غزوة خيبر

عناصر الخطبة

  1. وقت غزوة خيبر وسببها
  2. حصار المسلمين لليهود وخروجهم لقتال المسلمين
  3. استسلام اليهود للمسلمين
  4. دروس وعبر من غزوة خيبر
اقتباس

إن من يظن أن خلافنَا مع اليهود، هو حولَ قطعةٍ من الأرض، أو نهرٍ من الماء، فهو غبيٌ مغفل، لا يفقه شيئًا من كتابِ الله، ويعاني أميةً فاضحةً، في قراءةِ التاريخ وتتبعِ السنن.. إن خلافنا مع اليهود خلافٌ عقديٌ بالدرجة الأولى، ولن يلتقي الطرفان في وسطِ الطريق، ولن تكونَ…

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيُّها المسلمون: كانت خيبر وكرًا للتآمر والدس، ومركزًا للاستفزازات العسكرية والتحرشات بالمسلمين، خاصة حين أجلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بني النضير فنزحوا إليها وأنفسهم تفيض حقدًا على المسلمين.

وغير بعيد ما قام به زعماؤهم من تأليب العرب على المسلمين وتحزيب الأحزاب في غزوة الخندق، ثم حثهم بني قريظة على الغدر بالمسلمين ونقض العهود التي كانت بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-، مما اضطر المسلمين إلى الفتك ببعض زعمائهم مثل اليُسَيْر بن رزام الذي كان يجمع غطفان لغزو الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأبي رافع سَلاّم بن أبي الحُقَيْق.

ولما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحديبية، اغتنم فرصة مهادنته لقريش، وعزم على التوجه لليهود القابعين في خيبر وإنهاء وجودهم، وقد أمِن هجوم القرشيين على المسلمين في ذلك الوقت، أو مساندتهم لليهود وتحالفهم معهم، فأقام بالمدينة شهر ذي الحجة وبعض محرم ثم تجهز للمسير إلى خيبر في بقية محرم من السنةِ السابعةِ من الهجرةِ النبويةِ الشريفة.

 

عباد الله: توجه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جهة الشمال قاصدًا خيبر، التي استوطنها يهود، وأقاموا فيها حصونًا منيعة يصعبُ اختراقُها؛ خوفًا من نكسةٍ جديدة، عقبَ نكساتِهم المتتابعةِ في بني النضيرِ وبني قريظة.

وقف الجيشُ الإسلامي الفذّ، بقيادةِ رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- على مشارفِ خيبر، وفي نيتهِ فتحُ المدينة، وتطهيرُها من رجسِ الخنازير، والقضاءُ على آخر معقلٍ سياسيٍّ لهم في الجزيرةِ العربية، وقد أوهم -صلى الله عليه وسلم- يهود غطفان بأن الهجوم متجه إليهم، وأن جحافل المسلمين توشك أن تداهمهم.. أوهمهم بذلك؛ لأنه سمع -صلى الله عليه وسلم- أنهم خرجوا ليظاهروا يهود خيبر عليه، فلما سمعوا بمقدمه -صلى الله عليه وسلم- رجعوا على أعقابهم، وأقاموا في أهليهم وأموالهم، وخلَّوا بين رسول الله وبين خيبر، وهكذا استطاع -عليه الصلاة والسلام- أن ينهي كل عدو على حدة في مهارة عسكرية فذة.

وهكذا ينبغي للأمة أن تحذوا حذو نبيها -صلى الله عليه وسلم- فهي بحاجة أن تكون على مستوى الأحداث، وتفقه كيف تواجه أعداءها، لا أن تكون فريسة بين أيديهم.

أيها المسلمون: وفي ساعات الصباح الأولى، خرجَ اليهودُ إلى مزارعهِم وبساتينهم كعادتهمِ كلَّ يوم، ولم يدُرْ بخلدِ واحدٍ منهم أنَّ يومَهم ذاك سيكونُ يومًا أسود، وكم كانت المفاجأة، يوم رأى أولئك اليهود، أسودَ الله واقفةً على مشارفِ المدينة، تمتلئ قلوبهُم حنقًا، وتتفجرُ دماؤهم غضبًا من بغضِ اليهودِ وكراهيتهِم، تنتظرُ على أحرِّ من الجمر، إشارةً من رسول الله للانقضاضِ السريعِ ودكِّ المدينةِ على أهلهاِ.

فصرخ صارخُ اليهود في قومهِ منذرًا، صيحةَ يومٍ يقطرُ دمًا، وأخذ يرددُ بأعلى صوته، مرعوبًا مفزوعًا: محمدٌ والله، محمد والخميس! ونزل هذا الخبرُ المخيفُ على يهود كالصاعقةِ المحرقة، التي تحولُ الأبيضَ سوادًا، والأخضرَ يبابًا!!

وشعرَ اليهودُ بخطورةِ موقفهمِ، وأنهم قابَ قوسين أو أدنى من الهلكة، فهمْ يدركون حقيقةَ الجيشِ الواقفِ على مقرُبةٍ من حصونهِم، وأبوابِ مدينتهمِ، وكانوا يدركون أنه جيشٌ لم يصنعْ ليبنيَ أمجاد أشخاص على حساب جماجم المسالمين والآمنين، ولكنهُ جيشٌ أُعِدَّ ليبدد ظلام الوثنية الضاربة بجذورها في الأرضِ عبرَ القرون.

وفرَّ اليهودُ إلى داخلِ حصونِ خيبر، تصطكُ ركبُهم وأسنانُهم من الرعبِ والهلع، وعبثًا حاولَ أولئكَ صنعَ شيءٍ ما يخلصهم من البلاء، فانتدبوا أشجعَ من عندهم من الرجال، فخرج متبخترًا في مشيتهِ وهو يقول:

أنا الذي سمتني أمي مرحبُ *** شاكيِ السلاحِ بطلٌ مُجربُ!

في حين ظلَّ اليهودُ خلفَ حصونهم، ينظرونَ من طرفٍ خفي، ماذا عساه يصنعُ فارسهُم؟!! فخرج إليه الأسد عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وهو يقول:

أنا الذي سمتني أمي حيدرهْ *** كليثِ غاباتٍ كريه المنظرهْ

وفي لمحِ البصر، إذا برأسِ اليهودي الذي سمتهُ أمهُ مرحبُ، يتدحرجُ على الأرض، إثرِ ضربةٍ نجلاء من يد أسد مقدام، فلا مرحبًا به ولا مرحبًا بأمه، وبمقتلِ هذه اليهودي، انهارت معنوياتُ اليهود، وسقطَ خيارُ المقاومة، وفضّلوا البقاءَ في حصونِهم، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، ويضربُ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حصارًا محكمًا حولَ خيبر، ويحيطُ بها إحاطةَ السوارِ بالمعصم، ويأتي الخبرُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أن لليهودِ منفذًا تحت الأرض إلى عينٍ من الماء يشربونَ منها، ما يطيلُ -ولابد- أمدَ الحصار، فيرسلُ -عليه الصلاة والسلام- من يقطعُ إمداداتِ الماءِ عنهم، في خطوةٍ عسكريةٍ فذة، حتى إذا يبستْ عروقُهم، واحترقتْ أكبادُهم، خرجوا من جحورهمِ، في محاولة أخيرة لصدِّ جيشِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وثنيهِ عما عزمَ عليه من فتحِ المدينة، وطردهم منها.

فقاتلوا قتالاً شرسًا لا شجاعةً ولا بطولة، ولكنْ حسرةً على أموالهمِ وكنوزهمِ التي كانوا يقدسونها أشدَّ التقديس، ويعبدونها أعظمَ العبادة، ويفضلونَها على الأهلِ والولد، ومع ذلك لم يصبر اليهود سوى سويعاتٍ قليلة، انهارت بعدها قواهُم، وخارت عزائمهم، وأعلنوا الاستسلامَ التام، تحت وقعِ ضرباتِ سيوفٍ لا قبلَ لهم بها.

عباد الله: ما أسرع ما يستسلم اليهود متى وجدوا رجالاً لا يهابونَ الموت ولا يخشونَ الفناء، وما عرفنا اليهودَ يجيدون قتالاً، إلا حين تكون المواجهة مع أسودٍ من ورق، أو نمورٍ من خشب، يحسنونَ الكلام الفارغ، ويجيدونَ الصراخَ والعويل، فنسمع لهم جعجعة ولا نرى طحنًا.

أعلن اليهودُ استسلامَهم، وعرضوا على رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحقنَ دماءَهم على أن يسلموه خيبرَ كاملةً بمزارعها وكنوزِها.

إنها اللغةُ الوحيدة التي يفقهها اليهود، لغةُ القوةِ والتحدي، فهيهات أن يتنازلوا عن مترٍ واحد، أو يتزحزحوا عن شبرٍ واحد إلا بالحربِ والمكيدة.

إنها النفسيةُ اليهوديةُ المريضة، المجبولةُ على العنادِ والمكرِ والمراوغة، والتي لا يمكنُ ترويضُها إلا بمطارق من حديد، وسياطٍ من لهب.

ويَصدرُ أمرُ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بإيقافِ القتال، على أن يخرجَ اليهودُ من خيبر، ليس معهم إلا ثوب على ظهرِ إنسان، ويتوعدُهم بقطعِ رقابهمِ وسفكِ دمائهم إن كتموه شيئًا، وبمثل ذلكِ حطَّم أسلافُنا اليهودَ وسقوهم من الذلِ كؤوسًا، ولقنوهم من الهوانِ دروسًا، يوم كانوا يتوكلون على الله حق توكله، ويطلبون المدد منه وحده.

أيها المسلمون: لقد كانت موقعةُ خيبر واحدةً من الوقائع التي حطَّمنا من خلالها النفسية اليهودية، وأذقناها مرارةَ الهزيمة، وعلقمَ الحياة، يوم كنَّا أمَّةَ القرآن والسنة.. بينما استأسد اليهود في زماننا، وانتكست الأوضاع رأسًا على عقب، يوم نُحِّي الإسلامُ بعيدًا، واستُبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. وإن من يظن أن خلافنَا مع اليهود، هو حولَ قطعةٍ من الأرض، أو نهرٍ من الماء، فهو واهم، لا يفقه شيئًا من كتابِ الله.. إن خلافنا مع اليهود خلافٌ عقديٌ بالدرجة الأولى، وصدق الله : ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم﴾[البقرة: 120].

نسأل الله أن يرد كيدهم في نحورهم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

عباد الله: كان لغزوة خيبر ثمرات وفوائد عظيمة على المسلمين، ومن الآثار الميمونة لهذا النصر:

أولاً: انكسار شوكة اليهود في الحجاز، وتَصفيِة الموقف معهم، وأمْنُ جانبهم نهائيًا: فقد كانت خيبر آخر معاقل اليهود في الحجاز، وكانت مصدرًا للشرور والفتن، ووكرًا لتدبير المكائد للمسلمين، ولما تم فتح خيبر وانتصر المسلمون بفضل الله، ودان اليهود لسلطان المسلمين، انتهت قوة اليهود ونفوذهم بشكل نهائي، وبقوا في خيبر منزوعي السلاح، أُجَراء عند المسلمين يعملون في أراضيهم، وقد أمن المسلمون بذلك الجهة الشمالية للمدينة، حيث لم يقم لليهود قائمة بعد ذلك في جزيرة العرب.

وقد أتاح القضاء على الكيان اليهودي للمسلمين التفرغ لقريش، وإعداد العدة لمجابهتها، إذا ما أرادت نقض عهدها مع المسلمين، والمسلمون موقنون أنه لا بد أن يأتي اليوم الذي يطهرون فيه البيت الحرام من الأوثان، ويقيمون دولة الإسلام التي ترفع لواء التوحيد وتنشر العدل والسلام.

ثانيًا: حصول المسلمين على الغنائم وتوسع أحوالهم المادية: بعد فتح خيبر واستسلام حصونها، وزّع النبي -صلى الله عليه وسلم- الغنائم على المسلمين، وكانت شيئًا عظيمًا لم يغنم الجيش الإسلامي مثله في أي غزوة من قبل، كما كانت خيبر منطقة زراعية مشهورة بزراعة التمور، ولما غنم الصحابة -رضوان الله عليهم- تلك المزارع، أبقوا اليهود فيها كي يقوموا بزراعتها ويقتسموا مع المسلمين خيراتها، وتقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: “لما فتحت خيبر قلنا الآن نشبع من التمر” (رواه البخاري).

ثالثًا: حصول المسلمين على الكثير من العتاد والأسلحة: فقد احتوت حصون خيبر على مخازن للعتاد والأسلحة التي غنمها المسلمون.

رابعًا: زيادة إيمان المسلمين وقوتهم: فهم قد آمنوا بالله وصدقوا بموعوده لهم لمَّا نزلت البشرى بالفوز والنصر، ولم يهابوا كثرة أعدائهم؛ لأنهم خرجوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله تعالى، صابرين محتسبين، وهذا شأنهم دائمًا، فكان لثقتهم بنصر الله وتأييده لهم، دور فعال في بث الحماسة في نفوسهم والشجاعة في قلوبهم، وتثبيت أقدامهم.

خامسًا: تفرغ المسلمين لنشر الإسلام وعدم انشغالهم بالزرع، واستفادتهم من خبرة اليهود الزراعية: تجلَّت حكمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في قبوله سؤال اليهود له أن يبقيهم في أرضهم يزرعونها ويقومون بها، وذلك رغبةً عن قيام الصحابة بزراعة هذه الأراضي والانشغال بها عن الجهاد في سبيل الله.

إننا بحاجة ماسة إلى مدارسة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- واغتنام فوائدها والاستفادة من دروسها وعبرها؛ فهل نحن فاعلون؟!

هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..