سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- (55) غزوة بدر الثانية وغزوة دومة الجندل

عناصر الخطبة

  1. غزوة بدر موعد عزة وقوة المسلمين بدون قتال
  2. سبب حدوث غزوة دومة الجندل
  3. أحداث غزوة دومة الجندل
  4. من فوائد غزوة دومة الجندل
اقتباس

هكذا كان الإسلام ينتشر بفضل الله -عَزَّ وَجَل- ثم بحكمة وحنكة الحبيب -عليه الصلاة والسلام- وبإخلاص واجتهاد وبذل وتضحية الصحابة الكرام -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين-، لقد كانت غزوة دُومَة الجندل واحدة من أبرز الغزوات التي ساهمت في ترسيخ معنى الطاعة والتحمل، والقدرة، والبذل، والتضحية، والعطاء في سبيل الله، حيث…

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمـدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن نهج نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

إخوة الإيمان: أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فالسعيد من راقب الله وأحسن تعامله مع ربه، والسعيد من اتبع هدي نبيه -صلى الله عليه وسلـم-؛ فالمسلم العاقل يتحرى سلامة المنهج، وسلامة المنهج باتباع هدي القرآن والسنة، وما أحوجنا في واقعنا لتتبع سيرة حبيبنا ونبينا محمـد -صلى الله عليه وسلـم-، والوقوف على دروسها وعبرها.

وها هي الخطبة الخامسة والخمسون من سلسلة خطب السيرة النبوية وتطبيقاتها المعاصرة، وكنا قد انتهينا من الحديث عن غزوة ذات الرقاع في نجد، والتي كانت في ربيع الآخر من السنة الرابعة، وكيف انتهت دون قتال؛ لهروب بني غطفان لأعالي الجبال.

ونواصل الحديث بذكر ما كان بعد ذلك من أهم أحداث السيرة النبوية، فكانت غزوة البدر الثانية أو بدر الموعد كما تُسمى، فقد كان أبو سفيان قد قال عند انصرافه من غزوة أحد متوعدًا المسلمين: موعدكم وإيانا العام القابل ببدر.

وكانت غزوة أحد في العام الثالث الهجري، فلما كان شعبان، وقيل: ذو القعدة من العام القابل خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- للموعد في ألف وخمسمائة، وكان الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة -رضي الله تعالى عنهما أجمعين-، فانتهى -صلى الله عليه وسلـم- إلى بدر، فأقام بها ثمانية أيام ينتظر المشركين.

لكن المفاجأة أنه -صلى الله عليه وسلـم- لم يجد أحدا من المشركين؛ فما الذي جرى؟ لقد “خرج أبو سفيان بالمشركين من مكة، وهم ألفان، ومعهم خمسون فرسًا، فلما انتهوا إلى مَرِّ الظَّهْرَانِ -على مرحلة من مكة- قال لهم أبو سفيان: إنَّ العام عام جدب، وقد رأيت أني أرجع بكم، فانصرفوا راجعين، وأخلفوا الموعد، فسُميت هذه بدر الموعد، وتُسمى بدر الثانية“.

لقد كان لخروج النبي -صلى الله عليه وسلـم- بجيشه للموعد أثر إعلامي كبير وانتصار معنوي عظيم؛ فقد ارتدت حملة قريش الإعلامية التي رامت تخويف المسلمين إلى نحورهم، وانتصر المسلمون عليهم انتصارا إعلاميا ومعنويا عظيما بعد أن جَبن المشركون وأخلفوا الوعد الذي قطعوه على أنفسهم؛ فنصر الله جنده، وخذل عدوه؛ فالموعد الذي ضربه أبو سفيان متحديا عاد في نحره، وكان سببا لإظهار قوة المسلمين آن ذاك معلنا للجميع أن المسلمين قوة لا يستهان بها، وعلى عدوها أن يخشاها وأن يحذر لقاءها.

ولذا بعد هذه الغزوة كانت الغزوة الخارجية وكان التوضيد الداخلي، فبعدها بأشهر وبالتحديد في شهر ربيع الأول من السنة الخامسة للهجرة تحرك الجيش الإسلامي بقيادة رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- نحو سوق يقال له: دُومَةِ الْجَنْدَلِ قريبًا من الشام؛ مما يؤكد أن النبي -صلى الله عليه وسلـم- كان يتابع ويرقب ما يجري حوله؛ ليتعرف على الموالين والمعادين؛ لتأمين دولة المسلمين بالمدينة، والوقوف على كل ما يجري من حوله، ويظهر هذا جليا في غزوة عُرفت باسم غزوة دومة الجندل؛ فما سببها؟ وما الذي حدث فيها؟ وكيف انتهت؟

أما سببها فقد ذُكر للنبي -صلى الله عليه وسلـم- أن بدُومةِ الجندَل جمعًا كثيرًا، وأنهم يظلمون مَنْ مرَّ بهم ممن يجلبون البضائع والمؤن إلى المدن، وكان بدومة الجندل سوقٌ عظيمٌ وتجارٌ، انضم إليهم قَوْمٌ من العَرب كثيرٌ، وهم يريدون أن يَدْنوا من المدينة، فكان وجهودهم بمثابة تهديد جغرافي للمدينة وما حولها، وفيه قطع لطرائق الناس، وإرهابٌ لهم، وبثٌ للرعب في قلوبهم.

قرر -صلى الله عليه وسلـم- محاربتهم قبل أن يستفحل خطرهم، فندب -عليه الصلاة والسلام- الناس، فَخَرَجَ فِي ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النّهَارَ، ومعه دليلٌ له من بني عُذْرَةَ يُقال له مَذْكورٌ؛ هَادٍ خِرّيتٍ -ماهر بالطرق ومسالكها-. وهذه الطريقة في المسير من مهارته -صلى الله عليه وسلـم- ؛ ففيها تضليل للعدو، وكتمان لسير جيش المسلمين.

فلمّا دَنا من دُومَةِ الجندَل أخبرَه دليلُه بسوائِم بني تميمٍ، فسار حتى هجم على ماشيتهم ورِعائِهم، فأصاب مَنْ أصاب، وهربَ مَنْ هربَ في كلِّ وَجهٍ، وجاء الخبرُ أهلَ دُومَةِ الجندَل فتفرقوا، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- بساحتهم، فلم يجد فيها أحدًا؛ فقد أصابهم الهلع والخوف لما علموا بمقدمه ولوا مدبرين، وتركوا للمسلمين ما احتملوه من غنائم، لكنه قبل أن يعود من دومة الجندل “أقام -صلى الله عليه وسلـم- بها أيامًا، وبثَّ السرايا، ثم رجعوا وأخذَ محمـد بنُ سَلمَةَ رجلًا منهم، فأتَى بهِ لرسولُ الله -صلى الله عليه وسلـم-، فسأله عن أصحابه، فقال: هربوا . فعرض عليه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلـم- الإسلام فأسلم، ثم رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- قبل أن يصل إليها، ولم يلق كيدًا، فأقام بالمدينة بقية سنته.

ولعل النبي -صلى الله عليه وسلـم- بخروجه هذا أراد أن يؤمّن الحدود الخارجية بعدما تمكن من تأمين الجهات والبقاع الداخلية في المدينة وما حولها، ولتنطلق بعد ذلك دعوة التوحيد نحو العالمية بإرسال الرسل والسفراء واستقبال الوفود، وبهذا استطاع النبي -صلى الله عليه وسلـم- أن يبسط الأمن، وينشر السلام في المنطقة كلها بالسيطرة على جنباتها.

وقد امتازت هذه الغزوة بأمرين:

الأول: أنها أول غزوة خارجية، بعيدة عن المدينة من جهة الشام، فكان ذلك إعلانًا بدعوة الإسلام بين سكان البوادي، وأطراف الشام الجنوبية، وإشعارًا بقوة الإسلام وسطوته، وإرهابًا لقيصر وجنوده المتاخمين لهذه الحدود، وقطعًا للطريق على قريش في إيجاد تحالفات أخرى لها.

والأمر الثاني: أن قطع الجيش لهذه المسافات الطويلة كان تدريبًا لهم على السير إلى الجهات النائية، وفي أرض لم يكن لهم عهدٌ بها من قبل، فكانت فاتحة تسيير الجيوش الإسلامية للفتوحات العظيمة في بلاد آسيا وإفريقيا فيما بعد، كما أنها أكدت عمليًا على أن رسالة الإسلام ليست مقصورة على العرب وحدهم، بل هي رسالة عالمية.

ولعلّ في أخبار ابن حبان: ما يؤكد هذا الكلام حيث يقول: “ثم قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- وفد من مُزَيْنَةَ، وهو أول وفد قدم عليه في رجب وفيهم بلال بن الحارث المزني في رجال من مُزَينة، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- : “أنتم مُهَاجِرُونَ أَيْنَمَا كُنْتُمْ“! فرجعوا إلى بلادهم.

ثم تتابعت بعد ذلك الوفود على رسول الله -صلى الله عليه وسلـم-، يسألون عن الإسلام وكان من بينهم “ضمام بن ثعلبة، بعثه بنو سعد بن بكر، فقال: يا محمـد ! أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: “صَدَقَ“، قال: فمن خلق السماء؟ قال: “الله“، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: “الله“، قال: فمن نصب هذه الجبال؟ قال: “الله“، قال: فمن جعل فيها هذه المنافع؟ قال: “الله“، قال: فبالذي خلق السماوات والأرض، ونصب الجبال، وجعل فيها هذه المنافع هو الله الذي أرسلك؟ قال: “نعم“؛ قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: “صدق“، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: “نعم“؛ قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال: “صدق“، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: “نعم“، قال: فو الله الذي بعثك بالحق! لا أزيدن عليهن ولا أنقص منهن شيئًا، فلما قفا قال النبي -صلى الله عليه وسلـم- : “لئن صدق ليدخلن الجنة”! فأسلم ضِمَامُ ورجع إلى قومه بالإسلام” وأصل القصة عند مسلم.

هكذا كان الإسلام ينتشر بفضل الله -عَزَّ وَجَل- ثم بحكمة وحنكة الحبيب -عليه الصلاة والسلام- وبإخلاص واجتهاد وبذل وتضحية الصحابة الكرام -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين-.

لقد كانت غزوة دُومَة الجندل واحدة من أبرز الغزوات التي ساهمت في ترسيخ معنى الطاعة والتحمل والقدرة والبذل والتضحية والعطاء في سبيل الله، حيث انتقل الصحابة إلى دومةِ الجندل عابرين لآلاف الأميال؛ حُسبةً لله، وتأسيسًا لعالمية التوحيد والإسلام، التي هي اليوم أمانة في عنق كل مسلم ومسلمة لنشرها بكل الوسائل الممكنة العصرية المتاحة ليصل نورها وسماحتها للعالمين؛ فو الله أن العالم اليوم أحوج ما يكون لرسالة الإسلام الصادقة، ورسالة التوحيد الخالصة.

نسأل الله تعالى أن يستخدمنا وإياكم وكل مسلم ومسلمة لنصرة دينه وكتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلـم- .

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا اللهم هداة مهتدين، ومفاتيح خير مباركين.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.