حسن الظن بالله تعالى – خطبة عيد الأضحى 1438هـ

عناصر الخطبة

  1. حقيقة حسن الظن بالله وأهميته
  2. سبل تحقيق حسن الظن بالله
  3. آثار حسن الظن بالله في الدنيا والآخرة
  4. بعض مواطن حسن الظن بالله
  5. فضل يوم النحر وأيام التشريق
  6. مشروعية الأضحية ووقتها.
اقتباس

قد يتساءل البؤساء والضعفاء ممن مستهم البأساء والضراء ما السبيل لزوال هذه الغمة وذهاب هذا العناء؟ ولعلي في هذا المقام أكتفي بأعظم دواء لكل ذلك؛ ألا وهو… فإنه -سبحانه- إذا ظن به الفقير غنى أغناه، وإذا ظن به المريض شفاء…

الخطبة الأولى:

الحمد لله الكريم المنان الذي أكرم عباده بالإيمان ونور قلوبهم بالقرآن واختصهم بفضله وبصرهم بمواسم البر والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عمت آلائه الإنس والجان، وشملت رحمته أهل السماء والأرض والبحار والحيتان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي استنارت بدعوته قلوب الأولياء من الرجال والنساء والغلمان، واهتزت لفراقه جذوع الأغصان -صلى الله وسلم عليه- ما هلت الأمزان، وتعاقبت الليالي والأزمان، وعلى آله وصحابته وخلفائه أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وعلى التابعين لهم باقتفاء وإحسان، أما بعد:

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

الله أكبر عدد ما وقف الحجاج في عرفات، الله أكبر عدد ما رفعوا من الدعوات، الله أكبر عدد ما سكبوا من العبرات، الله أكبر عدد ما رموا من الجمرات.

الله أكبر؛ كم من داع بالأمس قد استجيب؟! والله أكبر؛ كم من واقف بعرفة قد قُبِل؟! والله أكبر؛ كم من حاج خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه؟! والله أكبر؛ كم يراق في هذا اليوم العظيم من الدماء تقرباً لله تعالى.

أيها المسلمون: إن عين المتأمل لواقع المسلمين لتدمع، وإن قلب المؤمن من الحزن ليتقطع على ما يُفعل بأمة الإسلام على مرأى ومسمع؛ فمن يتابع الأخبار في شتى البلاد؛ يقف على حقائق مرعبة؛ فأمراض وأسقام، وفاقة ونقص من الأموال والثمرات، وقتل وتدمير وتعذيب وتهجير وطمس للهوية الإسلامية ومحاربة العلماء والمصلحين، ولا شك أن كل ذلك ابتلاء من الله لعباده، وتأديب للغافلين عنه، وتهذيب للقريبين منه.

وقد يتساءل البؤساء والضعفاء ممن مستهم البأساء والضراء ما السبيل لزوال هذه الغمة وذهاب هذا العناء؟ ولعلي في هذا المقام أكتفي بأعظم دواء لكل ذلك؛ ألا وهو حسن الظن بالله-تعالى-؛ فحسن الظن بالله من العبادات القلبية التي غفل عنها كثير من المسلمين، قال الله تعالى في الحديث القدسي: “أنا عند ظن عبدي بي؛ فليظن بي ما شاء” (رواه الطبراني)، قال ابن حجر في فتح الباري: أي قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به.

وقال تعالى: “أنا عند ظن عبدي بي؛ إن ظن بي خيراً فله وإن ظن شراً فله” (رواه ابن حبان)، وقال -سبحانه-: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني” (رواه مسلم).

وحقيقة حسن الظن بالله ومعناه: أن يتوقع العبد كل جميل من ربه ومولاه؛ فما أحوجنا جميعا لفهم هذا المعنى العظيم، ولا سيما في هذا الزمن الذي تمور فيه الفتن مورًا؛ والعاقل يدرك أنه لا مخرج من هذه الفتن إلا بإحسان الظن بالله -سبحانه وتعالى-.

وإني لأرجو الله حتى كأنني *** أرى بجميل الظن ما الله صانع

وقد حث الشرع الحنيف على حسن الظن بالله تعالى، وأخبر أن حسن ظن العبد بربه من حسن العبادة، قال -صلى الله عليه وسلم-: “حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ مِنْ حُسْنِ العِبَادَةِ” (رواه أحمد)؛ فالمؤمن مهما أصابه من الآلام والمصائب، إلا أنه ملازم لحسن الظن بربه في كل أحواله.

عباد الله: ولتحقيق حسن الظن بالله تعالى؛ سبل ووسائل، منها:

معرفة أسماء الله وصفاته ومعرفة مقتضى حكمته -سبحانه- من الخلق، ومقتضى حكمته في السراء والضراء، والفقر والغناء؛ حيث أن ذلك يورث حسن الظن به -عز وجل-، يقول ابن القيم: “وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفي ما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وعرف موجب حكمته وحمده“.

ومن السبل كذلك: هجر المنكرات والبعد عنها، قال ابن القيم: “ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان؛ فإن المحسن أحسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه ولا يخلف وعده ويقبل توبته“.

ومنها: اليقين بسعة كرم الله -عز وجل-، وأن بيده خزائن السماوات والأرض، وأنها لا تنقص مهما أعطى من سأله وطلبه؛ كما قال الله في الحديث القدسي: “يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد؛ فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيرا؛ فليحمد الله ومن وجد غير ذلك؛ فلا يلومن إلا نفسه” (رواه مسلم).

ومنها: أن يعلم المؤمن أن أمره كله له خير؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له” (رواه مسلم).

أيها المؤمنون: تلكم سبل تحقيق حسن الظن بالله تعالى التي من حققها نال الآثار العظيمة والهبات الكريمة من الله تعالى في الدنيا والآخرة التي منها:

نيل العبد ما ظنه بربه ورجاه: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي” (رواه البخاري ومسلم)، وفي المسند عنه -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله -عز وجل- قال: “أنا عند ظن عبدي بي، إنْ ظن بي خيراً فله، وإن ظن شراً فله“.

وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: “والذي لا إله غيرُه ما أُعطي عبدٌ مؤمن شيئاً خيراً من حسن الظن بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله -عز وجل- الظن إلا أعطاه الله -عز وجل- ظنَّه؛ ذلك بأنَّ الخيرَ في يده“.

ومن آثار حسن الظن بالله -أيها الأخيار-: محو الذنوب والسيئات، قال سهل القطعي -رحمه الله-: “رأيت مالك بن دينار -رحمه الله- في منامي؛ فقلت: يا أبا يحيى ليت شعري، ماذا قدمت به على الله -عز وجل-؟ قال: قدمت بذنوب كثيرة، فمحاها عني حسن الظن بالله“.

أمة الإسلام: لعلنا نشير في هذا المقام إلى بعض المواطن التي يجب على المسلم أن تزداد فيها ثقته بربه، وأن يظن به خيرا، ومن تلك المواطن:

عند حلول الشدائد والكرب؛ فإن الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تبوك لم يُكشف عنهم ما بهم من كرب وضيق إلا بعدما أحسنوا الظن بربهم، قال تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(118)﴾ [التوبة: 117-118]؛ فتأمل في قوله: ﴿وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه﴾.

ومن المواطن التي يجب على المؤمن فيها أن يحسن الظن بربه: عند ضيق العيش؛ فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسَدَّ فاقتُه، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشِكُ الله له برزق عاجل أو آجل“، وإنزالها بالله؛ أي: حسن الظن بالله واليقين بأنه سيفرجها -سبحانه-.

ومن المواطن -كذلك-: إذا غلب العبد الدَّين، وقد روى الإمام البخاري من قول الزبير بن العوام لابنه عبد الله -رضي الله عنهما-: “يا بني إن عجزت عن شيء من دَيني؛ فاستعن عليه مولاي قال عبد الله: فو الله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله قال: فو الله ما وقعت في كربة من دَينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه، فيقضيه“.

ومن مواطن حسن الظن بالله: عند الدعاء؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة” (رواه الترمذي)؛ فإذا دعوت الله يا -عبدالله-؛ فعظم الرغبة فيما عنده، وأحسن الظن به.

كما أن من المواطن التي ينبغي للعبد أن يحسن الظن بربه: عند التوبة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكي عن ربِّه -عز وجل- قال: “أذنب عبد ذنبا؛ فقال: “اللهم اغفر لي ذنبي؛ فقال -تبارك وتعالى-: “أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب”، فقال: “أي رب اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: “عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب”، فقال: “أي رب اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: “عبدي أذنب ذنباً فعلم أنَّ له ربَّاً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب اعمل ما شئت فقد غفرت لك” (رواه مسلم)؛ أي: ما دمت تتوب من ذنوبك؛ فإني أتوب عليك ولو تكرر الذنب منك“.

وإني لآتي الذنب أعرف قدره *** وأعلم أن الله يعفو ويغــفرُ

لئن عظَّم الناس الذنوب فإنها *** وإن عظمت في رحمة الله تصغُرُ

عباد الله: علينا أن نحسن الظن بالله تعالى وأن نظن به خيرا؛ فإنه -سبحانه- إذا ظن به الفقير غنى أغناه، وإذا ظن به المريض شفاء شفاه، وإذا ظن به المظلوم نصرة نصره وقواه، وإذا ظن به ذو الحاجة عطية أعطاه، وإذا ظن به المذنب مغفرة غفر له وهداه، وإذا ظن به المبتلى عافية رزقه وعافاه.

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه -صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه- أما بعد:

أيها المسلمون: أحسنوا الظن بربكم واشكروه على أن من عليكم بهذا اليوم العظيم، والعيد الكريم الذي ختم الله به الأيام المعلومات والليالي المباركات، وهو أفضل الأيام عند الله وأعظمها؛ فهو يوم الحج الأكبر ويوم النحر، قال -صلى الله عليه وسلم-: “أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر” (رواه أحمد وصححه الألباني)، ويوم النحر من أعياد الإسلام وشعائره العظام، قال صلى الله عليه وسلم-: “يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب” (رواه أحمد وصححه الألباني)، وفي رواية مسلم -رحمه الله-: “أيام أكل وشرب وذكر لله“.

عباد الله: تقربوا إلى الله تعالى بضحاياكم، واشكروه على ما أنعم به عليكم وهداكم، وأخلصوا له في أعمالكم، واعلموا أن مشروعية ذبح الأضاحي من بعد صلاة العيد إلى غروب شمس يوم الثالث عشر، وهو آخر أيام التشريق، ولا تجزئ الأضحية لمن ذبحها قبل صلاة العيد؛ فعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاتك شاة لحم”.

عباد الله: افرحوا بعيدكم، وامتثلوا فيه أمر ربكم، واحذروا المنكرات في هذه الأيام العظيمة؛ فليس من شكر الله تعالى على نعمه وفضله أن يُعصى في أيام ذكره وشكره، وصلوا أرحامكم، وأحسنوا إلى جيرانكم، وتوددوا لإخوانكم، وسلوا الله السلامة والعافية في دينكم ودنياكم وآخرتكم.

هذا وصلوا وسلموا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللهَ وَ%

بطاقة المادة

المؤلف أ. عبدالله البرح – عضو الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع مقروء
اللغة العربية