تحقيق التقوى

عناصر الخطبة

  1. منزلة التقوى وأهميتها
  2. المقصود بالتقوى وماهيتها
  3. بعض فضائل التقوى وثمراتها
  4. بعض معالم التقوى وعلاماتها
اقتباس

التقوى كلمة جامعة، تنتظم الدين كله فعلا للواجبات، وتركاً للمنهيات. فبالتقوى يتقي العبد أسباب سخط الله، ويحرض على ما يرضي الله. سواءٌ عنده حال السر والعلانية، فلا سرَّ على الله، ولا…

الخطبة الأولى:

الحمد لله عَمَر بتقواه قلوبَ المتقين، وجعل التقوى سبيل نجاة الأولين والآخرين.

وأشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.

فاتقوا -عباد الله- فإن تقوى الله وحده هي وصيته للأولين والآخرين؛ كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ﴾ [النساء: 131].

وإنَّ الأمر بالتقوى هو أول شيء يأمر به المرسلون أقوامَهم، قال الله -تعالى- عن أولهم نوح -صلى الله عليه وسلم-: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 106].

وقال عن هود: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 124].

وقال عن صالح: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 142].

وقال عن لوط وشعيب -عليهما السلام-: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 161].

وقال عن شعيب: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 177].

وقال تعالى عن إلياس: ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ(124)﴾ [الصافات: 123 -124].

وكان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يوصي بها كثيراً في خطبه ومواعظه، أوصى بها مرة أبا ذر -رضي لله عنه- فقال له: "اتق الله حيث ما كنت" ومثله لمعاذ بن جبل -رضي الله عنهما-.

وجاء رجل فقال: يا رسول الله إني أريد السفر فأوصني؟ قال: "عليك بتقوى الله" [رواه الترمذي وحسنه].

بل إنَّ الله -عز وجل- أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أمراً خاصا بالتقوى، فقال له: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب: 1].

كل هذا -يا عباد الله- يدلك على أهمية التقوى.

ولا غرابة فإن التقوى كلمة جامعة، تنتظم الدين كله فعلا للواجبات، وتركاً للمنهيات.

فبالتقوى يتقي العبد أسباب سخط الله، ويحرض على ما يرضي الله.

سواءٌ عنده حال السر والعلانية، فلا سرَّ على الله، ولا خافي عليه.

إذا ما خلوت الدهر يوماً *** فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب

ولا تحسـبنَّ الله يغفل ساعـة *** ولا أن ما يخفى عليه يغيـب

إنَّ التقوى صلاح الجسد والروح، ونور البصر والبصيرة، يحصل بها العبد معية الله: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128].

﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 123].

وينال بها الأجر في أخراه: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [القلم: 34].

كتب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إلى أحد أصحابه فقال: "أوصيك بتقوى الله، فإنها أكرم ما أسررت، وأزين ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت".

وإن كلمة التقوى وإن كانت طرقت مسامعنا مراراً، وقرأناها في سنة نبينا وكتاب ربنا كثيرًا، فما زلنا نفقدها في كثيرٍ من مواقفنا، ونغيبها في بعض تصرفاتنا، فيضعف أو يعدم جانب التقوى فيها.

وإنَّ شأنها عظيم فهي التي منعت ذلكم الرجلُ من أن يزنيَ بابنتِ عمه لما قالت له: "اتق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه"، فقام عنها وهي أحبُّ الناس إليه، خوفاً من الله، واتقاءً لغضبه.

وإن تقوى الله هي التي منعت بشير بن سعد من ظلم أولاده وتفريقه بينهم في العطية، لما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم".

وإن تقوى الله هي التي تحمل العبد على أن يعفو عن المسيء من قرابته، ويتغاضى عن التقصير من ذوي رحمه، ويتجاهل سوء العشرة من زوجه؛ لأن الله -تعالى- يقول: ﴿فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾ [الأنفال: 1].

وإنَّ تقوى الله تجعل العبد رقيباً على نفسه فلا يتكلم بما يكون عليه عبئًا يوم القيامة؛ لأنَّ الله -تعالى- يقول: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ(71)﴾ [الأحزاب: 70 – 7]، فقوله صادق سديد، وعمله صالح رشيد، ليس في قوله ولا فعله غشٌّ ولا خيانة، ولا كذبٌ ولا مداهنة: ﴿اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119] قادته التقوى إلى كلِّ فضيلة، ونأت به عن كلِّ رذيلة.

فهو إن كان قريباً لك فنعمى القريب هو، قريب متقي، وإن كان جاراً لك في بيتٍ أو محلٍ فقد أمنته على مالك، وحرماتك؛ لأنه متقي يخاف الله، وإن عاملته ببيع أو شراء أو أخذ أو عطاء كنت منه على اطمئنان وثقة وبيان، فهذه حال المتقين، وحال الناس معهم.

ولمَّا كان هذا هو سبيلَ المؤمنين السابقين من الصحابة والتابعين بارك الله في أعمالهم وأقوالهم وأرزاقهم، وفتح عليهم من خيرات الأرض والسموات ودفع عنهم الشرور والكربات: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ(3)﴾ [الطلاق: 2 – 3].

وأمَّا ما عند الله للمتقين فقد وعد الله المتقين بالنجاة من الهلاك والحَزَن، فقال تعالى: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الزمر: 61].

وقد وعدهم الله بتكفير السيئات، ورفعة الدرجات: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ [الطلاق: 5].

وقال تعالى في بيان ما أعدَّه للمتقين: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾ [الزمر: 20].

وقال تعالى: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 15].

فتزوَّدوا -عباد الله- من تقوى الله فإنها خير زاد، قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197].

أقول قولي هذا…

الخطبة الثانية:

إن الحمد لله…

إن من تقوى الله -عز وجل- أن يقول الإنسان فيما لا يعلم: الله أعلم.

ومن تقوى الله أيضا: ألا يقول كل ما يعلم, فما كل ما يعلم يقال، والإنسان العاقل ميزانه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فليقل خيراً أو ليصمت".

وحيث إن الأمة الإسلامية تمر بامتحان صعب، وسنواتها المتقاربة هي سنوات عصيبة، وتمحيص لها عظيم بإذن الله.

فالواجب على الإنسان أن ينظر متى يتكلم ومتى يسكت؟ ومتى يبرر؟ ومتى يعتذر؟

وليس باللازم أن يكون للإنسان قول في كل قضية، ورأي في كل نازلة؟!

فانتبه أيها المتكئ على أريكته، يسامر أصحابه ويحادثهم في جلسة برية أو بيتية!

وأنتم أيها المتجادلون في وسائل الاتصال انتبه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟".

ألا وإن مما يتأكد فيه: الحذر والتحذير الأمورَ العامةَ، والقضايا الصعبة، والتحركات السياسية، والتحولات الدولية. فبالله عليك، كيف ترى أحداث هذا الشهر في العام الماضي وفي عامنا هذا؟! بل حديث الناس في هذا الأسبوع غير حديثهم في الأسبوع الذي قبله؟!

تغيرات جذرية، يغلب بعضها بعضاً، وينسي بعضها بعضاَ، يخفق المتمرسون في التنبؤ بها أو في أكثرها!

وصدق الله العظيم: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ [النور: 44].

﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29].

وسنة الله في المَجريات: أن منها المفرح الذي يكاد يطير غبطة به، ويكاد يعانق السحاب مستبشرا، متهللاً بحصوله!

ومنها: الأمور المحزنة التي قد يصيب بعض النفوس على إثرها إحباط وقنوط، حتى يكاد أن يقول ما حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ".

وفي رواية أخرى: "فَهُوَ أَهْلَكَهُمْ".

ولهذا وذلك أمر الله -تعالى- برد الأمور العامة التي لها آثارها العاجلة والآجلة إلى من كلامه يقدم و يؤخر، ويدفع ويرفع، وأن يصدر عن رأيه ويؤخذ بتوجيهه ويسمع: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: 83].

قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ …" إلى أن قال: "لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل، فلا تأمره نفسه إلا بالشر. فإذا لجأ إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك، لطف به ربه ووفقه لكل خير، وعصمه من الشيطان الرجيم".

يأتي التذكير في هذا التوجيه الرباني والتواصي به، وكثير من الغيورين المحبين لبلدهم، من ذوي الوطنية الصادقة، والولاء الناصح يسعون في المحافظة على أمن هذا البلد، واستبقاء ما ميزها الله به وفضلها على كثير من بلاد حولها.

والأمل يملأ القلوب، والفأل لم يغادر النفوس ما دامت القضية متفقاً عليها بين الراعي والرعية، والمسؤول والمواطن، وإنما الخلاف في كيفية الوصول إلى المقصود وتحقيق الوسيلة التي تكون أحفظ للأمن، وأصون للأعراض، وأقطع لدابر المفسدين في الداخل والخارج الذين يريدون أن تميل بلاد التوحيد والإيمان أن تميل ميلاً عظيماً!

اللهم وفق ولي أمرنا لكل خير.

اللهم انصر به كتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم اجعله مفتاحاً لكل خير، مغلاقاً لكل شر.

اللهم وفقه ونائبيه وأعوانه، اللهم وفقهم وارزقهم الرأي السديد، والقول الحميد.

اللهم وفق علماءنا ودعاتتا والمصلحين فينا، والآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، واجعلنا متعاونين على البر والتقوى.

اللهم لا تشمت بنا الحاسدين، ولا تفرح علينا المتربصين.

اللهم هييء لأمة محمد من أمرها رشدا…