دلائل التوحيد في القرآن المجيد

عناصر الخطبة

  1. التوحيد هو حق الله الأول على العبيد
  2. خطورة الشرك بالله العلي الحميد
  3. كثرة الآيات الدالة على توحيد الملك المعبود سبحانه
  4. وجوب توحيد الله وتعظيمه
  5. تأملات في آيات التوحيد وصفات الله تعالى في القرآن المجيد
  6. الحث على تجديد الإيمان وصيانته من الشرك.
اقتباس

إِنَّ أَعْظَمَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحِيدُ، وُهُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، وَأَعْظَمَ مَا نُهِيَ عَنْهُ الشِّرْكُ وَهُوَ عِبَادَةُ غَيْرِ اللهِ مَعَ اللهِ.. وإِنَّ أَمْرَ التَّوْحِيدِ هُوَ أَوْلَى مَا اعْتَنَى بِهِ الْمُسْلِمُ، وَأَشَدّ مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْمُؤْمِنُ، لِأَنَّ بِهِ النَّجَاة مِنَ النَّارِ وَالدُّخُول لِلْجَنَّةِ دَارِ الْقَرَار. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَكَاثَرَتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ فِي بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَتَوْضِيحِهِ أَشَدَّ بَيَان.. وَمِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ أَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ وَشَرَعَ الشَّرَائِعَ وَخَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ…

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ للهِ الذِي جَعَلَ التَّوْحِيدِ أَفْرَضَ الْمَفْرُوضَات، وَجَعَلَ مَعْرِفَتَهُ وَالْعِلْمَ بِهِ سَبَبَاً لِلنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّات، حَذَّرَ مِنَ الشِّرْكِ كَبِيرِهِ وَصَغِيرِهِ، وَخَفِيِّهِ جَلِيِّهِ وَجَعَلَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَات، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمِهِ الْمُتَوَافِرَات، وَأَسْتَغْفِرُهُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالْخَطِيئَات.

وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَلا نَظِيرَ لَهُ وَلا مُعِينَ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَات، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلُهُ وَصَفِيُّهُ الْمُؤَيَّدُ بِالْمُعْجِزَات، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أُولِي الْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَات، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَعْظَمَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحِيدُ، وُهُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ وَأَعْظَمَ مَا نُهِيَ عَنْهُ الشِّرْكُ وَهُوَ عِبَادَةُ غَيْرِ اللهِ مَعَ اللهِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ أَمْرَ التَّوْحِيدِ هُوَ أَوْلَى مَا اعْتَنَى بِهِ الْمُسْلِمُ، وَأَشَدّ مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْمُؤْمِنُ، لِأَنَّ بِهِ النَّجَاة مِنَ النَّارِ وَالدُّخُول لِلْجَنَّةِ دَارِ الْقَرَار.

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَكَاثَرَتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ فِي بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَتَوْضِيحِهِ أَشَدَّ بَيَان، قَالَ اللهُ تَعَالَى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58)﴾ [الذاريات: 56- 58]، فَبَيَّنَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ مَا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِأَنَّهُ فِي حَاجَتِهِمْ أَوْ لِيَتَكَثَّرَ بِهِمْ مِنْ قِلَّةٍ أَوْ لِيَتَعَزَّزَ بِهِمْ مِنْ ذِلِّةٍ، وَإِنَّمَا خَلَقَهُمْ لِحِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ هِيَ عِبَادَتُهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ.

وَمِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ أَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ وَشَرَعَ الشَّرَائِعَ وَخَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل: 36]، وَقَالَ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].

 فَفِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ بَيَانُ الْحِكْمَةِ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وَالطَّاغُوتُ: هُوَ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنَّ عِبَادَتَهُ طَاغَوتَاً.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: رُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ: نَحْنُ لَسْنَا فِي حَاجَةٍ لِهَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّنَا نَعْرِفُ رَبَّنَا وَنَعْبُدُهُ وَحْدَهُ!

فَيُقَالُ: جَوَابَاً عَلَى ذَلِكَ: إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ مَلِيءٌ بِبَيَانِ شَأْنِ التَّوْحِيدِ وَذَلِكَ لِأَهَمِّيَّتِهِ، وَإِذَا أَرَدْنَا صَلاحَ دِينِنَا فَعَلَيْنَا بِاتِّبَاعِ كِتَابِ رَبِّنَا، ثُمَّ نَقُولُ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْكَ خَطَرٌّ مِنَ الشِّرْكِ؟ أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَيْثُ قَالَ اللهُ عَنْهُ ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ(36)﴾[إبراهيم: 35- 36] وَلا يُمْكِنُ لَنَا النَّجَاةَ مِنَ الشِّرْكِ إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا التَّوْحِيدَ تَمَامَاً!

ثُمَّ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ وَيَصُومُونَ وَهُمْ مُنْغَمِسُونَ فِي الشِّرْكِ تَمَامَاً؟ أَلَمْ تَسْمَعْ مَنْ يَدْعُو غَيْرَ اللهِ بِأَعْلَى صَوْتِهِ وَيَسْتَغِيثُ بِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ وَالْكُرُبَاتِ؟

أَلَمْ يَقْرَعْ أُذُنَكَ مَنْ يَقُولُ: يَا حُسَيْنُ يَا حُسَيْنُ! وَمَنْ يُنَادِي فَاطِمَةَ الزَّهْرَاء، وَمَنْ يَسْتَغِيثُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْمُدَلَهِمَّاتِ؟ مَعَ أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، فَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ الأَهَمِيَّةَ الْبَالِغَةِ لِأَمْرِ الْعَقِيدَةِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ رَبَّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- تَعَرَّفَ لِعِبَادِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعْرِفُوهُ فَيُوَحِّدُوهُ وَيُطِيعُوهُ وَيَتْرُكُونَ عِبَادَةَ مَنْ سِوَاهُ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 55].

 وَقَالَ سُبْحَانَهُ ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255].

وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ(13)﴾ [الرعد: 12- 13], وَذُكِرَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ نَسِبِ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةِ جَوَابَاً لَهُمْ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)﴾ [سورة الإخلاص].

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَلِعَظِيمِ شَأْنِ التَّوْحِيدِ تَعَرَّفَ إِلَيْنَا بِصِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلَيَّةِ، فَقَالَ ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58]، وَقَالَ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(27)﴾[الرحمن: 26- 27].

 فَأَثْبَتَ اللهُ لِنَفْسِهِ الْحَياةَ وَأَنَّهُ لا يَمُوتُ، وَبَيَّنَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ لَهُ وَجْهاً كَرِيماً، وَأَخْبَرَنَا رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ لَهُ يَدَينِ اثْنَتَينِ، وَلَهُ سَاقٌ تَلِيقٌ بِجَلَالِهِ، فَقَالَ ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: 64]، وَقَالَ: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم: 42].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا مَعْرِفَةُ رَبِّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنْ أَجْلِ أَنْ نَعْبُدَهَ وَنَتْرُكَ عِبَادَةَ مَنْ سِوَاهُ، فَنَعْتَقُدُ أَنَّ رَبَّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الْخَالِقُ الْمَالِكُ وَالْمُدَبِّرُ الرَّازِقُ، وَنَعْتَقِدُ أَنَّهُ الذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، فَهُوَ الْخَالِقُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، وَهُوَ الرَّازِقُ وَمَا سِوَاهُ مَرْزُوقٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا(95)﴾ [مريم: 93- 95].

وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتُ الْعُلْيَا التِي تَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَيَجِبُ أَنْ نَعْتِقَدَ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعَ اتِّصَافِهِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ لا يُمَاثِلُهُ أَحَدٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ فِيهَا صِفَاتٌ بِنَفْسِ الاسْمِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير﴾ [الشورى: 11].

فَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَمْلَأَ قَلْبِي وَقُلُوبَكُمْ بِمَعْرِفَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كِلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً رَسُولُهُ الأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ وَسَلِّمْ تَسْلِيمَاً كَثِيرَا.

أَمَّا بَعْدُ: رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَدْعُونَا إِلَيْهِ وَيُنَادِينَا لَنَدْنُوَا مِنْهُ، قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186].

ثُمَّ تَأَمَّلُوا هَذِهِ الآيَةَ الْعَظِيمَةَ وَهَذَا النِّدَاءَ الْكَرِيمَ مِنَ الرَّبِّ الرَّحِيمِ ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يُخْبِرُنَا عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَقُولُ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، وَتَأَمَّلْ سُرْعَةَ الرَّدِّ , فَقَالَ: أَسَتَجِبْ , وَلَمْ يَقُلْ: ثُمَّ أَسْتَجِيبُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي! لا بَلْ قَالَ مُبَاشَرَةً ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.

أَيُّهَا الْمُذْنِبُونَ: تَعَالَوْا وَانْظُرُوا مَاذَا فَتَحَ اللهُ لَكُمْ مِنْ بَابِ التَّوْبَةِ وَالأَمَلِ مَهْمَا عَظُمُ الذَّنْبُ وَكَبُرَ، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].

اللهُ أَكْبَرُ! مَا أَجْمَلَ هَذَا النِّدَاءَ وَمَا أَحْسَنَهُ، فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يُنَادِ الطَّائِعِينَ، وَإِنَّمَا نَادَى الْعُصَاةَ الْمُذْنِبِينَ وفَتَحَ لَهُمْ بَابَ الْأَمَلِ مَهْمَا قَدَّمُوا مِنْ سَيِّءِ الْعَمَلِ، فَأَيَّ عَمَلٍ عَمِلْتَهُ وَلَوْ بَلَغَ فِي السُّوءِ مَا بَلَغَ فَرَبُّكَ الرَّحِيمُ يَغْفِرْهُ لَكَ، بَلْ وَيَنْهَاكَ أَنْ تَقْنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ فَتَعْتَقِدَ أَنَّ ذَنْبَكَ كَبِيرٌ وَأَنَّ اللهَ لَنْ يَغْفِرَهُ، لا! فَرَبُّكَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَعَالَوْا بِنَا نُجَدِّدُ الْعَهْدَ مَعَ اللهِ بِأَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، وَنَرْجِعَ إِلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِنَا وَنَتُوبَ إِلَيْهِ مِنْ عُيُوبِنَا، فَمَا أَسْرَعَ مُغَادَرَةِ الدُّنْيَا وَمَا أَقْرَبَ لِقَاءَ اللهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق: 6].

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمَاً نَافِعَاً وَعَمَلاً صَالِحَاً، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِنا دِينِنا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنا وَأَصْلِحْ لِنا دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا مَعَاشِنا وَأَصْلِحْ لِنا آخِرَتِنا الَّتِي فِيهَا مَعَادِنا وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِنا فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِنا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اَللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.

 اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عَيْشَ السُّعَدَاءِ، وَمَوْتَ الشُّهَدَاءِ، وَالحَشْرَ مَعَ الأَتْقِيَاءِ، وَمُرَافَقَةِ الأَنْبِيَاءِ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، اللَّهُمَّ ارْضَ عَنْ صَحَابَتِهِ وَعَنِ التَّابِعِينَ وَتَابِعيِهِم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَعَنَّا مَعَهُم بِعَفْوِكَ وَمَنِّكَ وَكَرَمِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.