سوء الظن والتجسس

عناصر الخطبة

  1. سورة الحجرات سورة الآداب والأخلاق
  2. وجوب حسن الظن بالمسلمين
  3. نماذج من إساءة الظن المذمومة
  4. علاج سوء الظن
  5. النهي عن التجسس المبني على سوء الظن
اقتباس

إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه، فالتمس له العذر، فإن لم تجد له عذرًا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه، أما ظن السوء بمن قامت القرينة والحجة على أنه أهل لذلك، فهذا لا حرج على الإنسان أن يظن السوء به، ولكن هذا ليس على إطلاقه، كما هو معلوم، وإنما المراد أن نحترس من الناس الذين هم أهل لظن السوء فلا نثقبهم، كما روى الطبراني عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “احترسوا من الناس بسوء الظن”.

الخطبة الأولى:

الحمد لله الملك العلام، أكرمنا بأخلاق سيد الأنام، فقدمها هدية خاصة بأمة الإسلام، نحمده تعالى حمدًا كثيرًا على نعمه العظام، وأشهد أن لا إله إلا الله ذو الجلال والإكرام، هو الملك القدوس السلام، سبحانه وتعالى لا تأخذه سنة ولا ينام.

وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أفضل الأنام، دعا إلى شريعة تطهر المجتمع من سوء الظن والتجسس وغير ذلك من أخلاق اللئام، فنال عند الله مراتب الإحسان والإكرام، اللهم صلّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الكرام، وعلى التابعين لهم بإحسان مادامت الأيام والأعوام، اللهمّ أخرجنا من ظلمات الجهل وأكرمنا بأنوار العلم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك ومعرفتك، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

أما بعد:

فيا أيها الإخوة المؤمنون: مرحبًا بنا مرة أخرى في رحاب سورة الآداب والأخلاق، سورة الحجرات، وقد قدمنا لكم في الجمعة الماضية أنه لا يمكن أن تعظم حرمات المسلمين في مجتمعنا، إلا إذا طهّرنا أنفسنا من ستة أمراض أو من ستة أخلاق سيئة، ولقد تحدثنا في الماضي بفضل الله تعالى بالتفصيل عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، واليوم سنرفع الستار عن سوء الظن والتجسس؛ قال ربنا -جل جلاله-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾.

تضمنت الآية الكريمة النهي عن ثلاثة أمور، وهي: عن سوء الظن والتجسس والنهي عن الغيبة:

أولاً: سوء الظن: يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾، وقوله: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم﴾، ولم يقل: اجتنبوا الظن كله، لأن الظن ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ظن الخير بالإنسان، وهذا مطلوب أن تظن بإخوانك خيراً ماداموا أهلاً لذلك، وهذا هو المراد بالآية، وكذلك حسن الظن بالله تعالى: "حسن الظن بالله من حسن العبادة".

القسم الثاني: ظن السوء، فيحرم علينا أن نظن سوءًا بمسلم ظاهره العدالة، فإنه لا يحل أن نظن به إلا الخير، وقد ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث".

وقد قال أحد العلماء: إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه، فالتمس له العذر، فإن لم تجد له عذرًا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه، أما ظن السوء بمن قامت القرينة والحجة على أنه أهل لذلك، فهذا لا حرج على الإنسان أن يظن السوء به، ولكن هذا ليس على إطلاقه، كما هو معلوم، وإنما المراد أن نحترس من الناس الذين هم أهل لظن السوء فلا نثقبهم، كما روى الطبراني عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "احترسوا من الناس بسوء الظن".

أيها الإخوة الكرام: سيدنا حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- لما كتب إلى أهل مكة يفشي إليهم خبر استعداد النبي -صلى الله عليه وسلم- لفتح مكة، أُلقي عليه القبض لكنه اعتذر، فقال سيدنا عمر: ائذن لي -يا رسول الله- أن أضرب عنقه، فقد نافق، وكان ذلك مبنيًا على الظن، فماذا تظنون بالرسول -صلى الله عليه وسلم- يفعل به؟! لو كان حدث هذا اليوم في أنظمة هذا العصر، لاتهم بالخيانة، وبأنه مخبر سري وجاسوس خطير، يعمل لصالح العدو إلى ما هنالك من الاتهامات والأسماء، ولحكم عليه بالإعدام، أو السجن المؤبد إن رحموه، فلا يموت فيه ولا يحيا، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما كان ليحكم على شخص بزلة دون أن يتذكر تاريخه، فلما قال عمر بن الخطاب: ائذن لي -يا رسول الله- أن أضرب عنقه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يا عمر، أما تعلم أنه شهد بدرًا!! لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- منه عذره وحسن نيته، ومنع عمر من البناء على ذلك الظن الكاذب.

ونذكر لذلك بعض الأمثلة: قد يظن الإنسان أن فلانًا يبغضه، فيبني على هذا عداوة وحقدًا، وعدم صفاء في الصدر تجاه أخيه المسلم.

والبعض يسيء الظن بزوجته بدافع الغيرة، ويشك في زوجته ويفسر كل سلوك على أنه خيانة أو سوء أخلاق منها، وقد يقع هذا من الزوجة أيضًا تجاه زوجها.

وقد يتناقل الناس عن فلان أنه متهم في دينه، أو أنه فعل سوءًا فتظن به سوءًا.

والحاصل أن سوء الظن أوقع كثيرين في العداوة والبغضاء، فشتت شملهم، وساءت المعاملات فيما بينهم، وظهر الحسد والبغضاء، كل ذلك مبناه على أخبار وهمية ظنوها صادقة.

أيها الإخوة: إذا تقرّر لدينا أن سوء الظن خلق سيئ فلا بد من العمل على علاجه، وعلاجه هو: إحسان الظن بالناس، فكّر طويلاً قبل أن تحكم أو تتهم، ولأن تخطئ بحسن الظن أفضل من أن تخطئ بالتسرع بسوء الظن، قال عمر: "ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً".

ومن العلاج التماس المعاذير للناس، وترك تتبع العورات والتماس الزلات، وتدريب النفس على الالتزام بآداب الإسلام في الحكم على الأشياء والأشخاص من الاعتماد على الظاهر وترك السرائر إلى الله وحده الذي يعلم السر وأخفى، وكان سيدنا عمر يقول: "كنا نحكم عليكم والوحي ينزل، أما ولا وحي فمن فعل خيراً أو قال خيراً ظننا به خيراً، ومن فعل شراً أو قال شراً ظننا به ما فعل وما قال".

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾؛ نلاحظ في هذه الآية الكريمة أنه تعالى قدّم سوء الظن ثم التجسس ثم الغيبة، وفي هذا ترتيب عجيب أشار إليه القرطبي -رحمه الله- فقال: "لأن الإنسان إذا ظن السوء سينتقل إلى مرحلة أخرى وهي التجسس ليتأكد، ثم بعد التجسس سوف يغتاب ذلك الرجل بذكر معايبه".

فبعضها يجر بعضًا، فانظر إلى هذا التسلسل العجيب لأن الله هو الخالق لهذا الإنسان، وهو العالم كيف تتسلسل في النفس، وفيه تنبيه من جانب آخر أنه يجب على الإنسان أن يغلق أبواب الشر على نفسه؛ لأنه إذا فتح باب الظن انفتح باب التجسس، ثم إذا امتلأ القلب بهذه الأمور المنكرة أصبح يفرِّغها في المجالس التي يجلس فيها، فيقع في الغيبة.

اللهم إنا نسألك صدورًا سليمة، وقلوبًا طاهرة نقية، اللهم طهر قلوبنا من الشرك والشك والنفاق وسائر الآفات.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين…

ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تَجَسَّسُوا﴾، والتجسس هو: تتبع عورات الناس والبحث عن عيوبهم، ﴿وَلاَ تَجَسَّسُوا﴾، وقرئت: ولا تحسسوا. قيل: معناهما واحد، وقال الحافظ ابن كثير: "والتجسس غالباً يطلق على الشر، ومنه الجاسوس، وأما التحسس فيكون غالباً في الخير، وقد يستعمل كل منهما في الشر".

وعلى هذا القول الأخير تكون القراءتان مبينتين لما نهى الله عنه، من إشغال النفس بمعايب الآخرين.

وقد ذكر الشيخ محمد مصطفى المراغي في تفسير سورة الحجرات: أن سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يعس بالمدينة ليلاً، ويحرس الناس ويكشف أهل الريبة منهم، فسمع صوت رجل في بيته يغني، فتسور عليه، ووجد عنده امرأة وخمراً، فقال عمر: "يا عدو الله: أظننت أن الله سيسترك وأنت على معصيته"، فقال الرجل: وأنت -يا أمير المؤمنين- لا تعجل عليّ، إن كنت عصيت الله في واحدة، فقد عصيته أنت في ثلاث: قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾، فقد تجسست، وقال: ﴿وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾، وقد تسورت، وقال: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا﴾، وما سلمت. فقال: هل عندك من خير إن عفوت عنك؟! قال: نعم. فعفا عنه وخرج.

ولقد صدق من قال:

لا تَلْتَمِسْ مِنْ مَسَاوِي النَّاسِ مَا سُتِرُوا *** فَيَكْشِـفُ اللهُ سِتْـرًا مِـنْ مَسَاوِيكَ

***

وَمَـنْ يَتَتبَّـعْ جَاهِـدًا كُـلَّ عَتْرَةٍ *** يَجِـدْهَا وَلا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرُ صَاحِبُ

أيها المؤمنون: جاءتني امرأة قبل قليل تشتكي من أذى جيرانها من تعد وظلم وطغيان وأذى، وأذكّر نفسي وإخواني المسلمين بأن إيذاء الجيران ذنب عظيم لا يفعله مؤمن، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ"، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: "الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ". شيءٌ مُخيف، نفى عنه الإيمان كليًّا بِقَسَمٍ وتَكرار، القسَم مؤَكِّد، والتَّكْرار مُؤَكِّد، وسوف أخصص خطبة لهذا الموضوع.

نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعًا لنحترم جيراننا ونكف أذانا عنهم.

وأكثروا من الصلاة والسلام على سيد المرسلين.