القبر

عناصر الخطبة

  1. لا دائم إلا الله
  2. رحلة الروح منذ الاحتضار إلى القبر
  3. أول ليلة في القبر
  4. القبر أول منازل الآخرة
  5. لمثل هذا فأعِدُّوا
اقتباس

دَعُونا -أيُّها الإخوَةُ في اللهِ– نعيشُ مع هذا الحديثِ العظيمِ، الذي يُصَوِّرُ عَظَمَةَ هذِهِ المواقف، وما نحنُ قَادِمُون عليْهِ، علَّنا نُعِدُّ للأمرِ عُدَّتَهُ، ونأخُذُ أُهبَتَهُ، فَأَرعني وأَعِرني سمعكَ وقلبك لهذا… مَعَاشِرَ المُسْلِمِيْنَ: هل سألنا أنفُسَنا هل تدُومُ الحياةُ على هذه الحال؟ أو أنَّ القبرَ هو المصيرُ والمآلُ؟ هل سألنا أنفُسَنا عن هذه الجنائز، وعشراتِ…

الحَمْدُ للهِ الذي تَفَرَّدَ بالدَّوامِ والبقَاءِ، وَكَتَبَ على أَهلِ هذِهِ الدُّنيَا الفَناءَ، وَجَعَلَهَا دَاَرَ امتحانٍ وابتِلاءٍ، وَجَعَلَ القُبُورَ بعدَها لأهلِ الإِيمانِ خَيْرَ فِنَاءٍ، أَحمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَهُوَ أهلُ الحمدِ والثَّنَاءِ، وَأَشكُرُهُ في السَّراءِ والضَّراءِ، والشِّدَّةِ والرَّخَاءِ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، وَاسِعُ العَطَاءِ، ذُو العَظَمَةِ والجَلالِ والكِبرِيَاءِ، المُنَزَّهِ عنِ الأَندادِ والشُّركَاءِ، والمُتَعَالي عنِ الأَمثالِ والنُّظَرَاء.

وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُوُلُه سَيِّدُ الأَصفِياءِ، وَخَاتَمُ الأَنبِياءِ، صَلَّى اللهُ وسلَّمَ وَبَاَرَكَ عَلَيْهَ، وَعَلَى آلِهِ الأَتْقِياءِ، وَصَحْبِهِ الأَوْفِياءِ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإحْسانٍ ما دَامَتِ الأرْضُ والسَّماءِ.

ثُمَّ أمَّا بَعْدُ: فَأُوْصِيكُم – عِبَادَ اللهِ- وَنَفْسِي بِتَقْوى اللهِ عَلاَّمِ السَّرَائِر، فَاتَّقُوُه جَلَّ وَعَلا في البَاطِنِ والظَّاِهِر، فإِنَّ تَقْوَاهُ سُبْحَانَهُ أَفْضَلُ زَادٍ يُؤْنِسُ فِي المَقَابِرِ، وَخَيْرُ مَا أُعِدَّ لِلْيَومِ الآخِرِ، يَومَ تُبْلى السَّرائِرُ، وَيُكْشَفُ مَا في الضَّمَائِر، يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ القلوبُ لدى الحنَاجِرِ، يَوْمَ لا تَنْفَعُ الأَمْوالُ ولا الذَّخَائِرُ.

عباد الله: مَنِ الذي تَفَرَّدَ بالبقاءِ والدَّوامِ؟ مَنِ الذي كَتَبَ المَوُتَ على جميعِ الأنام؟ مَنِ الحيُّ الذي لا يمُوتُ؟ مَنِ الواحِد الذي لا يَفُوتُ؟ مَنِ الباقِي فلا يزول؟ والأَحَدُ الذي لا يَتَغَّيرُ ولا يحُول؟ سُبحانَه هو اللهُ الواحِدُ القَهَّارُ، العَزيزُ الجَبَّارُ! كَتَبَ الموتَ على العبيد، وتعالى أن يفنى أو يبيد.

مَعَاشِرَ المُسْلِمِيْنَ: هل سألنا أنفُسَنا هل تدُومُ الحياةُ على هذه الحال؟ أو أنَّ القبرَ هو المصيرُ والمآلُ؟ هل سألنا أنفُسَنا عن هذه الجنائز، وعشراتِ الأمواتِ الَّذينَ نُصلِّي عليهِم، أينَ هم ذاهِبُون؟ وعلى ماذا سيقدمُون؟ ما هي أحوالُهُم؟ وماذا يُفعَلُ بِهِم؟ وما هو مصيرُهُم؟.

إِنَّما الدُّنيا كَظِلٍّ زائلٍ *** أَوْ كضَيْفٍ باتَ ليلاً فارْتَحَلْ أو كَطَيْفٍ قد يراهُ نائمٌ أو كَبَرْقٍ لاحَ في أُفْقِ الأمَلْ

يـا مَن بدنياهُ اشْتَغَلْ *** وغَرَّهُ طولُ الأمـلْ المـوتُ يأتيْ بغتةً *** والقبرُ صندوقُ العمـلْ

لقد ضمَّتِ القبورُ الأوائلَ والأواخرَ، ودَخَلَها الأصاغرُ والأكابرُ، وامتلأت بالمأمورِ والآمر، ضمَّتِ الأنبياءَ والعُلماءَ، والأغنياءَ والفُقراء، والمرؤسِيْنَ والرُّؤَساءَ، والرِّجال والنِّساءَ.

القبرُ بابٌ وكلُّ النَّاِس داخِلُهُ *** يا ليتَ شِعريَ بعدَ الموتِ ما الدَّارُ الدَّارُ دارُ نعيم إنْ عَمِلْتَ بما *** يُرضى الإلهَ وإنْ خالفتَ فالنَّارُ هما محلاَّنِ ما للمرءِ غيرُهُما *** فاخترْ لنفسِكَ ماذا أنتَ تختارُ ما للعبادِ سوى الفردوسَ إن عمِلوا *** وإن هفَوا هفْوةً فالرَّبُّ غفَّارُ

دَعُونا -أيُّها الإخوَةُ في اللهِ– نعيشُ مع هذا الحديثِ العظيمِ، الذي يُصَوِّرُ عَظَمَةَ هذِهِ المواقف، وما نحنُ قَادِمُون عليْهِ، علَّنا نُعِدُّ للأمرِ عُدَّتَهُ، ونأخُذُ أُهبَتَهُ، فَأَرعني وأَعِرني سمعكَ وقلبك لهذا الحديث العظيم.

روى الإمام أحمدُ في المُسنَدِ وغيرُهُ بسندٍ صحيحٍ من حديثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَد، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ وَكَأَنَّ عَلَى رُؤوسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ؛ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.

ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ، بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ -عَلَيْهِ السَّلَام- حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ".

قَالَ: "فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِيّ السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ".

قَالَ: "فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ؟ فَيَقُولُونَ: هذهِ رُوْحُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ -بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا- حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى".

قَالَ: "فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ؛ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ؛ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُك؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ؛ فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ، أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ".

قَالَ: "فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا، وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ"، قَالَ: "وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ: فَيَقُولُ رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ؛ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي".

قَالَ:" وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمْ الْمُسُوحُ -وَهُوَ اللِّباسُ الخَشِنُ المَمْقُوتُ-، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ".

قَالَ: "فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ -وَهُوَ الحَدِيْدُ- مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ".

"فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَهِ الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ؟ فَيَقُولُونَ: هَذِهِ رُوْحُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ -بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا- حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ".

ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾، فَيَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: "اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى".

"فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾،" فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ! لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ! لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ! لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ فَأَفْرِشُوهُ مِنْ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ".

"فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا، وَسَمُومِهَا؛ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُك الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمْ السَّاعَةَ، رَبِّ لَا تُقِمْ السَّاعَةَ".

يا لَهُ من حديثٍ عظيمٍ يأخُذُ بمجامع القُلُوب! لمن تذكَّر وعرف انه راجع إلى علاّم الغيوب. فهذا عبد الله بن العيزار يقول: لابنِ آدمَ بيتانِ: بيتٌ على ظَهرِ الأرضِ، وبيتٌ في بطنِ الأرضِ، فَعَمَدَ للذي على ظهرِ الأرضِ فَزَخْرَفَهُ وزيَّنَهُ، وَجَعَلَ فيه أبواباً للشمال، وأبواباً للجنوبِ، وَصَنعَ فيه ما يصلُحُ لشتائِهِ وصيفِهِ، ثمَّ عَمَدَ إلى الذي في بطنِ الأرض، فَأَخرَبَهُ فأتى عليه آتٍ فقال: أرأيتَ هذا الذي أراكَ قد أَصْلَحْتَهُ كم تقيمُ فيهِ؟ قال: لا أدري، قال: فالذي قد أخرَبْتهُ كم تقيمُ فيه؟ قال: فيه مقامِي، قال: تُقِرُّ بهذا على نَفْسِك وأنت رجلٌ يعقل؟.

فارقتُ موضعَ مَرْقَدِي *** يَوْماً فَرَاقَنِيَ السُّكُونُ القبرُ أوَّلُ ليلةٍ *** بِاللهِ قُلْ لِي مايكونُ؟

عبادَ اللهِ: يومانِ وليلتانِ لم تسمعِ الخلائقُ بمثلهنَّ قطُّ: ليلةٌ تبيتُ فيها معَ أهلِ القُبورِ ولم تَبِتْ معهم ليلةً قبلَها، وليلةٌ صبيحتُها يوم القيامةِ. ويوم يأتيك البشير من الله تعالى إمَّا بالجنَّةِ أوِ النَّارِ، ويوم تُعطى كتابَك إمَّا بيمنِك وإمَّا بشمالِكَ.

أولُ ليلةٍ في القبرِ؛ بَكَى منها العلماءُ، وَشَكَا منها الحُكماءُ، ورثى فيها الشُّعراءُ، وصنفت فيها المصنفات.

فعن هانئٍ مولى عثمان -رضي الله عنه- قال: كان عثمانُ بنُ عفانَ -رضي الله عنه وأرضاه- إذا وقف على القبر يبكي حتى تبتلَّ لحيتُه، فقيل له: تذكر الجنةَ والنار فلا تبكي، وتذكر القبر فتبكي؟ فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن القبر أول منازلِ الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشدُّ منه".

ويقول ميمونُ بن مهران: "خرجت مع عمرَ بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى، ثم أقبل عليَّ فقال: يا ميمون، هذه قبور آبائي بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهلَ الدنيا في لذَّاتهم وعَيشِهم، أما تراهم صرعى قد حلَّت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصاب الهوان مُقلاً في أبدانهم؟".

ثم بكى – رحمه الله- وقال: "والله! ما أعلم أحدا آمن ممن صار إلى هذه القبور، وقد أمن من عذاب الله تعالى".

إخوة الإيمان: وإنَّه لجديرٌ بمَن كانَ الموتُ مَصرَعَهُ، والتُّرابُ مضجَعَهُ، والدُّودُ أَنِيسَهُ، ومنكَرٌ ونكيرٌ سائِلَهُ، وَعَمَلُهُ جلِيْسَهُ، والقبرُ مقرَّهُ، والبرزخُ مستقَرَّهُ، والقِيامَةُ موعدَهُ، والجنَّةُ أو النَّارُ مورِدَهُ: ألَّا يغفلَ عن هذه اللحظاتِ الحاسِمةِ.

روى الإمامُ أحمدُ وابنُ ماجهْ -بسندٍ جيِّدٍ- عَن الْبَرَاء بْنِ عَازِبٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ بَصُرَ بِجَمَاعَةٍ فَقَالَ: عَلَامَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ؟ قِيلَ: عَلَى قَبْرٍ يَحْفِرُونَهُ، قَالَ: فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَدَرَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ مُسْرِعًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَبْرِ فَجَثَا عَلَيْهِ فَبَكَى، حَتَّى بَلَّ الثَّرَى مِنْ دُمُوعِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: "أَيْ إِخْوَانِي، لِمِثْلِ هذا الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا"، [وفي رواية: "لمثل هذا فأعدوا"].

فتذكروا -رحمكم الله- هذا المصيرَ المكتوب، واستعدوا له بالتوبة من المعاصي والذنوب، وكونوا على عملٍ صالحٍ دؤوب؛ تنالوا رضا الربِّ الكريم، وتسلموا بحول الله من أسباب العذاب والجحيم.

وأكثروا من زيارة القبور، فإنها تذكركم البعث والنشور، وما أنتم مقبلون عليه من عظائم الأمور، فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة".

وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقعُدُ إلى القبور، فقيل له في ذلك، فقال: "أجلس إلى قوم يذكِّرُونَنِي معادي، وإن غبت لم يغتابوني".

وهذه -معشر المسلمين- إشارات عابرة، وتذكير بأول منازل الآخرة، علّها توقظ النفوس من غفلتها، فتأخذ بأسباب نجاتها

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.