أسباب انشراح الصدر (8) حسن الظن بالعباد

عناصر الخطبة

  1. معنى حسن الظن بالعباد
  2. فضائل حسن الظن بالمسلمين
  3. مساوئ سوء الظن بالناس ومفاسده
  4. الوسائل المعينة على حسن الظن بالناس
اقتباس

إن حسن ظن المسلم بأخيه المسلم يؤدي إلى سلامة الصدر، وتقوية روابط الألفة والمحبة بين أبناء المجتمع المسلم، فلا تحمل الصدور غلاً ولا حقدًا، وقد نهانا ربنا سبحانه وتعالى عن الظن السيئ.. ومن ساء ظنه بالناس كان في تعب وهم لا ينقضي، فضلاً عن خسارته لكل من يخالطه حتى أقرب الناس إليه إذ من عادة الناس ..

الخطبة الأولى:

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى؛ الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر؛ لا تخيلاً ووهمًا، الباطن؛ تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..

معاشر الصالحين: حقّ لمن أيقن أن الموت مدركه والقبر منزله، والآخرة موعده، وبين يدي الله غدًا موقفه – أن يعمل عمل الصلحاء ويكدح لمعاده كدح الأصحاء، ويردع هواه ردع الأعداء ويعد للرحلة إعداد السعداء.

ومن أعظم ما يعد العبد للقاء مولاه حسن الظن به وبكريم عفوه وواسع مغفرته -جل في علاه-.

وتكلمنا -فيما مضى- عن حسن الظن بالله وعن أسباب المغفرة التي منحنا إياها -جل في علاه-، ويندرج ذلك كله تحت العنوان البارز "البحث عن انشراح الصدر"، وسنتكلم اليوم -إن شاء الله تعالى- عن "حسن الظن بالناس"، ولا يخفى في ذلك من حصول الانشراح والانفراج.

معاشر الصالحين: إن حسن ظن المسلم بأخيه المسلم يؤدي إلى سلامة الصدر، وتقوية روابط الألفة والمحبة بين أبناء المجتمع المسلم؛ فلا تحمل الصدور غلاً ولا حقدًا، وقد نهانا ربنا -سبحانه وتعالى- عن الظن السيء فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات: 12].

قال ابن كثير -رحمه الله في تفسير الآية-: "يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن وهو التهمة والتخون للأقارب والأهل والناس في غير محله فيجتنب كثيرا منه احتياطا".

ومن لطيف ما فُسرت به هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ الأصل في المؤمن ألا يظن في أخيه سوءًا؛ فإن حصل وظن به سوءًا جاء بعده النهي عن الظن ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ أي لا تتجسسوا على الذي ظننتم به السوء؛ من أجل التثبت من ظنكم، فإن حصل وظننتم وتجسستم جاء بعد ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ يعني ظننت وتجسست وثبت الأمر لديك فاستر ولا تفضح ولا تغتب ولا تنشر سر أخيك واستر عورته عسى الله أن يستر عورتك يوم تكشف العورات.

ومع الأسف -ولا تحتاجون أيها الأحباب أن أقول لكم- إن مجتمعنا الإسلامي اليوم قد بعد كثيرًا عن هذه المعاني إلا من رحم الله حتى أصبح الكثير منا يستحق أن يُطلق عليهم عشاق الأسرار وهواة هتك الأستار..

وهذا خلل يهد كيان الأمة ويضربها في الصميم، والسعيد من شغل بنفسه؛ إنك -أيها العبد- إذا أردت من تتجسس عليه وتتبع عورته فلن تجد أفضل من نفسك؛ فإنك -والله- لو تفرغت لعيوب نفسك فما كفاك عمرك.

يقول الإمام الغزالي -رحمه الله- كلامًا نفيسًا: "اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير، فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك… " إلى أن يقول".. وسبب تحريم سوء الظن أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءًا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل فعند ذلك لا يمكنك ألا تعتقد ما علمته وشاهدته وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بإذنك ثم وقع في قلبك؛ فإنما الشيطان يلقيه إليك فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق" انتهى كلامه -رحمه الله-.

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الكعبة قال: "مرحبًا بك من بيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك، إن الله حرم منك واحدة وحرم من المؤمن ثلاث، دمه وماله وأن يظن به ظن السوء" أخرجه البيهقي وحسنه الألباني.

وإليكم هذا الحديث الذي يحصننا من خلاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كل عوامل التفريق التي يبثها أعداء الأمة اليوم فينا تحريشًا وفُرقة واختلافًا؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا" أخرجه البخاري ومسلم.

إذا كان أبناء المجتمع بهذه الصورة المشرقة فإن أعداءهم لا يطمعون فيهم أبدًا، ولن يستطيعوا أن يتبعوا معهم سياستهم المعروفة "فرِّق تسد"؛ لأن القلوب متآلفة والنفوس صافية.

والظن في أصله -أيها الأحباب- مبني على التخمين بسبب كلمة أو عمل محتمل، ومن ثم كانت نتيجة الظن في الغالب الوقوع في مشاكل عديدة لا مبرر لها.

كما أن الظن يجعل تصرف صاحبه خاضعًا لما في نفسه من تهمة لأخيه المسلم، ويتحكم الظن في التسويلات النفسية والاتجاهات القلبية حتى تجد من يظن السوء يحمل لمن يظن به أطنانًا من التهم بناها خياله المريض، وكدستها أوهامه، ولذا نهى الحبيب -صلوات ربي وسلامه عليه- عن الظن بقوله: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث".

وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- أن سوء الظن يكون محرمًا إذا توافرت فيه ثلاث شروط:

أولها: أن يكون من يُساء به الظن مسلمًا، ثانيها: أن يستقر سوء الظن في النفس وتصير التهمة التي يتهم المسلم أخاه بها شيئًا يترتب عليه أن يعامل المسلم أخاه حسبما استقر في نفسه، ثالثها: أن يكون المتهم الذي يساء الظن به ظاهر الصلاح والعدالة بمعنى أنه غير مرتكب لكبيرة ولا مُصِرّ على صغيرة فيما يبدو للناس، أما فيما بينه وبين الله تعالى فلا دخل للعباد فيه.

وأنا أريد أن أقف عند الجملة الأخيرة من كلام أهل العلم "أما فيما بينه وبين الله تعالى فلا دخل للعباد فيه"، إن بعض الناس لا همّ لهم إلا تتبع العورات تجد أحدهم يصبح ويمسي ولا همّ له إلا الإيقاع بأخيه يتربص به، بل والله لقد عرفنا أناسًا يؤجرون من يأتيهم بالأخبار فإذا ما ظفروا بخبر كادت قلوبهم تطير من الفرح، والله ما هذه حال المؤمن !!

المؤمن الذي إذا رأى في أخيه ما لا يسر اهتم لحاله وتأثر ودعا له بظهر الغيب، وإن وجد مجالاً نصحه برفق ولين، أما الذي يتربص بأخيه المسلم ويتتبع عورته ويتمنى ذلته ويتمنى فضيحته فهذا متوعَّد بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" رواه أبو داوود.

كثير من هؤلاء الذين ابتلوا بتتبع العورات تجد عندهم المصائب العظام؛ مثلا تجد أحدهم يتعامل بالربا ولا ينظر إلى نفسه، لا ينظر إلا إلى أخيه إن بدرت منه هفوة أو زلة، ولا ينظر إلى زلته التي هي من أقبح الزلات بل هي حرب على رب الأرض والسماوات، قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ(279)﴾ [البقرة: 278- 279].

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته" رواه ابن ماجه.

وعن سهل بن سعد الأنصاري -رضي الله عنه- أن رجلاً اطلع من جحر في باب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِدْرًى -يعني حديدة مثل المشط- يمشط رأسه فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو أعلم أنك تنظر طعنت به في عينك، إنما جعل الله الإذن من أجل البصر" رواه البخاري ومسلم.

إننا -أيها الأحباب- في حاجة ماسة وخصوصًا اليوم إلى هذه الآداب الرفيعة والأخلاق الكريمة؛ لنرتقي ونخرج من حالة التخبط التي نعيشها لتتزكى نفوسنا ويتهذب سلوكنا.

فوالله إنه لمن العيب أن يكون عندنا هذا التراث العظيم من كتاب وسنة وسيرة وأقوال أهل العلم، ونكون نحن على هذه الشاكلة وعلى هذه الأخلاق؛ ولا غرابة، لا غرابة -أيها الأحباب- أن يصل المسلمون إلى هذه الحال؛ فإن إعلامهم مرئيًّا ومسموعًا ومقروءًا إلا من رحم الله كله فضح للعورات واغتياب وانتهاك للحرمات.

وهذه المقاهي المنتشرة في كل مكان والتي لا يمر المسلم من أمامه حتى يعرف من هو وأصله وفصله وماضيه وحاضره ويقيم منظره ولباسه ومركبه إلا من رحم الله.

فما الذي حصل لنا معشر المسلمين؟! ما الذي دهانا لنراقب ألسنتنا التي أصبحت كالمقاريض تنهش الأعراض وتتذلل من أجل الأغراض؟! هل نسينا وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ التي يقول في آخرها: "ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم".

جعلني الله وإياكم ممن ذُكر فنفعته الذكر وأخلص لله عمله سرًا وجهرا، آمين، آمين والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله سامع السر والنجوى وكاشف الضر والبلوى، ومغيث المتلهف قبل الشكوى، ومبلغ المؤمل غاية أمله القصوى، والصلاة والسلام على إمام المتقين وسيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأتباعه إلى يوم الدين.

معاشر الصالحين: لقد كان الرعيل الأول من جيل الصحابة الكرام يربون أبناءهم على هذه المعاني؛ ليبثوا فيهم الرجولة من الصبا ولينشئووهم على مكارم الأخلاق؛ فعن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: أتى علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ألعب مع الغلمان، قال: فسلم علينا فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تحدثن بسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدًا.. قال أنس: والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت. يا لها من تربية فريدة لجيل فريد

فيا عبد الله: احذر من أن يسوّغ لك الشيطان سوء الظن بأخيك؛ فالشروط صارت ظاهرة معروفة لديك والميزان بيديك، ثم إن الظن خطوة أولى نحو منكرات عظيمة فهو ذريعة إلى التجسس، ثم إلى الغيبة؛ فإن من ظن شيئا يريد التأكد فيكون سبيله لذلك التجسس.

ثم إن أصبح على شبه يقين أخذ يحدث بما علم.. فإن كان ما يحدث به يكرهه المتحدث عنه كان غيبة، ويكفي سوء الظن شناعة وفظاعة أنه طريق إلى الغيبة؛ هذه المعصية التي تساهل الناس بخطرها وشرها فوقعوا فيها متناسين ما أعده من النكال والعذاب للمقيمين عليها.

عن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فيعذب في البول –يعني لا يستنزه من بوله- وأما الآخر فيعذب في الغيبة" رواه أحمد وابن ماجه.

وعن سعيد بن زيد -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق" رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: "مَنْ أَكَلَ مِنْ لَحْمِ أَخِيهِ فِي الدُّنْيَا قُرِّبَ لَهُ لَحْمُهُ فِي الآخِرَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: كُلْهُ مَيِّتًا، كَمَا أَكَلْتَهُ حَيًّا، قَالَ: فَيَأْكُلُهُ وَيَكْلَحُ وَيَصِيحُ" والحديث حسنه الحافظ بن حجر في الفتح.

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لما عرج به مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجهوهم وصدروهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" أخرجه الإمام أحمد وأبو داود.

إننا إذ نسوق هذه الأحاديث نرجو أن تكون لنا جميعا -دون استثناء- زاجرًا وواعظًا؛ كي نتوب إلى الله من هذه الكبيرة التي ابتُلينا بها وغدت فاكهة مجالسنا، وتزداد الغرابة ويزداد الأسى -أيها الأحباب- عندما تجلس في مجالس المفروض فيها أنها مجالس علم وذكر فتسمع فيها الأعراض تُنتهك والأسرار تُستباح وكأن الغيبة حرام على فئة وحلال لفئة !! وهذا من مكر الشيطان وتلبيسه ولا حول ولا قوة إلا بالله..

أيها الأحباب: إن الله -تعالى- وضع لنا منهجًا في التعامل مع مثل هذه الحالات التي يُشاع فيها سوء الظن عن إنسان مسلم فضلا عمن عرف بالتقوى واشتهر بالصلاح.. يقول -تعالى في حادثة الإفك التي لم يسلم فيها عِرض خير البرية صلى الله عليه وسلم من إساءة الظن به من قبل المنافقين-: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ [النور: 12].

فهذا عتاب من الله تعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا وقيل المعنى: أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم، وجاء أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته -رضي الله عنهما- وذلك أنه دخل عليها فقالت: يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك كذب، أكنتِ أنتِ يا أم أيوب تفعلين ذلك؟ قالت: لا والله، قال: فعائشة والله خير منك وأطيب، إنما هذا كذب وإفك باطل.

وهناك -أيها الأحباب- العديد من الأسباب التي تعين المسلم على إحسان الظن بالآخرين من هذه الأسباب: الدعاء فإنه باب كل خير؛ فعلى المسلم أن يلجأ إلى ربه -عز وجل- ويسأله أن يرزقه قلبًا سليمًا وأن يطهر قلبه من أمراضه التي تفسد عليه دينه، ولقد كان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو المطهر المعصوم كثيرًا ما يسأل ربه طهارة قلبه وهدايته للخلق الحسن؛ فماذا نقول نحن؟!

من تلك الأسباب: إنزال النفس منزلة الغير؛ فلو أن كل واحد منا عند صدور فعل أو قول من أخيه وضع نفسه مكانه لحمله ذلك على إحسان الظن بالآخرين، وقد بين الله لعباده هذا المعنى كما سبق بيانه حيث قال: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ [النور: 12].

وأشعر الله عباده المؤمنين أنه كيان واحد، حتى إن الواحد يلقى أخاه ويسلم فكأنما يسلم على نفسه ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: 61].

من تلك الأسباب كذلك: حمل الكلام على أحسن المحامل. هكذا كان دأب السلف -رضي الله عنهم-، وإذا كنا نتشرف بالانتساب إليهم، فلنسلك سبيلهم؛ فإن الانتساب ليس دعوة وإنما هو ممارسة، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملاً".

وانظر إلى الإمام الشافعي -رحمه الله- حين مرض وأتاه بعض إخوانه يعوده فقال للشافعي: "قوى الله ضعفك " قال الشافعي: "لو قوى الله ضعفي على قوتي أهلكني" قال الرجل: "يا أبا عبدالله ما أردت إلا الخير" فقال الإمام رحمه الله: "لو دعوت الله عليَّ لعلمت أنك لم ترد إلا الخير"!!! فهكذا تكون الإخوة الحقيقية إحسان الظن بالإخوان حتى فيما يظهر أنه لا يحتمل وجه من أوجه الخير.

من الأسباب كذلك: التماس الأعذار للآخرين؛ فعند صدور قول أو فعل يسبب لك ضيقًا أو حزنًا حاول التماس الأعذار، واستحضر حال الصالحين الذين كانوا يحسنون الظن ويلتمسون المعاذير حتى قالوا: "التمس لأخيك سبعين عذرًا ".

وقال ابن سيرين رحمه الله: "إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرا لا أعرفه".

إنك حين تجتهد في التماس الأعذار تستريح وتريح نفسك من عناء الظن السيء، وتتجنب من إكثار اللوم لإخوانك ولله در القائل:

تأن ولا تعجل بلومك صاحبا *** لعل له عذرا وأنت تلوم

من الأسباب كذلك -وهو أمر في غاية الأهمية-: تجنب الحكم على النيات، وهذا من أعظم أسباب حسن الظن حيث يترك العبد السرائر إلى الذي يعلمها وحده -سبحانه وتعالى-، والله لم يأمرنا بشق الصدور وهذا الأمر -أي الحكم على النيات- هو من التطاول على الله؛ لأنك تحكم على أمر لا يعلمه إلا الله؛ فمن أين لك أن تحكم على نية مسلم وأنت لا تعلم حتى ما في نفسك التي بين جنبيك؟!.

إنه تطاول وسفه وقلة رشد؛ فلان يقصد كذا، فلان فعل هذا؛ لأنه يحب الظهور، فلان يتصدق ليرينا كرمه وجوده، فلان متكبر، فلان كذا وكذا…

أنى لك الإجابة إذا أوقفك هذا العبد بين يدي الله وطلب منك الحجة؛ فلا تحكم على أحد ولا تجزم في نيته، فإن فعلت فاعلم أن لك معه موقفًا بين يدي الله؛ إما أن يقضى لك وإما أن يقضى عليك.

من الأسباب كذلك لتجنب سوء الظن: استحضار آفة سوء الظن؛ فمن ساء ظنه بالناس كان في تعب وهم لا ينقضي، فضلاً عن خسارته لكل من يخالطه حتى أقرب الناس إليه؛ إذ من عادة الناس الخطأ ولو من غير قصد..

ثم إن من آفات سوء الظن أنه يحمل صاحبه على اتهام الآخرين مع إحسان الظن بنفسه؛ فالذي يسيء الظن بالآخرين هو يحسن الظن بنفسه من حيث لا يشعر وهو نوع من تزكية النفس التي نهى الله عنها في كتابه ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم: 32]. وأنكر -سبحانه- على اليهود في هذا المسلك فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ [النساء: 49].

إن إحسان الظن بالناس يحتاج كثير من المجاهدة ، مجاهدة النفس لحملها على ذلك خاصة وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولا يكاد يفتر عن التفريق بين المؤمنين والتحريش بينهم وأعظم أسباب قطع الطريق عليه هو إحسان الظن بالمسلمين.

وإذا كان حسن الظن بالمسلمين واجبًا فإنه في حق الأرحام آكد وأوجب؛ لأن وجوده بين الأرحام يؤدي إلى القطيعة وهذا مشاهد ومعلوم؛ كم من العلاقات الأسرية تمزقت وكم من الأرحام قُطعت بسبب ظن ناتج عن كلمة أو تأويل أو نميمة مشى بها سفيه منحط وضيع بين الأرحام فقطعها، وقطع الأرحام -أيها الأحباب- معصية عظيمة تسبب خراب الديار وانحباس الأمطار وغور مياه الآبار.

عن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" رواه الترمذي وصححه الألباني.

وعن جبير بن مطعم بن عدي -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة قاطع؟" قال ابن أبي عمر قال سفيان: "يعني قاطع رحم" رواه البخاري ومسلم.

وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم".

وقد كان عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- إذا أراد الدعاء يقول: "أنشدوا الله كل قاطع رحم أن يخرج من بيننا؛ فإنه قد بلغني أن أباب السماء مغلقة دون قاطع رحم".

وأنا أناشد الله كل قاطع رحم بيننا أن يتوب إلى الله وأن يتصالح مع رحمه، وأن يصلهم إكرامًا لله وإكرامًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أجل الله ومن أجل رسوله، وسيجد لذلك انشراحًا عظيمًا مع ما سيدخر الله له من الأجر العظيم يوم القيامة.

اللهم أصلح أحوالنا..