سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- (67) غزوة خيبر -1

عناصر الخطبة

  1. أهمية مدارسة السيرة النبوية
  2. غزوة فاصلة بين الحق والباطل
  3. خطورة دور المنافقين
  4. حقد اليهود على المسلمين
  5. صور من المواجهات الحاسمة في خيبر.
اقتباس

والذي دعاه للخروج؟ أنه -صلى الله عليه وسلم- بعدما وقَّع وثيقة الأمان مع قريش في الحديبية، ظلَّت الأفاعي اليهودية تتجمع في خيبر، تدبر وتخطط وتتحين الفرص؛ لتأليب المشركين على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى أصحابه، ولا عجب! فلقد ألَّبُوا الأحزاب يوم الخندق، وحرضوا يهود بني قريظة على نقض عهدهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم تحالفوا…

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أفضل صلاة وأزكى تسليم.

أما بعد: معاشر المؤمنين! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالسعيد من راقب الله والسعيد من أحسن تعامله مع ربه، واتبع هدي نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ فالمسلم العاقل يتحرى سلامة المنهج، وسلامة المنهج باتباع هدي القرآن والسنة، وما أحوجنا في واقعنا لتتبع سيرة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، والوقوف على دروسها وعبرها.

وهذه الخطبة السابعة والستون من سلسلة خطب السيرة النبوية وواقعنا المعاصر. وحديثنا عن غزوة فاصلة بين الحق والباطل، أظهر الله فيها نبيه على اليهود والمنافقين؛ رغم قلة العتاد والمقاتلين، كما وعد الله -سبحانه وتعالى-: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ)[البقرة: 249]، فقد أخبر أهل السير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- “قَدِمَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْحَجّةِ تَمَامَ سَنَةَ سِتّ، فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيّةَ ذِي الْحَجّةِ وَالْمُحَرّمِ، ثم خَرَجَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ، وَيُقَالُ: خَرَجَ لِهِلَالِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ إلَى خَيْبَرَ” (مغازي الواقدي 2/634).

وخيبر مدينة كبيرة ذات حصون، ومزارع، بينها وبين المدينة ثلاثة أيام. (انظر: مستعذب الإخبار بأطيب الأخبار أبو مدين الفاسي ص286).

والذي دعاه للخروج؟ أنه -صلى الله عليه وسلم- بعدما وقَّع وثيقة الأمان مع قريش في الحديبية، ظلَّت الأفاعي اليهودية تتجمع في خيبر، تدبر وتخطط وتتحين الفرص؛ لتأليب المشركين على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى أصحابه، ولا عجب! فلقد ألَّبُوا الأحزاب يوم الخندق، وحرضوا يهود بني قريظة على نقض عهدهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم تحالفوا مع غطفان ضد المسلمين، وبصفة عامة صارت خيبر مركزًا للتجمعات اليهودية المناوئة، ففيها حطَّ كبار اليهود من بني النضير رحالهم أمثال: حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَسَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ. (انظر: جوامع السيرة للقرطبي ص145).

فكان لا بد من التصدي لهذا الخطر المحدق بالمسلمين؛ لذلك “أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَصْحَابَهُ بِالتّهَيّؤِ لِلْغَزْوِ” (مغازي الواقدي 634)، وما إن تم الإعلان إذ تدافع إليه الأعراب والمتخلفون عن الحديبية من كل حدب وصوب، يريدون الغزو معه؛ بغية الحصول على الغنائم والمكاسب المادية، أعلنوها صريحة فقالوا: “نَخْرُجُ مَعَك إلَى خَيْبَرَ، إنّهَا رِيفُ الْحِجَازِ طَعَامًا وَوَدَكًا (دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه) وَأَمْوَالًا” (مغازي الواقدي 2/634).

لكنه -صلى الله عليه وسلم- أدرك ما عند هؤلاء من مفاهيم مغلوطة، إذ لم يُبعث -صلى الله عليه وسلم- جابيًا؛ وإنما بُعث هاديًا، فعلى الفور أصدر قراره بمنعهم من الخروج، وقال لهم: “لَا تَخْرُجُوا مَعِي إلّا رَاغِبِينَ فِي الْجِهَادِ، فَأَمّا الْغَنِيمَةُ فَلَا” (مغازي الواقدي 2/634).

ثم قام -صلى الله عليه وسلم- بتمحيص الصفوف، فلم يخرج معه إلا من بايعوه على الموت في سبيل الله، فكانوا ألفًا وأربعمائة رجل ممن خرجوا معه إلى الحديبية. (انظر: جوامع السيرة للقرطبي ص170).

وقبل خروج الجيش بقيادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كُثرت أقاويل المنافقين لتثبيط همم المجاهدين، يقول أحدهم: “مَا أَمْنَعَ وَاَللهِ خَيْبَرَ مِنْكُمْ! لَوْ رَأَيْتُمْ خَيْبَرَ وَحُصُونَهَا وَرِجَالَهَا لَرَجَعْتُمْ قَبْلَ أَنْ تَصَلوا إلَيْهِمْ، حُصُونٌ شَامِخَاتٌ فِي ذُرَى الْجِبَالِ، وَالْمَاءُ فِيهَا وَاتِنٌ (أي: دائم لا ينقطع)، إنّ بِخَيْبَرَ لِأَلْفِ دَارِعٍ، مَا كَانَتْ أَسَدٌ وَغَطْفَان يَمْتَنِعُونَ مِنْ الْعَرَبِ قَاطِبَةً إلّا بِهِمْ، فَأَنْتُمْ تُطِيقُونَ خَيْبَرَ؟” (مغازي الواقدي 2/637).

يسمع ذلك المجاهدون فيردون عليهم بكل ثقة ويقين: “قَدْ وَعَدَهَا اللهُ نَبِيّهُ أَنْ يَغْنَمَهُ إيّاهَا” (مغازي الواقدي 2/637).

الله أكبر! إنها السنن لا تتغير ولا تتبدل! وجوه المنافقين الكالحة كما هي. وصدق الله إذ يقول: ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾[الفتح: 15].

فلما تهيأ القائد الأعلى -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه للخروج “استعمل على المدينة سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيّ” (السيرة النبوية وأخبار الخلفاء للبستي 1/300).

وانطلق الجيش على بركة الله نحو خيبر، يرفعون أصواتهم بالتكبير: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ” (البخاري ح: 4205). يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

وَيَوْمَ خَيْبَرَ كَانُوا فِي كَتِيبَتِهِ *** يَمْشُونَ كُلُّهُمْ مُسْتَبْسِلٌ بَطَلُ

(سيرة ابن هشام: 2/555).

ثم ها هو دور المنافقين يتكرر مرة بعد مرة، فما إن خرج -صلى الله عليه وسلم- من المدينة حتى أرسلوا إلى يهود خيبر يعلمونهم بقدوم جيش المسلمين، فقالوا لهم: “إن محمدًا في قصدكم، وتوجَّه إليكم، فخذوا حِذْركم، وأدخلوا أموالكم في الحصون، واخرجوا إلى قتاله، ولا تخافوا منه، فإن عَدَدكُم وعِدَدكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون عزل لا سلاح فيهم إلا قليل” (تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس لحسين الديار 2/43)، هكذا خيانة وخسة لا مثيل لها، وطعن في ظهور المسلمين، ومظاهرة لأعدائهم عليهم!

وعلى الرغم مما كان لدى اليهود من العتاد والقوة؛ إلا أنهم لما علموا بمقدمه -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، قذف الله في قلوبهم الرعب، وتمكن الخوف من نفوسهم، وراحوا يتساءلون: كيف يواجهون هذا الجيش؟ فكان أول ما ورد على خاطرهم أن يرسلوا للحلفاء والأنصار؛ يطلبون منهم العون والنصرة، فخرج كبيرهم كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فِي رَكْبٍ إلَى غَطَفَانَ يَدْعُوهُمْ إلَى نَصْرِهِمْ، وَلَهُمْ نِصْفُ تَمْرِ خَيْبَرَ سَنَةً. (انظر: مغازي الواقدي 2/642).

وعلى الفور وافقت غطفان وتأهبت للخروج؛ ولكن الله ردَّهم على أعقابهم خائبين، فلما همُّوا بالخروج “سَمِعُوا خَلْفَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ حِسًّا، ظَنُّوا أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ خَالَفُوا إلَيْهِمْ، فَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَأَقَامُوا فِي أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَخَلَّوْا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَبَيْنَ خَيْبَرَ” (سيرة ابن هشام 2/330).

واستكمل رسول الله مسيره حتى وصل إلى مكان يقال له الصَّهْبَاء ارتاح فيه قليلاً، ولما كان على مقربة من خيبر استدعى الأدلاء حين انْتَهَى إلَى مَوْضِعٍ لَهُ طُرُقٌ، فَقَالَ أحدهم: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ لَهَا طُرُقًا يُؤْتَى مِنْهَا كُلّهَا، فسمَّاها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى اختار منها واحدًا. (انظر: مغازي الواقدي 2/640).

وبينما هم ماضون في طريقهم، قال رجلٌ مِنْ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْن الْأَكْوَع: يَا عَامِرُ: أَلَا تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ؟ (والهنيهات: جمع هُنيهة، وهي تصغير هُنّة، أي: من كلماتك أو من أراجيزك)، وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلًا شَاعِرًا فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ يَقُولُ:

وَاَللَّهِ لَوْلَا أنت مَا اهْتَدَيْنَا *** وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا *** وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا (مغازي الواقدي 2/639)

فلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- مقالته قَالَ: “مَنْ هَذَا السَّائِقُ؟” قَالُوا: عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ، فَقَالَ: “يَرْحَمُهُ اللَّهُ” فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: وَجَبَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَوْلاَ أَمْتَعْتَنَا بِهِ. (البخاري 6148).

“وكأن ذلك إعلام من النبي -صلى الله عليه وسلم- بقرب وفاته! فقد اسْتُشْهِدَ -رضي الله عنه- يَوْمَ خَيْبَرَ” (مغازي الواقدي 2/638).

ولما أقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه على مشارف خيبر قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قِفُوا، ثُمَّ قَالَ: “اللَّهمّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الْأَرَضِينَ وَمَا أَقَلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا أَذْرَيْنَ، فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، أَقَدِمُوا بِسْمِ اللَّهِ” (سيرة ابن هشام 2/329).

وهكذا أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- ربط قلوب أصحابه بربهم، فهو -سبحانه وتعالى- الذي يجلب النصر، ومنه تُستمد القوة، وبتوفيقه يكون الظفر على العدو، وبالتضرع إليه واللوذ بجنابه تتنزل البركات، وتأتي البشريات! ثُمّ قَالَ -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: “اُدْخُلُوا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ“! فَسَارَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْمَنْزِلَةِ (وهي سوق لخيبر)، وَعَرّسَ بِهَا سَاعَةً مِنْ اللّيْلِ، فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِسَاحَتِهِمْ لَمْ يَتَحَرّكُوا تِلْكَ اللّيْلَةَ” (مغازي الواقدي 2/642، 643).

وَكَانَ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَتَى قَوْمًا بِلَيْلٍ لَمْ يُغِرْ بِهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ، ولما أصبح الصباح “خَرَجَتْ الْيَهُودُ بِمَكَاتِلِهِمْ -جمع مكتل، وهي قفة كبيرة- وَمَسَاحِيهِمْ -جمع مساحة، وهي المجرفة من الحديد-، فَلَمَّا رَأَوُا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالُوا: محمد وَاللَّهِ، محمد وَالخَمِيسُ –الجيش-، فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ ﴿فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ﴾[الصافات: 177] (البخاري ح: 610).

وبعد مضي ليلة من المناوشات أقبل الحباب بن المنذر يطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يغير موضعه إلى موضع آخر، فرد عليه قائلاً: “إذَا أَمْسَيْنَا إنْ شَاءَ اللهُ تَحَوّلْنَا” (مغازي الواقدي 2/644).

ثم بدأت المواجهات الحاسمة، فلم تفلح المحاولات الهجومية الأولى في اختراق أول الحصون يسمَّى: ناعم، فقد كان أقوى الحصون وأمنعها؛ حتى خرج منه رجل يقال له مَرْحَب، خرج بكل سلاحه وعتاده، وأرجز يقول:

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبْ *** شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبْ

أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبْ *** إذَا اللُّيُوثُ أَقْبَلَتْ تَحَرَّبْ

فبرز له عامر بن الأكوع -رضي الله عنه- ورد عليه قائلاً:

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرُ *** شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُغَامِرُ

فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ فِي تُرْسِ عَامِرٍ (السيرة النبوية لابن كثير 3/356).

وما هي إلا دقائق واستُشهد عامرٌ، ولما استبطأ بعض الصحابة النصر والفتح قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إنّ الْيَهُودَ جَاءَهُمْ الشّيْطَانُ، فَقَالَ لَهُمْ: إنّ محمدا يُقَاتِلُكُمْ عَلَى أَمْوَالِكُمْ!. نَادَوْهُمْ: قُولُوا: لَا إلَهَ إلّا اللهُ، ثُمّ قَدْ أَحْرَزْتُمْ بِذَلِكَ أَمْوَالَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ، وَحِسَابَكُمْ عَلَى اللهِ”، فَنَادَوْهُمْ بِذَلِكَ، فَنَادَتْ الْيَهُودُ: إنّا لَا نَفْعَلُ، وَلَا نَتْرُكُ عَهْدَ مُوسَى، وَالتّوْرَاةُ بَيْنَنَا” (مغازي الواقدي 2/653).

فلما أُخبر بذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: “لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، لَيْسَ بِفَرَّارٍ”. فظل المسلمون طوال ليلتهم يرتقبون مَن ذلك الرجل الذي سيعلن عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، من ذلك الرجل الذي يفتح الله الحصون على يديه؟ كلهم يتمنى أن يكون ذلك الرجل، نفوس توَّاقةٌ إلى التضحية والفداء في سبيل ربها، نفوس همها وعزمها رضا ربها!

ولما أصبح الصباح، غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فأقبل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ أَرْمَدُ -يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ-، فَتَفَلَ فِي عَيْنِهِ، وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ؛ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، ثُمَّ قَالَ: “خُذْ هَذِهِ الرَّايَةَ، فَامْضِ بِهَا حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ” (انظر: سيرة ابن هشام 2/334).

فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: “انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ” (البخاري ح: 2942، ومسلم ح: 2406).

هذه هي الغاية التي من أجلها قامت سوق الجهاد، ومن أجلها أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، هداية العباد، وإخراجهم من ظلمات الشرك إلى أنوار التوحيد! يَقُولُ سَلَمَةُ: فَخَرَجَ وَاَللَّهِ بِهَا يَأْنِحُ (أَي بِهِ نفس شَدِيد من الإعياء فِي الْعَدو)، يُهَرْوِلُ هَرْوَلَةً، وَإِنَّا لَخَلْفَهُ نَتَّبِعُ أَثَرَهُ؛ حَتَّى رَكَزَ رَايَتَهُ فِي رَضْمٍ (الْحِجَارَة المجتمعة) مِنْ حِجَارَةٍ تَحْتَ الْحِصْنِ، فَاطَّلَعَ إلَيْهِ يَهُودِيٌّ مِنْ رَأْسِ الْحِصْنِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: يَقُولُ الْيَهُودِيُّ: عَلَوْتُمْ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، فَمَا رَجَعَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ. (انظر: سيرة ابن هشام 2/335).

إنها قوة الإيمان إذا خالطت القلوب الطاهرة والنفوس الزاكية فإنها تفعل فعلها على أكمل وجه يحبه الله ويرضاه، فعليّ -رضي الله عنه- خرج كالأسد الهصور نحو حصون اليهود، وعلى الفور يخرج مَرْحَبٌ كالفحل الصؤول يردد ويقول:

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ

شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ

إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ

فيبارزه علي -رضي الله عنه- رغم ما بينهما من فارق الأعمار، وهو يرد عليه:

أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ

كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ

أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ

وتبارزا، فما هي إلا لحظات وضرب علي -رضي الله عنه- “رَأْسَ مَرْحَبٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ كَانَ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ” (مسلم ح: 1807).

ثم انطلق المسلمون إلى الحصن الثاني، وكان يسمَّى: الصَّعب، واسم الحصن الأول: الناعم، فماذا حدث؟ وكيف تعامل الصحابة مع بقية الحصون؟ وعلى أي حال استقر الأمر في خيبر؟ هذا ما سنعرفه بمشيئة الله تعالى في الخطبة القادمة.

فاللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، فاللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين. اللهم واقهر اليهود والمنافقين وأعداءك أعداء الدين، اللهم واحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم ألف بين قلوبنا ووفق ولاة أمرنا وعلمائنا ووحد صفنا وكلمتنا وثبت أقدامنا وانصر جندنا ورجال أمننا، اللهم زدنا إيمانا وأمانا بفضلك ورحمتك يا أكرم.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.