التوبة وفضائلها

عناصر الخطبة

  1. خلق بني آدم معرضًا للخطأ والمعصية
  2. مكفرات الذنوب والخطايا
  3. الإسلام يسد أبواب الشرور والمحرمات
  4. معنى التوبة ووجوبها على العصاة وفضلها
  5. رفع البلايا والمصائب والمحن بالتوبة
  6. الاستعداد للموت بالتوبة النصوح
اقتباس

إنها تُحيطُ بكم أخطارٌ عظيمة، وتُنذِرُكم خُطوبٌ جسيمة، وقد نزل بالمسلمين نوازل وزلازل وأصابتهم الفتن، وأصابتهم المِحَن، واشتدَّت عليهم الكُرُبات، وضاقَت عليهم الأمور، فصار بأسُهم بينهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنه لا مخرج لهم من هذه المضائق وهذه الكُربات وهذه الشدائد وهذه الفتن المُظلمة المُدلهِمَّة، لا نجاة لهم إلا بالتوبة إلى الله، والإنابةِ إليه. وإنه قد رأى المسلمون في تجاربهم الماضية مما نزل بهم من الكُرُبات والمضائق والشدائد رأوا بتجربتهم وأعيُنهم أن ملاذهم ..

الحمد لله التواب الرحيم، الحليم العليم، أحمد ربي وأشكره على فضله العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله العليُّ العظيم، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الموصوف بكل خُلُقٍ كريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ذوي المنهج القويم.

أما بعد: فاتقوا الله -معشر المسلمين- حق التقوى؛ فتقوى الله الجليل عُدَّةٌ لكل شِدَّة، وحِصنٌ أمينٌ لمن دخل، وجُنَّةٌ من عذاب الله.

واعلموا -عباد الله- أن ربكم خلق بني آدم مُعرَّضًا للخطيئات، مُعرَّضًا للتقصير في الواجبات، فضاعَفَ له الحسنات، ولم يُضاعِف عليه السيئات، قال الله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 160].

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله كتب الحسنات والسيئات؛ فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملة، فإن عمِلَها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعافٍ كثيرة، فإن همَّ بسيئةٍ فلم يعملها كتبها حسنةً كاملة، فإن عمِلَها كتبها الله عنده سيئةً واحدةً". رواه البخاري.

فشرع الله لكسب الحسنات طرقًا للخيرات، وفرائض مُكفِّراتٍ للسيئات، رافعةً للدرجات؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصلواتُ الخمس، والجُمعة إلى الجُمعة، ورمضانُ إلى رمضان: مُكفِّراتٌ لما بينهن إذا اجتُنِبَت الكبائر". رواه مسلم.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أربعون خَصلة أعلاها مَنِيحةُ العَنز، ما من عاملٍ يعمل بخصلةٍ منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة". رواه البخاري.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الإيمان بِضعٌ وسبعون -أو بِضعٌ وستون- شُعبة، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان". رواه البخاري ومسلم.

وعن أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول الله: أيُّ العمل أفضل؟! قال: "الإيمانُ بالله، والجهادُ في سبيله"، قلتُ: أيُّ الرقاب أفضل؟! قال: "أنفَسُها عند أهلها، وأكثرُها ثمنًا"، قلتُ: فإن لم أفعل! قال: "تُعينُ صانعًا، أو تصنع لأخرق"، قلتُ: يا رسول الله: أرأيتَ إن ضعُفتُ عن بعض العمل؟! قال: "تكُفُّ شرَّك عن الناس؛ فإنها صدقةٌ منك على نفسك". رواه البخاري ومسلم.

وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقَ أخاكَ بوجهٍ طليق". رواه مسلم.

وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليرضَى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمَده عليها، أو يشرب الشربَة فيحمده عليها". رواه مسلم.

وكما شرع الله كثرةَ أبواب الخير وأسباب الحسنات؛ سدَّ أبواب الشرور والمُحرَّمات، وحرَّم وسائل المعاصي والسيئات؛ ليثقُل ميزانُ البِرِّ والخير، ويخِفَّ ميزانُ الإثم والشر، فيكون العبدُ من الفائزين المُفلِحين، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33].

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما نهيتُكم عنه فاجتنِبوه، وما أمرتُكم به فأْتوا منه ما استطعتم". رواه البخاري ومسلم.

وجِماعُ الخير ومِلاكُ الأمر وسببُ السعادة: التوبة إلى الله، قال الله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31].

ومعنى التوبة: هي الرجوع إلى الله والإنابةُ إليه من فعل المُحرَّم والإثم، أو من ترك واجبٍ، أو تقصيرٍ فيه، بصدق القلب وندمٍ على ما كان.

والتوبةُ النَّصوح يحفظُ الله بها الأعمالَ الصالحة التي فعلها العبد، ويُكفِّرُ الله بها المعاصي التي وقعت، ويدفع الله بها العقوبات النازلة والآتية، قال الله تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس: 98].

روى ابن جرير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية عن قتادة قال: "لم ينفع قرية كفَرَت ثم آمنت حين حضرها العذاب، فتُرِكَت إلا قوم يونس لما فقدوا نبيَّهم وظنُّوا أن العذاب قد دنا منهم قذَفَ الله في قلوبهم التوبة، ولبِسُوا المسُوح، وألهَوا بين كل بهيمةٍ وولدها -أي: فرَّقوا بينهما-، ثم عجُّوا إلى الله أربعين ليلة، فلما عرف الله الصدقَ من قلوبهم، والتوبةَ والندامةَ على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلَّى عليهم". اهـ.

وقال تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ [هود: 3].

والتوبةُ واجبةٌ على كل أحدٍ من المسلمين؛ فالواقعُ في كبيرةٍ تجبُ عليه التوبة لئلا يبغَتَه الموت وهو على المعصية، والواقعُ في صغيرة تجبُ عليه التوبة؛ لأن الإصرار على الصغيرة يكون من كبائر الذنوب، والمُؤدِّي للواجبات التاركُ للمُحرَّمات تجبُ عليه التوبةُ أيضًا؛ لما يلحَقُ العمل ولما يجبُ له من الشروط، ولما يلزمُ من انتفاء موانع قبوله، وما يُخشَى على العمل من الشوائب التي قد تُداخِلُه التي حذَّر منها النبي -صلى الله عليه وسلم-.

عن الأغَرِّ بن يسارٍ المُزنِيّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس: توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب في اليوم مائةَ مرة". رواه مسلم.

والتوبةُ بابٌ عظيمٌ يتحقَّقُ به الحسناتُ العظيمة الكثيرة التي يحبُّها الله؛ لأن العبد إذا أحدثَ لكل ذنبٍ يقع فيه توبةً كثُرت حسناتُه، ونقصت سيئاتُه، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(70)﴾ [الفرقان: 68 – 70].

أيها المسلمون: تذكَّروا سَعة رحمة الله، وعظيمَ فضله وحِلمه وجُوده وكرمه؛ حيث قبِلَ توبةَ التائبين، وأقالَ عثرةَ المُذنبين، ورحِمَ ضعفَ هذا الإنسان المسكين، وأثابَه على التوبة، وفتح له أبواب الطهارة والخيرات؛ عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله تعالى يبسُط يدَه بالليل ليتوب مُسيءُ النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مُسيءُ الليل". رواه البخاري ومسلم.

والتوبةُ من أعظم العبادات وأحبِّها إلى الله تعالى، من اتَّصَف بها تحقَّق فلاحُه، وظهر في الأمور نجاحُه، قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾ [القصص: 67].

وكفى بفضل التوبة شرفًا فرحُ الرب بها فرحًا شديدًا؛ عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَلهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضلَّه وعليه متاعُه في أرضٍ فلاة". رواه البخاري ومسلم.

والتوبةُ من صفات النبيين -عليهم الصلاة والسلام- والمؤمنين؛ قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 117]، وقال تعالى عن موسى -عليه الصلاة والسلام-: ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 143]، وقال تعالى عن داود -عليه السلام-: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 17] -أي: كثير التوبة-، وقال تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 112].

ألا ما أجلَّ صفة التوبة التي بدأ الله بها هذه الصفات المُثلَى من صفات الإيمان، والتوبةُ عبادةٌ لله بالجوارح والقلب، واليوم الذي يتوب الله فيه على العبد خيرُ أيام العُمر، والساعةُ التي يفتحُ فيها لعبده بابَ التوبة ويرحمه بها أفضلُ ساعات الدهر؛ لأنه قد سعِدَ سعادةً لا يشقى بعدها أبدًا؛ عن كعب بن مالك -رضي الله عنه- في قصة توبة الله عليه في تخلُّفه عن غزوة تبوك، أنه قال: فلما سلَّمتُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال -وهو يبرُقُ وجهُه من السرور-: "أبشِر بخير يومٍ مرَّ عليك مُنذ ولدَتْك أمُّك". رواه البخاري ومسلم.

معشر المسلمين: إنها تُحيطُ بكم أخطارٌ عظيمة، وتُنذِرُكم خُطوبٌ جسيمة، وقد نزل بالمسلمين نوازل وزلازل وأصابتهم الفتن، وأصابتهم المِحَن، واشتدَّت عليهم الكُرُبات، وضاقَت عليهم الأمور، فصار بأسُهم بينهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنه لا مخرج لهم من هذه المضائق وهذه الكُربات وهذه الشدائد وهذه الفتن المُظلمة المُدلهِمَّة، لا نجاة لهم إلا بالتوبة إلى الله، والإنابةِ إليه.

وإنه قد رأى المسلمون في تجاربهم الماضية مما نزل بهم من الكُرُبات والمضائق والشدائد رأوا بتجربتهم وأعيُنهم أن ملاذهم وأن نجاتهم هي بالتوبة والرجوع إلى الله، والتمسُّك بدين الله -تبارك وتعالى-؛ فإنه الذي يضمن كلَّ خير، ويدفعُ كلَّ شر.

فالتوبةُ واجبةٌ على كل مسلم على وجه الأرض من الذنوب صِغارها وكِبارها؛ ليرحمنا الله في الدنيا والآخرة، ويكشِف الشرور والكُرُبات، ويقيَنا عذابَه الأليم وبطشَه الشديد.

قال أهل العلم: "إذا كانت المعصيةُ بين العبد وربِّه لا حقَّ لآدميٍّ فيها؛ فشروطها أن يُقلِع عن المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزِم على أن لا يعودَ إليها، وإن كانت المعصيةُ تتعلَّق بحقِّ آدميٍّ؛ فلا بُدَّ مع هذه الشروط أن يُؤدِّي إليه حقَّه، أو يستحِلَّه منه بالعفو والمُسامَحة".

والتوبةُ من جميع الذنوب واجبة، وإن تابَ من بعض الذنوب صحَّت توبتُه من ذلك الذنب وبقيَ عليه ما لم يتُب منه، فتوبوا إلى الله -أيها المسلمون-، وأقبِلوا إلى ربٍّ كريم أسبغ عليكم نِعَمه الظاهرة والباطنة، وآتاكم من كلِّ ما سألتموه، ومدَّ في آجالكم، وتذكَّروا قصص التائبين المُنيبين الذين منَّ الله عليهم بالتوبة النَّصُوح بعد أن غرِقوا في بحار الشهوات والشُّبُهات، فانجلَت غِشاوةُ بصائرهم، وحيَت قلوبُهم، واستنارَت نفوسهم، وأيقظَهم الله من موت الغفلة، وبصَّرهم من عمى الغيِّ وظُلمات المعاصي، وأسعدَهم من شقاء المُوبِقات؛ فصاروا مولودين من جديد، مُستبشرين بنعمةٍ من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضلٍ عظيم.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم: 8].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ذي الجبَروت والملَكوت، الحي الذي لا يموت، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يُحيِي ويُميت، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، بعثَه الله بالهُدى ودين الحقِّ ليُظهِرَه على الدين كله ولو كرِهَ المُشرِكون، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في الله حقَّ جهاده؛ ففازوا في دُنياهم بالخيرات وفي آخرتهم برفيع الدرجات.

أما بعد:

فاتقوا الله بلزوم طاعاته، واخشَوا عذابَه وعقوبته بالبُعد عن مُحرَّماته.

عباد الله: لقد وهبَ الله لكم الآجال، ومكَّنكم من صالح الأعمال؛ لتجعلوها وسيلةً إلى مرضاتِ ربكم ذي العزة والجلال، فبالعمل الصالح يتقرَّبُ العباد، وبه تتطهَّرُ القلوب من الغيِّ والفساد، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ: 37].

واعلموا أن وراءكم طالبًا حثيثًا لن تفوتوه، فلا تدرون متى يفجأ أحدَكم الموت، عندئذٍ يتمنَّى المرءُ لو فُسِح له في أجله، وأصلَح من عمله، فلا يُؤخَّرُ في الأجل، ولا يتمكَّنُ من صالح العمل، قال الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100)﴾ [المؤمنون: 99، 100].

وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الكَيِّسُ من دانَ نفسَه وعمِلَ لما بعد الموت، والعاجزُ من أتبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأمانيّ".

أيها الإنسان: تذكَّر من بينك وبين أبينا آدم -عليه السلام- من الآباء والأمهات الذين قدِموا على أعمالهم، فأنتم على آثارهم سائرون، وبهم لاحِقون؛ فهل ترون من الأجيال الخالية أحدًا، أو تسمعون لأصواتهم صَدًى؟!

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اذكروا هادم اللذَّات -يعني: الموت-".

واستعِدُّوا له بالتوبة الصدقة في كل وقت لئلا يُحالَ بين أحدكم وبين الدنيا بعملٍ سيئٍ يشقَى به.

عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، فصلُّوا وسلِّموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.