المنهج الشرعي في التعامل مع الفتن (1)

عناصر الخطبة

  1. معنى الفتنة
  2. حتمية وقوع الفتن
  3. تفاوت درجات الفتن
  4. فقه التعامل مع الفتن
اقتباس

انظر إلى هذا الفقه العظيم، وكيف كان يقدِّر الفتن بقدرها، وهذا التقدير للفتن بابُ علمٍ يفتحه الله لأهل البصائر من عباده؛ فيقولون الحق، ويهدون إليه، فإذا أهدر هذا الجانب، وقع الزلل؛ وعلى هذا الباب أيضاً يكون العلم عند دفع الفتن إذا تعارَضَتْ ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا. 

أحبتي في الله: المنهج الشرعي في التعامل مع الفتن هو عنوان سلسة بإذن الله -عز وجل- سوف تعرف في هذه الأيام، أول هذه الرسائل أن الفتن واقعة في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- كَونا وقدَرا، لا بدَّ من ذلك، رضي الناس أم لم يرضوا، أخبرنا بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإخباره بذلك -عليه الصلاة والسلام- لابد أنه واقع لا محالة كما أخبر به.

والفتنة في أصلها تعني الامتحان، وكثر استعمالها -كما أخرجوه- للاختبار بالمكروه، ولها معانٍ أخرى؛ في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ستكون فتن". تأمل كيف يصفها -عليه الصلاة والسلام-: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي؛ من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به". أخبر -عليه الصلاة والسلام- أن الفتن واقعة ولا بُد.

وفي الصحيحين من حديث حذيفة -رضي الله عنه- قال كنا عند عمر -رضي الله عنه- فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الفتنة؟ قال حذيفة: أنا. قال:… وكيف؟ قال: قلت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "فتنة الرجل في أهله، وماله، ونفسه، وولده، وجاره، يكفرها الصيام، والصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر" فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر. قال: فقلت: ما لك ولها يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها باباً مغلقا. قال: أفيُكْسَرُ البابُ أم يُفْتَح؟ قلت: لا بل يُكْسَر. قال: ذلك أحرى ألا يغلق أبداً. قال: فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم مَن الباب؟ قال: نعم قال: نعم، كما يعلم أن دون غدٍ ليلة، إني أحدثه حديثاً ليس بالأغاليط. قال شقيق: فهبنا أن نسأل حذيفة مَن الباب، فقلنا لمسروق اسأله، فسأله، فقال: عمر. ففهمنا مِن هذا الباب أن باب الفتن إذا فتح لا يُغلق، ستكثر الفتن، وتختلف الأمور، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والأحاديث الدالة على نزول وقوع الفتن في هذه الأمة كثيرة جداً، فإذا علمنا هذا وتيقناه، وأن الفتن واقعة لا محالة، فلابد من الاستعداد لها بالعلم والعمل جميعاً.

أما العلم فإنه سيقل ويُرفع، كما في الصحيح من حديث ابن مسعود، وأبي موسى -رضي الله عنهم-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن بين يدي الساعة لَأيام ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج"، والهرج هو القتل، وسبب قلة العلم في آخر الزمان لأمور عدة، أولها موت العلماء الذين هم حمـَلتُه وأهله، كما في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوسَ الجُهَّال فسُئلوا فأفتَوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"؛ وتالِيها زُهد الناس في العلم النافع، وانخراطهم عنه -وإن كان منشودا كما هو في زماننا هذا- لعزوف كثير من الناس عن العلم الشرعي، ورغبتهم عنه، وعن معاهده وكلياته.

الأمر الثالث: ترك العمل به، والتحاكم إلى غيره، في حديث زياد بن لبيد -رضي الله عنه- قال: ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئاً فقال: "ذاك أوان ذهاب العلم" قلت: يا رسول الله! وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة، قال: "‏ثكلتك ‏ ‏أمك يا ‏زياد! ‏ ‏إن كنت لأراك من أفقه رجال ‏ ‏بالمدينة. ‏‏أو ليس هذه ‏ ‏اليهود ‏ ‏والنصارى ‏ ‏يقرؤون التوراة والإنجيل، لا يعملون بشيء مما فيهما" أخرجه بن ماجة. فإن كان الأمر كذلك وجب على اللبيب العاقل أن يتزود منه قبل ذهابه.

أما العمل فلأمره -عليه الصلاة والسلام- بالمبادرة به قبل الفتن، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا"، وفيه أيضاً عنه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بادروا بالأعمال ستا: الدجال، والدخان، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة، وخويصة أحدكم".

وإنما أمَرنا -عليه الصلاة والسلام- بالمبادرة بالأعمال قبل الفتن -والله أعلم- بأمور عدة، أولها أن الإنسان وقت الفتن يشتغل بنفسه وأهله فلا يحصل له من الوقت مثلما يحصل له قبل الفتن.

وثانيها: أنه قد لا يمكن من العمل وقت الفتن، بل قد يُمنع من ذلك إما بقتل أو سجن أو تعذيب أو تشريد أو نحو ذلك، فالمبادرة قبل المصادرة.

ثالثها: انشغال القلب هما وتفكيراً فيقل خشوعه والعمل، والفرق بين هذا الوجه والوجه الأول أن الأول انشغال عمل بطلب رزق وحفظ نفس ومال ونحو ذلك، وهذا انشغال عقل وتفكير.

رابعها: التباس الحق بالباطل، واختلاط الأمور في الفتن، وذلك أيضاً لأسباب عدة، إما جهلا بأمور النصوص كما هو حادث عند الكثير، وإما هوانا على عناد النصوص والضرب بها عرض الحائط، ومن ثم نسيان أمر الفتن بشيء من التأويلات الفارغة، كما ينتشر الآن في بعض الرسائل، أن الآن أوان خروج الدجال، فالعرب ليس لهم حاكم -كما يزعم صاحب الرسالة- وأن على الناس أن يستعدوا، فمثل هذه التأويلات التي لا داعي لها هي التي توقع الناس فيما توقعهم، وتسبب الإرباك والوقوع في البلاء الذي أثره أبلغ التأثير في الأمة، فلا يدري الإنسان حينها أين الحق فيتبعه، وأين الباطل فيجتنبه، فالمؤمن مَن وفَّقَه الله للعلم، العلم النافع، والعمل الصالح، نسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء.

من مسائل الفتن، وهي المسألة الأخرى التالية، إذا علمنا أن الفتن لابد أنها واقعة في أمة محمد -عليه الصلاة والسلام- فينبغي أن يُعلم أنها كثيرة جدا، وأنه لا يمكن حصرها في حديث أسامة -رضي الله عنه- قال: أشرف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أطم من آطام المدينة فقال: "هل ترون ما أرى؟" قالوا: لا. قال: "فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر" متفق عليه، واللفظ للبخاري، وفي البخاري -أيضا- عن أم سلمه -رضي الله عنها- أنه استيقظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- فزِعا يقول "سبحان الله! ماذا أُنزل من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتنة؟ مَن يوقظ صواحب الحجرات؟ -يريد أزواجه، عليه الصلاة والسلام-؛ لكي يصلِّين. رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عارية يوم في الآخرة".

دل ما تقدم على كثرة الفتن، حتى شبهها بالقطر من السماء -عليه الصلاة والسلام-، ومعلوم أن القطر لا يحصيه إلا الذي أنزله، فإذا كان الأمر كذلك، وأن الفتن كثيرة جدا، فليعلم العبد أنه إذا أخطأته فتنة لم يكد يسلم من الأخرى، فلينج بنفسه، وليحذر؛ فقد تقدم أن من تشرف لها تتشرفه، ومن وجد ملجأ أو معادا فليعد به، فالعاقل يوطن نفسه على الهرب منها، واجتنابها، والأحمق هو الذي يرفع رأسه لها فتوشك أن تقطعها، وعلى ما تقدم فلا يزال العبد في مجاهدة وصبر لكثرة الفتن واستمرارها.

ثالث هذه المسائل أن الفتن متفاوتة منها الصغير ومنها الكبير، ومنها الخاص ومنها العام، دليل ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبا إدريس الخولاني -رحمه الله- أنه كان يقول: قال حذيفة بن اليمان: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسر إلي في ذلك شيئاً لم يحدثه غيري، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسرّ. ‏قال: وهو يحدث مجلساً أنا فيه، عن الفتن، فقال -عليه الصلاة والسلام- ‏وهو يعدُّ الفتن، ‏ ‏منها ثلاث لا يكدن يذرن شيئاً، ومنها فتن كرياح الصيف، منها صغار ومنها كبار، ‏قال ‏حذيفة: ‏فذهب أولئك الرهط كلهم غيري.

وقد جاء في المسألة الأولى سؤال عمر -رضي الله عنه- لحذيفة عن الفتن، إذن بيَّن أن منها الخاصة بالإنسان في أهله وماله وجاره، ثم سأله عن الفتنة العامة التي تموج كموج البحر فأخبره بها.

لمصنف بن ابي شيبة، والسنن الواردة في الفتن لأبي أمر الداني، عن طاووس، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: لما قتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- " إِنَّمَا هَذِهِ حَيْصَةٌ مِنْ حَيْصَاتِ الْفِتَنِ، وَبَقِيَتِ الرَّدَاحُ الْمُطْبِقَةُ، الَّتِي مَنْ مَاجَ بِهَا مَاجَتْ بِهِ، وَمَنْ أَشْرَفَ لَهَا اسْتَشْرَفَتْ لَهُ ". والرداح المطبقة: يعني الثقيلة العظيمة العامة.

فإذا علم هذا -عباد الله- فإن لكل نوع من أنواع الفتن فقها خاصا به، تعاملا وعلماً، فليس الصبر في الفتن الكبار كالصبر في الفتن الصغار، وهكذا؛ وأيضا فإن الفتن تُقَدَّرُ بقدرها، فلا تصغر الكبيرة حتى يستهين بها الناس، ولا تكبر الصغيرة حتى ييأس الناس منها، ولا تؤمم الخاصة فيفتتن الناس بها، ولا تخصص العامة فيخذَّل الناس.

في حديث الحارس، عن أبي الحارث الصائغ قال: سألت أبا عبد الله، يعني الإمام أحمد، في أمرا كان حدث في بغداد، وهم قوم بالخروج، فقلت: يا أبا عبد الله! ما تقول بالخروج مع هؤلاء القوم؟ فأنكر ذلك عليه وجعل يقول: سبحان الله! الدماء الدماء! لا أرى ذلك، ولا آمر به. الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة يسفك فيها الدماء، وتستباح فيها الأموال، وتنتهك فيها المحارم. أما علمت ما كان الناس فيه – يعني: أيام الفتنة-؟ قلت: والناس اليوم، أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله؟ قال: وإن كان، فإنما هي فتنة خاصة، فإذا وقع السيف عمَّتْ، وانقطعت السبل. الصبر على هذا ويسلم لك دينك خير لك. ورأيته يُنكر الخروج على الأئمة، وقال: الدماء! لا أرى ذلك، ولا آمر به.

فانظر إلى هذا الفقه العظيم، انظر إلى هذا الفقه العظيم، وكيف كان يقدر الفتن بقدرها، وهذا التقدير للفتن باب علم يفتحه الله لأهل البصائر من عباده؛ فيقولون الحق، ويهدون إليه، فإذا أهدر هذا الجانب، وقع الزلل؛ وعلى هذا الباب أيضاً يكون العلم عند دفع الفتن إذا تعارضت، إذ تدفع الأعلى منها بالأدنى، والكبرى بالصغرى، والعامة بالخاصة، وهكذا. نسأل الله أن يقينا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، واشهد أن لا إله وحده لا شريك له.

وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا.

رابع هذه الفتن -عباد الله- أو رابع هذه المسائل أن من الفتن ما يُخرج من الملة، ومنها ما لا يُخرج منها؛ فهي متفاوتة، دليل ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا".

والكفر في هذا الحديث -كما قال العلماء- قد يراد به الكفر الأصغر، ككفر النعمة، وقد يراد فيها الكفر الأكبر، كاستحلال المحرم، كما نقل الترمذي في سننه عن الحسن البصري -رحمه الله- أنه كان يقول في هذا الحديث المتقدم: يصبح الرجل محرِّما لدم أخيه وعرضه وماله ويمسى مستحلا له، ويمسى محرماً لدم أخيه وعرضه وماله ويصبح مستحلا له.

ومن الفتن المكفرة التي ابتليت بها الأمة في فترة من فتراتها فتنة القول بخلق القرآن، لولا أن الله قيض لها من أنصار دينه وحماة شرعه من جعلهم سداً في وجه تلك الفتنة، وعلى رأسهم إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل، فلله الحمد والمنة.

لكن ينبغي التنبيه على ثلاثة أمور، وهي مهمة جدا في هذا الباب.

أولها: أن الحكم على الفتنة بأنها مكفرة أم لا إنما هو للعلماء الربانيين، ليس لأهل التصريحات، ولا لأهل التحليلات، ولا لأهل الأهواء؛ إنما هو للعلماء الربانيين الذين يصدرون عن كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وليس الحكم فيها للأهواء والرغبات، وفي هذا سد لباب عظيم من الشر، قد ينتج عنه من الفتن أضعاف من ينتج عن الفتنة المنظور إليها.

وثانيها: تنزيل الحكم على الأشخاص، إنما هو أيضاً لأهل العلم الراسخين فيه، إذ إن إطلاق الحكم على المعين لابد فيها من معرفة الشروط، وانتفاء الموانع، وهذا إنما يكون لأهل العلم، ولا سبيل لأحد أن يتقدم عليهم فيه؛ لما في ذلك من الخطر العظيم، والبلاء الجسيم.

الأمر الثالث: أن المشاركين في الفتن ليسو على وزن واحد جرماً واثماً وحكماً، فرؤوس أهل الفتن ليسوا كالأتباع، والقعَدة فيها ليسوا كالمشاة، والمشاة ليسوا فيها كالسعاة، وهكذا… وفي صحيح مسلم من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله عليه وسلم-: "إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ اَلْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ اَلْمَاشِي فيها, وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ اَلسَّاعِي إِلَيْهَا. فإذا نَزَلَتْ , أَوْ وَقَعَتْ, فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ, فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ, وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ, وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ, فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِه. فَقَالَ رَجُل: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ تكُنْ لَهُ إِبِلٌ, وَلَا غَنَمٌ, وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حده بِحَجَرٍ, ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اِسْتَطَاعَ اَلنَّجَاةَ. اَللَّهُمَّ هل بَلَّغْتُ, اَللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ, اَللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت!" فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اَللَّه، أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَق بِي إِلَى أَحَدِ اَلصَّفَّيْنِ, أَوْ إِحْدَى اَلْفِئَتَيْنِ, فَضَربَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ, أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي؟ فقَالَ: "يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ, وَيَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ اَلنَّارِ"

وإنما كان الأمر كذلك لأن جهد أهل الفتن مختلف ووضع فيها متفاوت فالقاعد غالبا ما لم يكن من رؤوس أهلها أضعف عملا من الماشي، والماشي أضعف من الساعي وهكذا…

هذا أولا. وثانيا لأنه قد يشارك فيها من ليس من أهلها، كالمكره ونحوه، وعليه، فتعميم الحكم على جميع من شارك في فتنة من الفتن خطأ كبير لا يكون إلا من عالم عارف بأحوال الناس، ولا يعكر على هذا ما ورد في بعض النصوص من إهلاك بعض أهل الفتن إهلاكا واحدا رغم أن فيهم من ليس منهم، كالجيش الذي يؤم البيت، كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- والصحيح وغيره، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بيَّن في نفس الحديث أنه، وإن شاركهم في عقوبة الله، إلا أنه يخالفهم يوم القيامة؛ فقال لمـــــّا سئل عن المكره يخسف به معهم؟ فأوضح بأنه يبعث يوم القيامة على نيته.

فإذا علمنا ذلك كله وتيقنَّاه، تيقنا خطر المخاطر في الفتن، وعلمنا أنها مذلة فساد، ومظنة أوهام.

نسأل الله -عز وجل- أن يقينا منها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾ [الأحزاب:56]

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى أهله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا. وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين، وعنا معهم، بمنِّك، وكرمك، ورحمتك، يا أرحم الراحمين.