الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به

عناصر الخطبة

  1. الله حكيم في كل ما فعله وخلقه
  2. شريعة الله مبناها على العلم والحكمة
  3. امتناع إضافة الشر إلى الله سبحانه
  4. الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم
  5. الله الحكيم أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه
  6. أقسام الشر الذي يحصل للإنسان
  7. الحكمة من تقدير المكروهات.
اقتباس

وإن ظهور الباطل وبقاءه منتفشاً فترة من الزمن, ليس معناه أن الله تاركه, أو أنه من القوة بحيث لا يغلب, أو بحيث يضر الحق ضرراً باقياً قاضياً, أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه, كلا, إنما هي حكمة وتدبير من الحكيم الخبير هنا وهناك, يملي -سبحانه- للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق، وليرتكب أبشع الآثام وليحمل أثقل الأوزار، ولينال أشد العذاب باستحقاق…

الخطبة الأولى:

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله بعثه بالهدى، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجعلنا على المحجة البيضاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه الأتقياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسار على نهجهم واقتفى.

أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

عباد الله: لا شك أن الله هو الحكيم -سبحانه وتعالى-،  وهوأحكم الحاكمين، قال الله -تعالى-: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50], وقال الله -سبحانه-: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 6].

الله -عز وجل- خالق كل شيء، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، هو الذي وفق أهل الطاعة فأطاعوه، ولو شاء لخذلهم فعصوه، وحال بين الكفار وقلوبهم فكفروا به، فإنه يحول بين المرء وقلبه، ولو شاء الله لوفّقهم فآمنوا به وأطاعوه, ولو شاء لهدى الناس أجمعين، ولو شاء الله ما اقتتلوا، وما اختلفوا، ولكن الله يفعل ما يريد, ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 112].

علم الله كل شيء، وخلق كل شيء، وكتب كل شيء، وشاء كل شيء، هو الخالق وما سواه مخلوق، هو الملك وما سواه مملوك, ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54], وهو -سبحانه- الحكيم وما سواه محكوم، حكيم في كل ما فعله وخلقه، فمصدر جميع ذلك عن حكمة تامة.

أيها الأحبة الكرام: إن الخلق والأمر، والقضاء والشرع، كل ذلك مصدره علم الرب وعزته وحكمته، فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي ألا يخرج مخلوق عن قدرته, وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به، وتقدمه عليه, وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب -سبحانه-.

وكذلك أمره -سبحانه- بعلمه وحكمته وعزته، فهو العليم بخلقه وأمره، الحكيم في خلقه وأمره، العزيز في ملكه وسلطانه, ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى، والحكمة من صفاته العلا، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة كما قال -سبحانه-: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2], والحكمة هي سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهي تتضمن العلم بالحق، والعمل به، والدعوة إليه، فكل هذا يسمى حكمة.

أيها الأحبة: تتجلى حكمة الله الرائعة في كل ما خلقه وأمر به، وكله خير من جهة إضافته إليه -سبحانه-، وأن جهة الشر منه من جهة إضافته إلى العبد، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : “لَبَّيْكَ! وَسَعْدَيْكَ! وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ” (أخرجه مسلم),

فهذا النفي يقتضي امتناع إضافة الشر إليه -سبحانه-، فلا يُضَاف إلى ذاته، ولا أسمائه، ولا صفاته، ولا أفعاله, فذاته -سبحانه- منزّهة عن كل شرّ, وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب, وصفاته صفات كمال لا نقص فيها, وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك ألبتة.

عباد الله: إن أشر الشر هو الذنوب وعقوباتها، وهي شرور النفس، وسيئات الأعمال, فإن سبب الذنب الظلم والجهل، وهما من نفس العبد, كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى وهي صفات ذاتية للرب، وذات الرب مستلزمة للحكمة والخير والجود والإحسان، وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه، وهو أمر خارج عن نفسه, كما قال -سبحانه-: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [يوسف: 53].

أيها الفضلاء الكرام: إن الله -تعالى- أعلم بالمحل الذي يصلح لهذا الفضل، ويليق به، ويثمر به، ويزكو به, وهو -سبحانه- أعلم بمن يعرف قدر هذه النعمة، ويشكره عليها, قال -سبحانه-: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: 53], وأصل الشكر: هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته، والخضوع له، والتقرب إليه بما يرضيه.

عباد الله: كل رجل، وكل امرأة، وكل عبد يتقلب بين نعمة من ربه، وذنب من نفسه, فعليه أن يحدث للنعمة شكرًا، وللذنب استغفارًا، ويبوء إلى الله بنعمته عليه، ويبوء بذنبه، ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وهذا، رجوع عبد مطمئن إلى ربه منيب إليه، قال -صلى الله عليه وسلم-: “سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ” (أخرجه البخاري).

فالخير كله من الله، والنعم كلها من الله, قال -سبحانه-: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(54)﴾ [النحل: 53، 54], فالذي انفرد بإعطائكم ما تحبون، وصرف عنكم ما تكرهون، هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، ولكن أكثر الناس يظلمون أنفسهم، ويجحدون نعمة ربهم عليهم.

والله -عزَّ وجلَّ- هو الذي يحبب الإيمان إلى العباد، ويزيّنه في قلوبهم، بما أودع فيها من محبة الحق وإيثاره، وبما نصب على الحق من الأدلة على صحته، وقبول القلوب والفِطَر له، وتوفيقهم للإنابة إليه، قال -سبحانه-: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ [الحجرات: 7], فكل فضل ونعمة وخير يحصل للعباد إنما حصل لهم بفضل الله وإحسانه إليهم، لا بحولهم ولا بقوتهم، وهو العليم بمن يشكر النعمة فيوفقه لها، ممن لا يشكرها ولا تليق به، فيضع فضله؛ حيث تقتضيه حكمته: ﴿فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحجرات: 8].

والله -عزَّ وجلَّ- وإن كان أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فإنه كذلك أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، لا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، ولا يناقض جوده وكرمه، ورحمته وفضله، حكمته وعدله.

أيها الأحبة الكرام: إن أجلّ النعم التي أنعم الله بها على العباد هي نعمة الإيمان بالله، ومعرفته ومحبته وطاعته، والرضا به، والإنابة إليه، والتوكل عليه، ولزوم عبوديته، وهذا كله من تمام حكمته ورحمته بعباده.

والله -سبحانه- من حكمته خلق الأضداد كما خلق الليل والنهار, والحر والبرد, والداء والدواء, والعلو والسفل, والذكر والأنثى, واليابس والماء.

وكذلك الأرواح منها الطيب والخبيث, وكذلك القلوب منها الشريف الزكي, ومنها القلب الخسيس الخبيث, وهو -سبحانه- أعلم بالقلوب الزاكية، والأرواح الطيبة، التي تصلح لاستقرار نعم الله فيها، وإيداعها عندها، ويزكو بذرها فيها.

فليس من الحكمة أن يبذر الإنسان البر في الصخور والسباخ، وفاعل ذلك غير حكيم ولا رشيد, فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة في المحال التي هي أخبث المحال، فهو -سبحانه- العليم الحكيم، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ويضع أمانته.

وهو -سبحانه- أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده، ويقوم بحقها، ويصبر على أوامره، ويشكره على نعمه، ويعظّمه ويتقرب إليه -سبحانه-، ومَن لا يصلح لذلك.

وكذلك الله -عزَّ وجلَّ- أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رسله، وإبلاغ دينه، فإن الله نظر في قلوب العباد، فرأى قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- خير قلوب أهل الأرض، فاختصه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته.

فالله -عزَّ وجلَّ- إذا علم مَن محل أهلية لفضله ومحبته، ومعرفته وتوحيده، حبّب إليه ذلك، ووضعه فيه، وكتبه في قلبه، وأعانه عليه، ويسَّر له طرقه، وأغلق دونه الأبواب التي تحول بينه وبين ذلك، ثم تولاه بلطفه وتدبيره، فلا يزال يعامله بلطف، ويختصه بفضله ورحمته، ويمده بعونه، ويريه مواقع إحسانه إليه، وبره به، فيزداد العبد به معرفة، وله محبة، وإليه إنابة، وعليه توكلاً، وله ذكرًا.

يا عباد الله: القلب الزاكي هو الذي اقتضت حكمة الله وكرمه وإحسانه أن يبذر فيه بذور الإيمان والمعرفة، وأن يسقيه بماء العلم النافع؛ ليقطف منه صاحبه ثمرة العمل الصالح، وصرف عنه الآفات المانعة من حصول الثمرة, فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كريم, كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأنْبَتَتِ الْكَلا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا, وَأصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلاً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ الله، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ” (متفق عليه).

فشبّه -صلى الله عليه وسلم- القلوب بالأرض، والوحي بالماء, فمن الأرض أرضٌ طيبة قابلة للماء والنبات, وهذه الأرض بمنزلة القلب القابل لهدى الله ووحيه, المستعد لزكاته فيه, وثمرته ونمائه, وهذا القلب خير قلوب العالمين, ومن الأرض أرض صلبة قابلة لحفظ الماء, لكن ليس فيها قوة الإنبات, فهذه الأرض بمنزلة القلب الذي حفظ الوحي، وأداه إلى من هو أفقه منه, وهذا في الدرجة الثانية, ومن الأرض أرض قيعان, وهي الأرض المستوية التي لا تنبت؛ لكونها سبخة، فإذا وقع عليها الماء ذهب ضائعًا، لم تمسكه لشرب الناس, ولم تنبت به كلاً, لأنها غير قابلة, وهذا حال أكثر الخلق، وهم الأشقياء الذين لم يقبلوا هدى الله، ولم يرفعوا به رأسًا، ومن كان بهذه المثابة فليس من المسلمين.

أيها الفضلاء: لا شك أن نفس الإنسان جاهلة ظالمة، فقيرة محتاجة للعلم والهدى, والشر الذي يحصل للإنسان نوعان: عدم, ووجود, فالأول: كعدم العلم والإيمان، وعدم الصبر وإرادة الخير، وعدم العمل بذلك, والثاني: الشر الوجودي: كالعقائد الباطلة، والإرادات الفاسدة.

فمتى عدم العلم النافع والعمل الصالح من النفس، لزم أن يخلق الشر والجهل وموجبهما ولا بد؛ لأن النفس لا بد لها من أحد الضدين، فإذا لم تشتغل بالأمر النافع الصالح، اشتغلت بالضد الضار الفاسد.

ولو أن ملكًا من ملوك الدنيا جعل خاصته وحاشيته سفلة الناس وسقطهم من أهل الردى والدناءة والقبائح، لقدح الناس في ملكه، وقالوا: لا يصلح للملك؛ لاختياره ما لا يليق به ولا بملكه, فما الظن بمجاوري الملك الأعظم! مالك الملوك في داره، وتمتعهم برؤية وجهه، وسماع كلامه، ومرافقتهم للملأ الأعلى، الذين هم أطيب خلقه، وأزكاهم، وأشرفهم.

أفيليق بذلك الرفيق الأعلى، والمحل الأسنى، والدرجات العلا، أرواح سفلية أرضية، قد أخلدت إلى الأرض، وعصت ربها، وعكفت على شهواتها كالحيوانات والبهائم السائمة.

فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق، وبين شر البرية وشر الدواب في دار واحدة؟! ويكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب؟! هذا لا يكون أبدًا، وتأباه حكمة أحكم الحاكمين, (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [القلم: 35، 36], وهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين المؤمن والفاسق في دار واحدة يوم القيامة, ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28].

أيها الأخ الفاضل الكريم:  الله -عزَّ وجلَّ- خالق كل شيء، خلق الليل والنهار، والماء والتراب، والحر والبرد، والسهل والحزن، والضار والنافع، والبر والفاجر ونحو ذلك؛ لنعرف كمال قدرته، وكمال حكمته، وكمال رحمته, فكمال القدرة بخلق الأضداد، وكمال الحكمة بتنزيلها منازلها، ووضع كل منها في موضعه، وكمال الرحمة بالانتفاع بها، والاتعاظ بها.

والمؤمن يربط القدرة بالحكمة، فلا يكون شيء إلا بقدر الله ومشيئته وحكمته، وكما لا يخلو مخلوق من علم الله، فكذلك لا يخلو من حكمته, فكل ما يحصل من النار من نفعها هو من فضل الله ورحمته، وما يحصل بها من شر هو من طبيعتها التي خلقت عليها، والتي لا تكون نارًا إلا بها.

وكذلك النفس، فما يحصل لها من خير فهو من فضل الله ورحمته، والله خالقها، وخالق كل شيء قام بها، وما يحصل لها من شرّ فهو منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وجهلها, فالنفس ليس عندها خير يحصل لها منها، بل ذلك إلى الله، والنفس متحركة بالذات، فإن لم تتحرك بالخير تحركت بالشر فضرّت صاحبها, والنفس لا تكون إلا مريدة عاملة، فإن لم توفق للإرادة الصالحة وقعت في الإرادة الفاسدة والعمل الضار، قال -سبحانه-: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22)﴾ [المعارج: 19-22].

فخلق الله -عزَّ وجلَّ- الإنسان على هذه الصفة، ومن كان على غيرها فلأجل ما زكَّاه الله به من فضله وإحسانه من الإيمان والتقوى, وخلقه على هذه الصفة هو من الأمور التي يحمد عليها الرب -سبحانه-، وهو موجب حكمته وعزته، وهي بالنسبة إلى الخالق -سبحانه- خير وعدل وحكمة, وبالنسبة إلى العبد تنقسم إلى خير وشر، وحسن وقبيح، كما تكون بالنسبة إليه طاعة ومعصية، وبرًا وفجورًا.

عباد الله: جميع ما خلقه الله -عزَّ وجلَّ- فله فيه حكمة: والحكمة تتضمن شيئين:

أحدهما: حكمة تعود إليه -سبحانه- يحبها ويرضاها، وهي الإيمان والتوحيد.

الثاني: حكمة تعود إلى عباده، وهي نعمه عليهم، يفرحون بها، ويتلذذون بها، وهذا في المخلوقات والمأمورات, أما في المأمورات: فإن الطاعات كلها يحبها الله ويرضاها، ويفرح بها، يفرح -سبحانه- إذا فعل العبد ما أمره الله به، ويغار إذا فعل العبد ما نهاه عنه, وكذلك الطاعات عاقبتها سعادة العبد في الدنيا والآخرة، يفرح بها العبد المطيع، فكل ما أمر الله -عزَّ وجلَّ- به له عاقبة حميدة تعود إليه وإلى عباده، ففيها حكمة له، وفيها رحمة بعباده, وكذلك المخلوقات، فكل ما خلقه الله خلقه لحكمةٍ تعود إليه يحبها, وخلقه رحمة بالعباد ينتفعون بها.

ومن أعظم حكمة الرب وكمال قدرته خلق الضدين، إذ بذلك تُعرف ربوبيته وقدرته وملكه، كما خلق الليل والنهار، وكما خلق جبريل وإبليس, فخلق أطيب الأرواح وأزكاها وأطهرها وأفضلها، وأجرى على يديه كل خير, وخلق أخبث الأرواح وأنجسها وأرداها، وأجرى على يديه كل شر وكفر وفسوق وعصيان, وجعل -سبحانه- الطيب منحازًا إلى تلك الروح الطيبة، والخبيث منحازًا إلى هذه الروح الخبيثة, فتلك تجذب كل طيب, وهذه تجذب كل خبيث, ولكل منهما عمل ودار. وأي حكمة وقدرة أبلغ من هذا؟.

وقد خلق الله الإنسان من الأرض، وهي مشتملة على الطيب والخبيث، والله -عزَّ وجلَّ- يريد تخليص الطيب من الخبيث بالوحي الذي أنزله، ليجعل الطيب مجاورًا له في دار كرامته، مختصًّا برؤيته والقرب منه, ويجعل الخبيث في دار الخبث، حظه البعد منه، والهوان والطرد والإبعاد؛ إذ لا يليق بحمده وحكمته وكماله أن يكون مجاورًا له في داره مع الطيبين وهو خبيث فاسد نجس.

وأقام -سبحانه- للنفوس الطيبة داعيًا يدعوها إليه, وإلى مرضاته وكرامته, فلبّت دعوته واستجابت لأمره, فعلم عباده حكمته في تخصيصها بمثوبته وكرامته, فظهر للعباد حمده التام، وحكمته البالغة في الأمرين، وعلموا أن خلق ولي الله وعبده جبريل وجنوده وحزبه، وخلق عدو الله إبليس وجنوده وحزبه، هو عين الحكمة والمصلحة، وأن تعطيل ذلك منافٍ لمقتضى حكمته وحمده, فسبحان من هذا خلقه، وهذا أمره، وهذه حكمته: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18].

عباد الله: إن الرضا بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائمه، ولا يدخل تحت اختياره مستحبّ، وهذا كالمرض والفقر، وأذى الخلق له، والحر والبرد ونحو ذلك.

والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره، مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه كأنواع الظلم والفسوق والعصيان حرام يعاقب عليه، وهو مخالفة لربه -تعالى-، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه. فإن قيل كيف يريد الله -عزَّ وجلَّ- أمرًا لا يحبه ولا يرضاه؟!.

قيل: الله -سبحانه- يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره، وكونه سببًا إلى ما هو أحب إليه من غيره، كما خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال، والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد، ووقوع ما يغضب الرب -تعالى-, فهو مبغوض للرب، مسخوط له، لعنه الله ومقته، وغضب عليه.

ومع هذا فهو وسيلة إلى محابّ كثيرة للرب -تعالى- ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها:

منها: ظهور قدرة الرب للعباد في خلق المتضادات، فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات، وسبب كل شر، في مقابلة جبريل التي هي أشرف الذوات وسبب كل خير.

ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية كالقهار، وشديد العقاب، والمعز المذل، والنافع الضار، ونحوها، فإن هذه الأسماء والأفعال من كمال ذاته، فلا بد من وجود متعلقها، ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملك، لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.

ومنها: ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره، فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد.

ومنها: ظهور آثار الأسماء المتضمنة للحكمة والخبرة، فإنه -سبحانه- الحكيم الخبير، الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه.

فلا يضع -سبحانه- الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل، ولا الفضل والعطاء موضع الحرمان والمنع، ولا الثواب موضع العقاب، ولا الخفض موضع الرفع، ولا العز مكان الذل، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به, فهو -سبحانه- الحكيم العليم الذي يعلم أين يجعل رسالته، وأعلم بمن يصلح لقبولها، ويشكره على وصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك. وهو أحكم من أن يمنعها أهلها، وأن يضعها عند غير أهلها.