سألوني عن الفتنة (1) ؟

عناصر الخطبة

  1. التعامل مع الفتنة حسب نوعها ومسارها
  2. أحاديث اعتزال الفتنة التي يختلط فيها الحق بالباطل
  3. الحكمة من هذا الاعتزال
اقتباس

عندما يختلط الحابل بالنابل، والحق بالباطل، ولا يتبين الحق، وتلتبس الأمور التباسًا كبيرًا، يجب الابتعاد عن الفتنة، وتركها، والفرار منها؛ حفظًا للدين. وهذا الموقف هو الصواب في الفتنة العمياء الصمَّاء، التي تعم الجميع بِشَرِّها، ولا سبيل إلى تسكينها وتهدئتها؛ لتناهيها في خبثها ودهائها، فيقف اللبيب فيها حيران، بل تنزع عقول الكثيرين، ويكثر الهرج وهو القتل ..

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على من أدَّبهُ اللهُ وحَلَّاهُ بالخُلُقِ العظيمِ، وبَعَثَهُ اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آلهِ وصحبهِ الغُرِّ الميامينِ، ومن سار على نهجهِ واتَّبعَ سنتهُ إلى يومِ الدينِ. 

أما بعدُ: عبادَ اللهِ! فاتقوا الله حقيقة التقوى، واعلموا أن حقيقتها بمراقبة الله في سلوكنا وتصرُّفاتنا، وأقوالنا وأفعالنا؛ إنها التقوى في المعاملات تطبيقاً وممارسةً، ولهذا سألني بعض الإخوة بعد الخطب التي تناولَت الفتن وأحوالها والتحذير منها، والابتعاد عنها، فقالوا: هل المطلوب إذًا هو السكوت والابتعاد عن الفتن كليًا؟ وبهذا ننجو من ويلاتها! وهل ما يجري في الساحة اليوم من مظاهرات واعتصامات هو فتنة تُمنَعُ المشاركة فيها شرعاً؟ أم أننا نشارك فيها مشاركة إيجابية مع تحري درء الفتن؟.

وكم أفرحتني مثل هذه التساؤلات؛ فهي يقظة مصلين عارفين، وجادِّين في العمل والاتباع للشرع؛ وأعلم أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج لفقه وحكمة وصدق، وأيضاً إلى بسطٍ وتفصيل ربما ليس منبر الجمعة مكانه؛ لكني سأجتهد فيما ينفع العامة لتوضيح المسألة فأقول: لا شك أن الإجابة تختلف حسب نوع الفتنة، والحالة التي يمر بها الفرد والأمة، وقد وردت مجموعة من الأحاديث النبوية فيها إجابة على السؤال، وتبين أن الصواب في مثل هذه الحالة هو التفصيل حسب الفتنة والحالة التي يعيشها الإنسان.

ومن خلال تتبع هذه النصوص والتأمل فيها، فهناك ثلاث حالات تُحدد المسار؛ فالحالة الأولى عندما يختلط الحابل بالنابل، والحق بالباطل، ولا يتبين الحق، وتلتبس الأمور التباسًا كبيرًا، ففي هذه الحالة يجب الابتعاد عن الفتنة، وتركها والفرار منها؛ حفظًا للدين، كما في صحيح البخاري وغيره عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَكُونُ الغَنَمُ فِيهِ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ -أَوْ سَعَفَ الجِبَالِ- فِي مَوَاقِعِ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ"، وخاصة إذا كان يترتب على المشاركة إراقة الدماء، وانتهاك الحرمات.

ولهذا السبب امتنع جمع من الصحابة منهم ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما، من المشاركة في الفتن التي دارت بين الصحابة، ففي صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهمَا-، أَتَاهُ رَجُلاَنِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي. فَقَالاَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال:39]، فَقَالَ: قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ.

فتأملوا هذا الفقه، وهذا الرد المفحم؛ ولهذا السبب نفسه تنازل السبط الحسن -رضي الله عنه- عن الخلافة لمعاوية؛ جمعًا للكلمة، وحقنًا للدماء. ويؤكد هذه الحالة أحاديث كثيرة ذكرناها في الجمع الماضية تأمر بالاعتزال في مثل هذه الفتنة، ومنها: ما رواه أبو بكرة -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ، أَلاَ ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي إِلَيْهَا، أَلاَ فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ" قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: "يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ". قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ -أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ- فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ، أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي؟ قَالَ: "يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ" رواه مسلم.

وعن عُدَيْسَة بِنْت أُهْبَانَ قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ هَاهُنَا الْبَصْرَةَ، دَخَلَ عَلَى أَبِي فَقَالَ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ! أَلَا تُعِينُنِي عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَدَعَا جَارِيَةً لَهُ، فَقَالَ: يَا جَارِيَةُ أَخْرِجِي سَيْفِي، قَالَ: فَأَخْرَجَتْهُ، فَسَلَّ مِنْهُ قَدْرَ شِبْرٍ فَإِذَا هُوَ خَشَبٌ! فَقَالَ: إِنَّ خَلِيلِي وَابْنَ عَمِّكَ -صلى الله عليه وسلم- عَهِدَ إِلَيَّ إِذَا كَانَتْ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَّخِذُ سَيْفًا مِنْ خَشَبٍ، فَإِنْ شِئْتَ خَرَجْتُ مَعَكَ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيكَ وَلَا فِي سَيْفِكَ. رواه الترمذي وابن ماجه.

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ وَفُرْقَةٌ وَاخْتِلَافٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأْتِ بِسَيْفِكَ أُحُدًا فَاضْرِبْهُ حَتَّى يَنْقَطِعَ، ثُمَّ اجْلِسْ فِي بَيْتِكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ يَدٌ خَاطِئَةٌ، أَوْ مَنِيَّةٌ قَاضِيَةٌ"، فَقَدْ وَقَعَتْ وَفَعَلْتُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. رواه أحمد وابن ماجه.

وعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أَبَا ذَرٍّ!" قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ! قال: " كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ يَكُونُ الْبَيْتُ فِيهِ بِالْوَصِيفِ -يَعْنِي الْقَبْر-؟" قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، أَوْ قَالَ: مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ. قَالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ-أَوْ قَالَ: تَصْبِرُ- ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَبَا ذَرٍّ!" قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ! قَالَ: "كَيْفَ أَنْتَ إِذَا رَأَيْتَ أَحْجَارَ الزَّيْتِ (موضع بالمدينة) قَدْ غَرِقَتْ بِالدَّمِ؟" قُلْتُ: مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ. قَالَ: "عَلَيْكَ بِمَنْ أَنْتَ مِنْه" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلَا آخُذُ سَيْفِي وَأَضَعُهُ عَلَى عَاتِقِي؟ قَالَ: "شَارَكْتَ الْقَوْمَ إِذَنْ" قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: "تَلْزَمُ بَيْتَكَ" قُلْتُ: فَإِنْ دُخِلَ عَلَيَّ بَيْتِي؟ قَالَ: "فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ فَأَلْقِ ثَوْبَكَ عَلَى وَجْهِكَ يَبُوءُ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِهِ" رواه أبو داود وابن ماجه.

عباد الله! يظهر من هذه النصوص حرصه -صلى الله عليه وسلم- على أمته، فلم يأمر بمثل هذه الفتن بالاعتزال فقط، بل أرشد كيف تُقضى الأوقات في فترة الاعتزال، فقد ندب -صلى الله عليه وسلم- بالانشغال بالعبادة، وإصلاح النفس وتزكيتها؛ فعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ" رواه مسلم. والْمُرَاد بِالْهَرْجِ هُنَا: الْفِتْنَة وَاخْتِلَاط أُمُور النَّاس"، كما جاء مصرحًا به في لفظ أحمد وغيره: "الْعِبَادَةُ فِي الْفِتْنَةِ كَالْهِجْرَةِ إِلَيَّ" رواه أحمد وغيره، فأكد -صلى الله عليه وسلم- أن أجر هذه العبادة كهجرة إليه، فبخ بخ!.

والحكمة في هذا -والله أعلم- أن الإنسان مدني بطبعه، يصعب عليه اعتزال الناس، فينشغل بالعبادة حتى؛ لا تتغلب عليه نفسه الأمارة بالسوء فتدعوه إلى المشاركة، ولأن النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية كما هو مجرب .

والنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى *** حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ ورَاعِهَا وَهي في الأعْمَالِ سَائمةٌ *** وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِمِ كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً *** مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَنَّ السُّم في الدَّسَمِ

يقول ابن رجب: وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين؛ فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية؛ فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه، ويعبد ربه، ويتبع مراضيه، ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة مَن هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا به، متبعًا لأوامره، مجتنبًا نواهيه. ومنها أن المنفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يدفع به البلاء عن الناس كلهم؛ فكأنه يحميهم ويدافع عنهم. اه.

ومن الحكمة، حتى لا ينشغل الناس بالقيل والقال، وتتبع الأخبار والشائعات، بدل اللجوء والفزع إلى الله؛ وأيضًا، لشدة خطورة هذه الفتنة على الدين، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا" رواه مسلم.

إذاً فهذه هي الحالة الأولى؛عندما يختلط الحابل بالنابل، والحق بالباطل، ولا يتبين الحق، وتلتبس الأمور التباسًا كبيرًا، يجب الابتعاد عن الفتنة، وتركها، والفرار منها؛ حفظًا للدين. وهذا الموقف هو الصواب في الفتنة العمياء الصماء، التي تعم الجميع بشرها، ولا سبيل إلى تسكينها وتهدئتها؛ لتناهيها في خبثها ودهائها؛ فيقف اللبيب فيها حيران، بل تنزع عقول الكثيرين، ويكثر الهرج -وهو القتل- حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته، وحينها لا يأمن الرجل جليسه، فلا يدري المقتول لماذا قُتل، ولا القاتل لماذا قَتل،!وتسود شريعة الغاب؛ فيأكل القوي الضعيف، ولهذا السبب وُصفت بأنها عمياء وصماء، فهي كالأصم الذي لا يسمع النداء، ولا يلتفت إلى الاستغاثة والرجاء، فلا يقلع عما يفعله، فَيُرَقِّقُ بعضُها بعضًا، ويتبع بعضها بعضًا.

ويبقى السؤال الذي يدور الآن في كثير من الأذهان: هل فتن اليوم بمثل هذا الوصف؟ فنعتزلها ونفر منها؟! والإجابة: لا ؛ فلا أظن أن أحداً منا سمع بمثل هذا الوصف؛ بأن يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته، وحينها لا يأمن الرجل جليسه، فلا يدري المقتول لماذا قُتل، ولا القاتل لماذا قَتل، وتسود شريعة الغاب؛ فيأكل القوي الضعيف. أظن أن مايجري اليوم على الساحة لم يصل إلى هذا الحد؟ بل إننا نسمع خيراً من ترابط الناس في هذه الفتن وتماسكهم وتعاونهم سواء كانوا أفراداً، أو عبر ما سموه باللجان الشعبية ونحوه، مما يؤكد الخيرية بين أكثر الناس.

هذا بعكس ما وصفته الأحاديث مما تقدم، أو بمثل حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، كَيْفَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا، فَصَارُوا هَكَذَا"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؟ قَالَ: مَا تَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "عَلَيْكَ بِمَا تَعْرِفُ، وَتَدَعُ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهُمْ»وَفِي رِوَايَةٍ:«الْزَمْ بَيْتَكَ، وَأَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ مَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، ودع أَمر الْعَامَّة". رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ.

فهذه الأحاديث تصف حال الفتنة التي تُعتزل وتُفارق، ولا أظن أن هذا حصل، بل لا زال الناس -بفضل الله- بخير عميم، حتى بالبلاد التي تموج بها المظاهرات والمواجهات.

إخوة الإيمان! كأني ببعضكم يسأل الآن: إذا لم يكن ما يجري اليوم فتن توجب الاعتزال، فماذا إذا نسمي حالتنا المعاصرة؟ وما موقفنا منها؟ وما حال المتلبسبن بها، وحكم الشرع في ذلك؟ كل هذه الأسئلة وغيرها سأتحدث عنها مع الحالة الثانية والحالة الثالثة في الخطبة القادمة بمشيئة الله، والتي ستكون فيها الإجابات مفصَّلة مؤصَّلة.

نسأل الله تعالى أن يفقهنا في الدين، وأن يرزقنا الإخلاص والصواب، والحكمة وفصل الخطاب؛ اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وجنبنا الفتن ماظهر منها ومابطن، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.