موعظة عن موت الفجأة, والتحذير من أكل الربا, وعدم المساهمة فيه

عناصر الخطبة

  1. دلالات كثرة موت الفجأة
  2. العاقل من يستعد للموت قبل نزوله
  3. الغفلة مرض العصر
  4. من أعظم أسباب السعادة في الدنيا والآخرة
  5. صور من حرص السالف الصالح على كسب الحلال
  6. من أعظم السحت: أكل الربا
  7. تحريم المساهمة في البنوك الربوية
اقتباس

من أنت أيها المسكين, إنما أنتَ أيَّامٌ إذا ذهب يومٌ ذهب بعضُك, فكلَّما مضى يومٌ فقد دَنَا أجلُك. فالعاقل ينبغي له أنْ يكون مُستعدًّا لأيٍّ لحظةٍ يأتيه فيه ملكُ الموت. ولو علم أحدُنا بأنَّه ميِّتٌ غدًا, فهل سَيَظل مُقاطعًا لأخيه المسلم؟!, هل سَيَسْتَمِرّ على مُشاهدة أو سماع الحرام؟! هل ستفوتُه صلاةُ الفجر مع الجماعة؟!, لا والله. يا سبحان الله, كم كان الواحد منهم يُخبر ويتحدث في المجالس, فما هي إلا سُويعاتٌ حتى أصبح هو خَبَرًا يُتحدَّث عنه في المجالس؟!

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيراً.

أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين, واعلموا أنَّه حدث أمرٌ في الآونة الأخيرة أفزع العقلاء, وحيَّر الأطباء, وأقضَّ مضاجع الصالحين والأتقياء, إنه موت الفجأة, وهو الموت الذي يأتي دون سببٍ ظاهرٍ واضح, كمرضٍ أو كِبَرٍ ونحوِه, وإنما يأتي دون مُقدِّماتٍ, وهو ما يُسمَّى في الطب: بالسكتة القلبية.

وقد وردَ أن موت الفجأة مِن علامات اقتراب الساعة، فقد ورد في الحديث الذي رواه الطبرانيُّ وصححه الألباني: "مِنِ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ مَوْتُ الْفُجَاءَةِ"، وهو خيرٌ للمؤمن الْمُتقي، ونقمةٌ وشرٌّ على الكافر والعاصي.

فإذا كان الموت قد يأتي بغتةً وفجأة: فعلى العاقل أنْ يستعدّ لهذا اليوم, فالموت الذي أخذ أصحابنا وهم في كامل صحتهم وشبابهم, فجأةً ودون أيِّ إنذارٍ وتنبيه, غيرُ بعيدٍ أنْ يأتينا نحن أيضًا.

كم همُ الذين بَنَوا بيوتَهم فلم يُكْمِلُوها؟! وكم همُ الذي بَنَوها فلم تَطُلْ إقامتُهم فيها؟! وكم همُ الذي جمعوا الأموالَ فلمَّا كثرتْ ماتوا وتركوها؟!

هو الموت ما منه ملاذ ومهرب *** متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب

نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها ***وعلَّ الردى عما نرجيه أقرب

ونبني القصور المشمخرات في العلا *** وفي علمنا أنا نموت وتخرب

ويا سبحان الله, كم كان الواحد منهم يُخبر ويتحدث في المجالس, فما هي إلا سُويعاتٌ حتى أصبح هو خَبَرًا يُتحدَّث عنه في المجالس؟!

حكم المنية في البرية جاري *** ما هذه الدنيا بدار قرار

بينا يُرى الإنسان فيها مخبِراً *** حتى يُرى خبراً من الأخبار

هذا الموت العجيب الغريب, لا يُفرّق بين كبير وصغير, ولا صحيح ومريض.

تُؤَمِّلُ في الدُّنْيا طويلاً ولا تدري *** إِذا جنَّ لَيْلٌ هَلْ تَعْيشُ إلى الفَجْرِ

فكم مِنْ صَحِيْحٍ مَاتَ مِنْ غَير عِلَّة *** وكم من عليل عاش دهراً إلى دهر

وَكَمْ مِنْ فَتىً يُمْسِي وَيُصْبِحُ آمِنا *** وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهُ وَهْوَ لاَ يَدْرِي

من أنت أيها المسكين, إنما أنتَ أيَّامٌ إذا ذهب يومٌ ذهب بعضُك, فكلَّما مضى يومٌ فقد دَنَا أجلُك.

فالعاقل ينبغي له أنْ يكون مُستعدًّا لأيٍّ لحظةٍ يأتيه فيه ملكُ الموت.

ولو علم أحدُنا بأنَّه ميِّتٌ غدًا, فهل سَيَظل مُقاطعًا لأخيه المسلم؟!, هل سَيَسْتَمِرّ على مُشاهدة أو سماع الحرام؟! هل ستفوتُه صلاةُ الفجر مع الجماعة؟!, لا والله.

ولو أنّه تَمَّ الإعلانُ عن مُكافأةٍ بقيمةِ خمسينَ ألفَ ريالٍ كلَّ سنة, مُقابل عمل يسيرٍ تعمله كلَّ يوم, كرياضةٍ وقراءةٍ ونحوها, لَمَا رأيتَ أحدًا يتخلَّفُ عن ذلك, ولعدَدَتَّ المتكاسلَ رديءَ العقلِ سفيهَ الرَّأْي.

وها هو ربنا -جل وعلا-, أعطانا مُكافأةً لا يتصورها عقل, وهي جنةٌ عرضها السموات والأرض, جنةٌ يتَّكِئِ أهلُها: ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا(21)﴾ [الإنسان: 15 – 21].

جنةٌ يُقال لأهلها: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(71)﴾ [ الزخرف :70- 71].

كلُّ هذا النعيمِ المقيم, والجزاءِ العظيم, لماذا؟ ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ(73)﴾ [الزخرف: 72- 73].

إنَّ كلَّ هذا العطاءِ الذي لا يُوصف, الذي ليس بأموالٍ تأتي وتزول, بل نعيمٌ يدوم فلا ينقطعُ ولا يحول, مُقابلَ أعمالٍ تنفعنا في دنيانا قبل أُخرانا, فليستْ أعمالاً نَجْهل حكمتها ونفعها, فالصلاة وما فيها من راحةِ البال, وتحريكِ أعضاءِ الجسم, وبذلُ المال في الزكاة وما فيه من لذة الإنفاق والعطاء, حتى إنَّ الكفار يبذلون كثيرًا من أموالهم لتحصيل هذه اللذة, والامتناعُ عن الأكل في الصوم وهو أمرٌ لا تُنْكر فوائدُه, والحجُّ وما فيه من المنافع البدنية والتجارية ونحوِها.

ناهيك عن الامتناع عن الزنا واللوطِ والخمر وغيرها من المحرمات, وما فيها من الأمراض النفسية والعضوية.

هذه شروطٌ وضعها الربُّ الكريمُ الرحيمُ بعباده, فمن قام بها فجزاؤه دارُ السرور والحبور غدًا..

واعمل لدارٍ غدًا رضوانُ خازنُها *** والجارُ أحمدُ والرحمنُ ناشيها

قصورُها ذهبٌ والمسكُ طينتُها *** والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها

أنهارها لبنٌ مَحْضٌ ومِن عسلٍ *** والخمرُ يجري رحيقًا في مجاريها

والطيرُ تجري على الأغصان عاكفةً *** تُسبّحُ اللّه جهراً في مغانيها

اللهم إنا نسألك الجنة ونعيمها, ونسألك حُسن الخاتمة, والثبات حتى الممات, إنك على كل شيءٍ قدير.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين, ما أحلّ ولا حرَّم إلا لمصلحةِ الدنيا والدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه, وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: معاشر المسلمين, إنَّ من أعظم أسباب السعادة في الدنيا والآخرة, والعيشِ الرضيّ والهنيّ: أنْ يتحرى المسلم الأكل الحلال, وأنْ يجتنب كلَّ مالٍ جاء عن طريق الحرام والظلم والربا.

قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97].

وأكل الحلال والبحثُ عنه: من أعظم الأعمال الصالحة, قال سعيد بن المسيِّب -رحمه الله-: "لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يعطي منه حقه، ويصل به رحمه, ويكف به وجهه عن الناس".

حتى إنه -رحمه الله تعالى- مات وترك ألفين أو ثلاثة آلاف دينار وقال: "ما تركتها إلا لأصون بها ديني وحسبي".

وكان سلفنا الصالح -رحمهم الله تعالى-, يحرصون على جمع المال من حلِّه, قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "وأكثرُ الصحابة كسبوا الأموال وخلَّفوها, ولم يُنكر أحدٌ منهم على أحد.. بل متى صحَّ القصدُ فجمعُه أفضلُ بلا خلافٍ عند العلماء". ا.ه

وهم لا يعدُّون ذلك من حبّ الدنيا والركونِ إليها, قال الحسن البصري -رحمه الله-: "ليس من حبك الدنيا طلبكُ ما يُصْلِحُكَ فيها".

فلْنحرص – معاشر المسلمين- أنْ نأكل ونلبس من الحلال الطيب, فهو من أعظم أسباب البركة والتوفيق, فاللهُ –تعالى- طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا, وآكل الحرام مِن أبعد الناس إجابةً لدعائه, ومن أمحق الناس بركةً في ماله. وكلُّ جسم نبت من سحت فالنار أولى به, ومن أعظم السحت: الربا.

وهو محرمٌ بالقرآن والسنة وإجماع المسلمين، بل هو من كبائر الذنوب؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 275] ، ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: 278، 279].

وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في كتابه «إبطال التحليل»، أنه جاء من الوعيد في الربا ما لم يأت في أي ذنب آخر سوى الشرك والكفر.

وهو مُجْمَعٌ على تحريمه، ولهذا من أنكر تحريمه ممن عاش في بيئة مسلمة فإنه مرتد؛ لأن هذا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها.

وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ, مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-, فِي حِدِيثِ الرُّؤْيَا التِي رَآهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-, وقد رأى فيها مشاهد مُفزعةٍ ، وَمِنْهَا عُقُوبَةُ آكِلِ الرِّبَا ، حَيْثُ قَالَ: "فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا" قَالَ: "قُلْتُ لَهُمَا : مَا هَذَانِ ؟" قَالَ: "قَالاَ لِي: انْطَلِقِ انْطَلِق"، ثُمَّ فِي نِهَايَةِ الْرُّؤيا قَالَ لَهُ الْمَلَكَانِ: "وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا".

فمن يعلم أنَّ هذا هو مصيره وعذابه يوم القيامة, هل سيُقدم على أكل ريالٍ واحدٍ من ربا؟ من كان في قلبه ذرّةٌ من إيمانٍ فلن يُقدم على ذلك أبدًا.

وقد ثبت في صحيح مسلمٍ , أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ»، وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ».

بل هو من السبع الموبقات, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، وذكر منهن: «أَكْلُ الرِّبَا».

فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنَّه قد طُرح في هذه الأيامِ مُساهمةٌ من أحد البنوك, وقد أجمع علماؤُنا على تحريم ذلك, وذلك لما فيه من التعامل الصريح بالربا.

نسأل الله تعالى أنْ يُجَنِّبَنَا أكلَ الربا, وأنْ يُوفقنا للكسب الحلال الطيب, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.