تحفة الأصحاب والإخوان في تبرئة أبي هريرة من الكذب والبهتان

عناصر الخطبة

  1. اسم أبي هريرة -رضي الله عنه- ونسبه وبعض صفاته
  2. فقر أبي هريرة -رضي الله عنه- وشدة جوعه
  3. بر أبي هريرة -رضي الله عنه- بأمه وقصة إسلامها
  4. دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة -رضي الله عنه-
  5. حرص أبي هريرة -رضي الله عنه- على طلب العلم وزهده في الدنيا
  6. مرافقة أبي هريرة -رضي الله عنه- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وملازمته له
  7. أدب أبي هريرة -رضي الله عنه- مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
  8. مرض أبي هريرة -رضي الله عنه- وزيارة النبي -صلى الله عليه وسلم- له ورقيته له
  9. حب أبي هريرة -رضي الله عنه- لآل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-
  10. عبادة أبي هريرة -رضي الله عنه-وتواضعه
  11. ثناء الصحابة على أبي هريرة -رضي الله عنه- وبعض شهاداتهم فيه
  12. أقسام الناس تجاه أبي هريرة -رضي الله عنه- وأحاديثه
  13. سبب بكاء أبي هريرة -رضي الله عنه- عند مرض موته
  14. وفاة أبي هريرة -رضي الله عنه- ودفنه
اقتباس

إذا سألتم عن عبادته رضي الله عنه، فإنه هو يجيبكم، قال أبو هريرة: “إني لأستغفر الله وأتوبُ إليه كلَّ يوم اثنى عشر ألف مرة، وذلك على قدر ديني”. وهذا أحد أحفاده، نعيم بن المحرر بن أبي هريرة، عن جده أبي هريرة، أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة، فلا ينام حتى يسبح به. وعن أبي عثمان النهدي قال: “تضيفت أبا هريرة سبع ليال، فقلت له: كيف تصوم؟ أو كيف صيامك يا أبا هريرة؟ قال: …

الخطبة الأولى:

الحمد لله …

أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-؛ هو عبد الرحمن بن صخر على قول الأكثر من العلماء، وكناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي هريرة، وثبت في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "أبا هر".

وثبت أنه قال له: "يا أبا هريرة".

واسم أمِّه: "ميمونة بنت صالح بن الحارث" أسلمت وماتت مسلمة [البداية والنهاية].

أبو هريرة الدوسي، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

من صفاته رضي الله تعالى عنه أنه: "آدم، بعيد ما بين المنكبين، ذو ضفيرتين، أفرق الثنيتين".

وقد "كان أبو هريرة، لينا، أبيض، وكان يخضب، وكان يلبس ثوبين ممشقين" [الإصابة في تمييز الصحابة].

لقد كان، كما قال عن نفسه: "أجيرًا لبسرةَ بنتِ غزوان بعقبة رجلي، وطعام بطني، وكان القوم إذا ركبوا سقتُ بهم، وإذا نزلوا خدمتُهم" [حلية الأولياء].

قال أبو هريرة: "وقدمت المدينة مهاجرا، فصليت الصبح وراء سباع -بنِ عُرْفُطَة-، فقرأ في السجدة الأولى؛ سورة: "مريم" وفي الثانية: "ويل للمطففين".

إنه "شهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر". "بعدما فرغوا من القتال".

وقد ثبت في صحيح البخاري: أنه ضلَّ غلامٌ له، في الليلة التي اجتمع في صبيحتها برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه جعل ينشد:

يا ليلة من طولِها وعنائها *** على أنها من دارة الكفر نجت

فلما قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "هذا غلامك؟" فقال: "هو حرٌّ لوجه الله -عز وجل-" [البداية والنهاية].

قال الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني -رحمه الله تعالى-: "عبد الرحمن بن صخر أبو هريرة الدوسي؛ هو أشهر من سكن الصُّفَّة، واستوطنها طول عمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم ينتقل عنها، وكان عَرِيفَ -أي مسئول- من سكن الصفة من القاطنين، ومن نزلها من الطارقين، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يَجمعَ أهلَ الصُّفَّةِ لطعامٍ حضره؛ تقدم لأبي هريرة ليدعوَهم ويجمعَهم، لمعرفته بهم، وبمنازلهم ومراتبهم.

كان أحدَ أعلامِ الفقراءِ والمساكين، صبَر على الفقْر الشديد، حتى أفضى به إلى الظِّلِ المديد، أعرضَ عن غرس الأشجار، وجَرْيِ الأنهار، وعن مخالطةِ الأغنياء والتجار، فارق المنقطعَ المحدود، منتظراً للمنتَفَع به من تُحَفِ المعبود -سبحانه-، زَهِد في لُبس اللين والحرير، فعوِّض من حِكَم الفَطِن الخبير" [حلية الأولياء].

يقول أبو هريرة: "والله إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدُّ الحجرَ على بطني من الجوع، ولقد قَعَدتُ يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليستتبعني -أي ليقول اتبعني للطعام ونحوه- فلم يفعل، ثم مرَّ عمرُ فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل، فمر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فعرف ما في وجهي وما في نفسي".

فقال: "يا أبا هريرة!" فقلت: "لبيك يا رسول الله!" فقال: "إلحق" فتبعته فدخل، فاستأذنت فأذن لي، فوجد قدحاً فيه لبن، فقال: "من أين لكم هذا اللبن؟" فقالوا: "أهداه لنا فلان، أو آلُ فلان" فقال: "أبا هر!" قلت: "لبيك يا رسول الله!" قال: "انطلق إلى أهل الصفة" قال: "وأهل الصفة أضياف الإسلام، لم يأووا إلى أهل ولا مال، إذا جاءت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- هديةٌ؛ أصاب منها، وبعث إليهم منها، وإذا جاءته صدقة؛ أرسل بها إليهم، ولم يصب منها" قال: "فأحزنني ذلك، وكنت أرجو أن أصيب من اللبن شربة، أتقوى بها بقية يومي وليلتي" فقلت: "وأنا الرسول، فإذا جاء القوم؛ فأنا الذي أعطيهم، فما يبقى لي من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بُدٌّ، فانطلقت فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فأخذوا، مجالسهم من البيت".

ثم قال: "أبا هر! خذ فأعطهم".

فأخذت القدح، فجعلت أعطيهم، فيأخذ الرجل القدح، فيشرب حتى يروى، ثم يرد القدح، وأعطيه الآخر، فيشرب حتى يروى، ثم يرد القدح، حتى أتيت إلى آخرهم، ودفعته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذ القدح فوضعه في يده، وقد بقي فيه فضلة، ثم رفع رأسه فنظر إلي وتبسم، فقال: "أبا هر!" فقلت: "لبيك يا رسول الله!" قال: "بقيت أنا وأنت" فقلت: "صدقت يا رسول الله" فقال: "فاقعد فاشرب". قال: "فقعدت فشربت" ثم قال لي: "اشرب" فشربت فما زال يقول لي: "اشرب واشرب". حتى قلت: "والذي بعثك بالحق! ما أجد لها في مسلكا" قال: "ناولني القدح" فرددت إليه القدح، فشرب منه الفضلة.

واسمع ما كان يلاقيه رضي الله عنه من شدة الجوع، عن أبي هريرة قال: "لقد رأيتني أصرع بين منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين حجرة عائشة، فيقول الناس: إنه لمجنون، وما بي إلا الجوع" [صفة الصفوة].

من شهر محرم سنة "7 هجرية" تاريخ غزوة خيبر، إلى شهر ربيع الأول سنة "11 هجرية" تاريخ التحاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى؛ ثلاث سنوات وقرابة شهرين، وهي المدة التي لازم خلالها أبو هريرة -رضي الله عنه- نبي الله -صلى الله عليه وسلم-.

أما قصة إسلام أمه: "ميمونة بنت صُفَيح بن الحارث" كما يرويها هو، قال أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-: "والله! ما خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني؛ إلا أحبَّني" قلت -والقائل أحد تلامذته-: "وما علمك بذلك يا أبا هريرة؟" قال: "إن أمي كانت امرأة مشركة، وإني كنت أدعوها إلى الإسلام وكانت تأبى عليَّ، فدعوتها يوما؛ فأسمعتني في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أكره، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام وكانت تأبى عليَّ، وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اهد أم أبي هريرة" فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما أتيت الباب؛ إذا هو مجاف، وسمعت خضخضة الماء، وسمعت خشف رجْل-يعني وقعها-، فقالت: "يا أبا هريرة كما أنت!" ثم فتحت الباب، وقد لبست درعها، وعجلت عن خمارها. فقالت: "إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-" فرجعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبكي من الفرح، كما بكيت من الحزن، فقلت: "يا رسول الله! أبشر فقد استجاب الله دعاءك، وقد هدى أمَّ أبي هريرة" فقلت: "يا رسول الله! ادع الله أن يحببَّني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحبِّبَهم إلينا" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم حبِّب عُبَيدَك هذا وأمَّه إلى عبادك المؤمنين، وحبِّبْهم إليهما". فما من خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني أو يرى أمي؛ إلا وهو يحبني" [المسند مسند أبي هريرة، ج3 ص203، وأخرجه مسلم، ح 158].

فإن أبا هريرة مُحبَّب إلى جميع الناس، وقد شهر الله ذكره بما قدره أن يكون من روايته من إيراد هذا الخبر عنه، على رؤوس الناس في الجوامع المتعددة في سائر الأقاليم في الإنصات يوم الجمعة بين يدي الخطبة والإمام على المنبر.

وهذا من تقدير الله العزيز العليم، ومحبة الناس له رضي الله عنه [البداية والنهاية].

أبو هريرة -رضي الله عنه-: دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- له، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله إني أسمع منك حديثا كثيرا فأنساه، فقال: "ابسط رداءك" فبسطته، ثم قال لي: "ضمه !" فضممته فما نسيت حديثا بعده" [أخرجه البخاري، ح 3648 والترمذي في المناقب، ح 3835].

روى أحمد أن أبا هريرة قال: "حضرت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجلسا، فقال: "من بسط رداءه حتى أقضي مقالتي، ثم يقبضه إليه، فلن ينسى شيئا سمعه مني؟!" فبسطت بردة علي حتى قضى مقالته، ثم قبضتها إلي، فوالذي نفسي بيده! ما نسيت شيء سمعته منه بعد ذلك" [مسند أحمد، ج 2 / 240)]. [البداية والنهاية].

لقد كان حريصا على طلب العلم، فقد ورد عنه رضي الله تعالى عنه: أنه قال: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن أحداً لا يسألني عن هذا الحديث أوَّلَ منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة؛ من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" [رواه البخاري، في كتاب العلم، باب (33)، وأعاده في الرقاق، باب (51)].

وعندما عرضت عليه الغنائم رفضها وطلب العلم، فقد ورد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "ألا تسألني مِن هذه الغنائم؟" قلت: "أسالك أن تعلمَني مما علمك الله" قال: "فنـزع نَمِرةً على ظهري، وبسطها بيني وبينه، فحدثني حتى إذا استوعبت حديثه؛ قال: "اجمعها فصيرها إليك". فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني" [الإصابة في تمييز الصحابة].

أبو هريرة -رضي الله عنه- في خدمة رسول الله وملازمته له، فإذا نزل السوق كان معه، وإذا انصرف معه، وإذا عاد مريضا عاده معه [انظر: المسند، ج3 ص442)].

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلب منه أشياء فيأتيه بها، قال له: "ابغني أحجارا أستنقض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة" [أخرجه البخاري].

وقد وُكِّل بزكاة رمضان كما في [البخاري].

ومن أدب أبي هريرة -رضي الله عنه- مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنه إذا كان على جنابة يبتعد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يغتسل، كما ورد [المسند، ج3 ص 505)].

رسول الله يعود أبا هريرة -رضي الله عنه-؛ في مرضه ويرقيه، قال رضي الله عنه: "دخل عليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا أشتكي، فقال: "ألا أعلِّمك؟" ألا أَرقيك برقيةٍ رقاني بها جبريل -عليه السلام-؟" قلت: بأبي وأمي! قال: "بسم الله أرقيك والله يشفيك، من كل داء يؤذيك، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد". "من كل داء فيك" [المسند، ج3 ص454)].

حبُّ أبي هريرة -رضي الله عنه- لآل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، عن عمير بن إسحاق قال: كنت مع الحسن بن علي فلقينا أبو هريرة، فقال: أرني أقبّل منك حيث رأيت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يُقبل. قال: فقال بالقميصة، قال: "فقبّل سرّته" [المسند، ج3 ص63)].

فإذا سألتم عن عبادته رضي الله عنه، فإنه هو يجيبكم، قال أبو هريرة: "إني لأستغفر الله وأتوبُ إليه كلَّ يوم اثنى عشر ألف مرة، وذلك على قدر ديني".

وهذا أحد أحفاده، نعيم بن المحرر بن أبي هريرة، عن جده أبي هريرة، أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة، فلا ينام حتى يسبح به.

وعن أبي عثمان النهدي قال: "تضيفت أبا هريرة سبع ليال، فقلت له: كيف تصوم؟ أو كيف صيامك يا أبا هريرة؟ قال: "أما أنا فأصوم أول الشهر ثلاثاً، فإن حدث لي حدث؛ كان لي أجر شهري" [حلية الأولياء].

ومن تواضعه: كان يكون مروان على المدينة، فإذا خرج منها استخلف أبا هريرة… فيركب حماراً قد شدَّ عليه، … برذعة، وفي رأسه خلية من ليف، فيسير فيلقى الرجل، فيقول: الطريق قد جاء الأمير [الطبقات الكبرى].

أما زواجه، فكان من "بسرة بنت غزوان التي كان أبو هريرة أجيرها، ثم تزوجها؛ هي أخت عتبة بن غزوان المازني الصحابي المشهور أمير البصرة، … وكانت قد استأجرته في العهد النبوي، ثم تزوجها بعد ذلك، لما كان مروان يستخلفه في إمرة المدينة" [الإصابة في تمييز الصحابة].

لقد قال عن نفسه: "نشأت يتيماً، وهاجرت مسكيناً، وكنت أجيراً لبسرة بنت غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، فكنت أخدم إذا نزلوا، وأحدو -أي أنشد- إذا ركبوا فزوجنيها الله، فالحمد لله الذي جعل الدين قواماً، وجعل أبا هريرة إماماً" [الطبقات الكبرى].

وأنجب أبو هريرة -رضي الله عنه- محررًا وبنتا، التي قال لها عندما طالبته أن تتحلى بالذهب: "لا تلبسي الذهب؛ فإني أخاف عليك اللهب" [حلية الأولياء].

ابنته هذه، زوّجَها سعيدَ بن المسيب [أعلام الموقعين، ج1 ص18 )].

الخطبة الثانية:

والآن، ما الذي دعاه للإكثار من الحديث؛ على قِلِّة زمن المرافقة للنبي -صلى الله عليه وسلم-؟!

والجواب: فيما رواه أحمد بسنده عن أبي هريرة قال: "إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واللهُ الموعد، لأني كنت امرأً مسكينا، أصحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق في الأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فحضرت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً مجلساً، فقال: "من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه إليه فلن ينسى شيءً سمعه مني" فبسطت بُردةً علي، حتى قضى مقالته، ثم قبضتها إليَّ، فوالذي نفسي بيده! ما نسيت شيء سمعته منه بعد ذلك" [البداية والنهاية].

وعن أبي هريرة أنه قال: "لولا آية في البقرة ما حدثتكم بحديث أبدا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة: 159] لكن الموعد الله".

وعن أبي هريرة أنه كان يقول: "حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم" [الطبقات الكبرى].

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به؛ هو الفتن والملاحم، وما وقع بين الناس من الحروب والقتال وما سيقع، التي لو أخبر بها قبل كونها؛ لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه، وردوا ما أخبر به من الحق، كما قال: "لو أخبرتكم أنكم تقتلون إمامكم، وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدقنموني" [البداية والنهاية].

وقد جاء أن عمر منعه من الحديث، ثم أذن له بعد ذلك في الحديث، فعن أبي هريرة قال: "بلغ عمر حديثي، فأرسل إليَّ فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت فلان؟ قال: قلت: نعم! وقد علمتُ لما تسألُني عن ذلك؟ قال: ولم سألتُك؟ قلت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يومئذ: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" قال: "أما إذاً، فاذهب فحدث!" [البداية والنهاية].

عن عائشة: أنها دعت أبا هريرة فقالت له: "يا أبا هريرة! ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنك تحدث بها عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ هل سمعت إلا ما سمعنا؟ وهل رأيت إلا ما رأينا؟" قال: "يا أمَّاه! إنه كان يشغلُك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المرآةُ والمُكْحُلَة، والتصنع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإني والله ما كان يشغلني عنه شيء" [أخرجه الحاكم في المستدرك، حديث (6160)].

وهذا تعريف عام بأبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، عن الوليد بن رباح قال: سمعت أبا هريرة يقول لمروان: "والله ما أنت بوالٍ، وإن الولي لغيرك فدعْه" يعني حين أرادوا يدفنون الحسن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، "ولكنك تدخل فيما لا يعنيك، إنما تريد بها إرضاء من هو غائب عنك" -يعني معاوية- قال: فأقبل عليه مروان مغضباً، فقال: "يا أبا هريرة! إن الناس قد قالوا: إنك أكثرت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. الحديث…

وإنما قَدمْتَ قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَسير، فقال أبو هريرة: "نعم! قدمت ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر سنة سبع، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات، أقمت معه حتى توفي أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه، وأنا والله! يومئذ مقِلٌّ، وأصلي خلفه، وأحج وأغزو معه، فكنت -والله أعلمَ- الناس بحديثه، لقد والله! سبقني قوم بصحبته، والهجرةِ إليه من قريش والأنصار، وكانوا يعرفون لزومي له، فيسألوني عن حديثه، منهم عمرُ وعثمانُ وعليٌّ، وطلحةُ والزبيرُ، فلا والله! ما يخفى عليَّ كلُّ حديثٍ كان بالمدينة، وكلُّ من أحبَّ اللهَ ورسولَه، أو كلُّ من كانت له منـزلة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكلُّ صاحبٍ له، وكان صاحبُه في الغار، وغيره؛ قد أخرجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يساكنَه" -يعرِّض بأبي مروان الحكم بن العاص- ثم قال أبو هريرة "ليسألْني أبو عبد الملك عن هذا وأشباهه؛ فإنه يجد عندي منه علماً جماًّ ومقالا" قال: فوالله! ما زال مروان يقصر عن أبي هريرة ويتقيه بعد ذلك، ويخافُه ويخافُ جوابَه [البداية والنهاية].

وهذه شهادات بعض الصحابة -رضي الله عنهم- فيه:

عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أبو هريرة وعاء العلم" [المستدرك، حديث (6159)].

عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رجل لابن عمر: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال ابن عمر: "أعيذك بالله أن تكون في شك مما يجيء به، ولكنه اجْتَرَأ وجَبُنَّا" [المستدرك، حديث (6165)].

وقال ابن عمر: "يا أبا هريرة! كنتَ ألزمَنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعلمنا بحديثه" [المستدرك، حديث (6167)].

عن أنس بن مالك قال طلحة: "والله ما يُشك أنه سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوماً أغنياء؛ لنا بيوت وأهلون، كنا نأتي نبي الله -صلى الله عليه وسلم- طرفي النهار، ثم نرجع، وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- مسكينا لا مال له، ولا أهل ولا ولد، إنما كانت يدُه مع يدِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان يدور معه حيث ما دار، ولا يُُشك أنه قد علم ما لم نعلم، وسمع ما لم نسمع، ولم يتهمه أحد منا أنٌه تقوٌل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل" [المستدرك، حديث (6172)].

واختبره مروان بن الحكم، فقد دعا أبا هريرة وأقعده خلف السرير، وجعل مروان يسأل وجعلت -أي أبو الزعيزعة كاتب مروان- أكتب عنه، حتى إذا كان عند رأس الحول؛ دعا به، وأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا أخر [البداية والنهاية].

إن أبا هريرة -رضي الله عنه- "من أحفظ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن بأفضلهم" [البداية والنهاية].

وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة، والعبادة والزهادة، والعمل الصالح؛ على جانب عظيم.

هكذا كان في بيته: "كان أبو هريرة يقوم ثلث الليل، وامرأته ثلثه، وابنته ثلثه، يقوم هذا ثم يوقظ هذا هذا".

وقال عكرمة: "كان أبو هريرة يسبح كل ليلة ثنتي عشرة ألف تسبيحة، يقول: "أسبح على قدر ديني".

عن ميمون بن أبي ميسرة قال: كانت لأبي هريرة صيحتان في كل يوم، أول النهار صيحة يقول: "ذهب الليل وجاء النهار، وعرض آل فرعون على النار" وإذا كان العشي يقول: "ذهب النهار وجاء الليل، وعرض آل فرعون على النار" فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار [البداية والنهاية].

وقال الإمام أحمد بن حنبل: "ستة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثروا الرواية عنه وعمَّروا: أبو هريرة وابن عمر، وعائشة وجابر بن عبد الله، وابن عباس وأنس، وأبو هريرة أكثرهم حديثا وحمل عنه الثقات" [ذكره د/ نور الدين عتر في "منهج النقد في علم الحديث، ص124)].

إنه رضي الله عنه لم يكن يكتب، ولكن كان يحفظ ويتعهد الحديث، فكان يقول: "ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمر، فإنه كان يكتب بيده ويعيه قلبه، وكنت أعيه بقلبي ولا أكتب بيدي".

واستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب عنه، فأذن له" [المسند، ج3 ص368)].

إنه استفاد من ليله، فقد قال: "إني أجزِّئُ الليل ثلاثة أجزاء: فجزء لقراءة القرآن، وجزء أنام فيه، وجزء أتذكر فيه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" [البداية والنهاية].

من يرد أخبار أبي هريرة -رضي الله عنه-؟

والجواب: عند شيخ الحاكم أبي بكر النيسابوري قال: "وإنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره؛ من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار: إما معطل جهمي يسمع أخباره، التي يرونها خلاف مذهبهم، الذي هو كفر، فيشتمون أبا هريرة، ويرمونه بما الله -تعالى- قد نزهه عنه، تمويها على الرعاء والسفل، أن أخباره لاتثبت بها الحجة. وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام، إذا سمع أخبار أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلاف مذهبهم، الذي هو ضلال؛ لم يجد حيلة في دفع أخباره بحجة وبرهان، كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة. أو قدري اعتزل الإسلام وأهلَه، وكفَّر أهل الإسلام، الذين يتبعون الأقدار الماضية، التي قدرها الله -تعالى- وقضاها، قبل كسب العبد لها، إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة قد رواها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في إثبات القدر؛ لم يجد بحجة يريد صحة مقالته، التي هي كفر وشرك؛ كانت حجة عند نفسه أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها، أو جاهل يتعاطى الفقه ويطلبه في غير مظانه، إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه وأخباره تقليدا بلا حجة ولا برهان، تكلم في أبي هريرة ودفع أخباره، التي تخالف مذهبه، ويحتج بأخباره على مخالفه إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه" [المستدرك، ج3 ص587 بعد الحديث 6176)].

أبو هريرة -رضي الله عنه-، روى عنه من الصحابة -رضي الله عنهم- ثمانية وعشرون رجلا" [المستدرك، ج3 ص588)].

أبو هريرة -رضي الله عنه-: من روى عنه من التا بعين، قال البخاري -رحمه الله روى عنه-يعني أبا هريرة- نحو الثمانمائة من أهل العلم، وكان أحفظ من روى الحديث في عصره" [الإصابة].

أبو هريرة -رضي الله عنه- جاء عنه من الحديث (5374)، اتفق الشيخان منها على (325) وانفرد البخاري ب (93) ومسلم ب (189).

أبو هريرة -رضي الله عنه- "بكى في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "أما إنه لا أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي على بعد سفري، وقلة زادي، وإني أصبحت في صعود مهبط على جنة أو نار، لا أدري إلى أيهما يؤخذ بي" [صفة الصفوة، لابن الجوزي].

وأخرج أحمد والنسائي بسند صحيح عن عبد الرحمن بن مهران عن أبي هريرة: أنه قال حين حضره الموت: "لا تضربوا علي فسطاساً، ولا تتبعوني بمجمرة، وأسرعوا بي".

وهو القائل: "إذا مت فلا تنوحوا علي" [الإصابة في تمييز الصحابة].

إنه توفي سنة تسع وخمسين 59 عن ثمان وسبعين سنة.

قال الواقدي: "وهو الذي صلى على عائشة -رضي الله عنها- في رمضان، ثم توفي بعدها".

وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان نائب المدينة، وفي القوم ابن عمر وأبو سعيد وخلق من الصحابة وغيرهم.

وكان ذلك عند صلاة العصر، وكانت وفاته بداره بالعقيق، فحُمل إلى المدينة، فصُلي عليه، ثم دُفن بالبقيع رحمه الله ورضي عنه.

وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاة أبي هريرة، فكتب إليه معاوية: أن أنظر ورثته، فأحسن إليهم، واصرف إليهم عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، واعمل إليهم معروفا [البداية والنهاية].

رضي الله عن أبي هريرة، وعاء العلم، وذاكرة الحديث، وراوية الإسلام، وجزاه الله عن أمة عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- خير الجزاء وأوفاه.