذكور؛ حيث استكبر ولم يؤمن ولم يتقبل الحق، وآذى النبي -صلى الله عليه وسلم- وآذى المسلمين، وقد هدّد بأن يدوس بقدمه على رقبة النبي -صلى الله عليه وسلم- لو رآه ساجدًا عند الكعبة، وحينما اقترب منه نكص على عقبيه وأخذ يتقى بيديه، فقيل له: ما لك؟! فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو دنـا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا".

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(13)﴾ [العلق:9-13]، ورغم ذلك لم يذعن للحق ولم يؤمن بالرسالة تكبرًا وعلوًّا، وكان فرعون هذه الأمة أبو جهل ومن معه من الأعوان والأتباع يستهزئون بالصالحين، بل إنهم استهزؤوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف:31]، احتقارًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم والله المحتقرون ومن سار على نهجهم واتبع خطواتهم.

أيها الإخوة: علينا بالتواضع وعدم التكبر، إن في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- من التواضع الجم ما لا يسع ذكره في خطبة واحدة، فهو -صلى الله عليه وسلم- مثال يحتذى في التواضع، في التواضع مع أصحابه، مع زوجاته، مع الضعفاء والأرامل والمساكين والصبيان، فهو -صلى الله عليه وسلم- لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمساكين، ويجيب دعوة المملوك أو المرأة حتى ولو كانت على خبز، وكان يحادث كل إنسان ببساطة ودون تكلف.

روي عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ فكلمه، فجعل ترعد فرائصهُ، أي ينتفض من الخوف، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هوّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة كـانت تأكل القديد".

لقد كان -صلى الله عليه وسلم- مثالاً يحتذى وأسوةً للمسلمين في لبسه وأكلـه وشربـه وصحوه ونومه وفي كل شؤونه السياسية والاجتماعية، إن في سيرة النبي -صلى الله عليـه وسلم- وفي سيرة خلفائه الراشدين المهديين أمثلة وشواهد على تقبل الزعيم والقائد لرأي أي شخص من رعيته، ففي غزوة الخندق أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- برأي سلمان وحفر الخندق، وفي بدر أخذ برأي الحباب بن المنذر في أن يجعل مياه بدر خلفه لئلا يستفيد منها المشركون.

وكان يقول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "أشيروا عليّ، أشيروا عليّ".

وهذه امرأة ترد على عمر، فيصوب قولها ويعلن تراجعه عن رأيه -رضي الله عنه- كما جاء في السير في القصة المعروفة والمشهورة عن تحديد المهور.

بل إنه يُروى أن رجلاً قال له: لو زللت لقومناك بسيوفنا، فقال عمر -رضي الله عنه-: "الحمد لله الذي جعل من يقوّم عمر بسيفه".

أيها الإخوة: إن التواضع رفعة وعزة، والتكبر ذل وهوان وعمى في البصيرة وسوء في الرأي وطبع على القلب، كما قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر:35]، وسيكون مصير المتكبر الازدياد في الطغيان والابتعاد عن الحق كما قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ [الأعراف:146]، ويكون مصيره الخيبة والخسران والعياذ بالله، وخاب كل جبار عنيد.

اللهـم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبـه أجمعين، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.  

بطاقة المادة

المؤلف مرزوق بن سالم الغامدي
القسم خطب الجمعة
النوع مقروء
اللغة العربية