المعتزلة في الحاضر والماضي

عناصر الخطبة

  1. الأصول الخمسة للمعتزلة
  2. تقديم العقل على النص
  3. معتزلة اليوم وتأثرهم بالفكر الغربي المعاصر
اقتباس

فكان العرب في جاهلية جهلاء حتى من الله عليهم بمبعث رسول منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وكانوا من قبله في ضلال مبين فانقادوا لكتاب ربهم وسنة نبيهم وحكموهما في حياتهم في ما بينهم وبين ربهم اعتقاداً وعملاً وفيما بينهم وبين غيرهم فكانوا على الصراط المستقيم في عهد نبيهم وفي أول الخلافة الراشدة ثم أطلت البدعة برسها فظهرت فرقة الخوارج في خلافة أمير المؤمنين على ابن أبي طالب رضي الله عنه وفي آخرحياة الصحابة ظهرت بدعة الرافضة وبدعة القدرية ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب: 70ـ71].

أما بعد: فكان العرب في جاهلية جهلاء حتى من الله عليهم بمبعث رسول منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وكانوا من قبله في ضلال مبين فانقادوا لكتاب ربهم وسنة نبيهم وحكموهما في حياتهم في ما بينهم وبين ربهم اعتقاداً وعملاً وفيما بينهم وبين غيرهم فكانوا على الصراط المستقيم في عهد نبيهم وفي أول الخلافة الراشدة ثم أطلت البدعة برسها فظهرت فرقة الخوارج في خلافة أمير المؤمنين على ابن أبي طالب رضي الله عنه وفي آخرحياة الصحابة ظهرت بدعة الرافضة وبدعة القدرية الذين ينفون القدر ثم في عهد التابعين ظهرت بدعة الجهمية الموغلة في الجبر ونفي الأسماء والصفات وظهرت بدعة المعتزلة في البصرة على يدي واصل بن عطاء حين اعتزل مجلس الحسن البصري وهذه البدعة بدأت كغيرها من البدع يسيرة في مسألة الكبيرة وأن صاحبها ليس بمؤمن إنما هو بمنزلة بين منزلة الكفر والإيمان ولازالت المعتزلة تبتعد عن الحق بابتعادها عن نصوص الوحيين وتحكيمها العقل فيما لا يدركه العقل وتستقي مبادئها وأصولها من أهل البدع الأخرى من الجهمية والرافضة حيث سلكت منهجاً عقلياً في إثبات العقائد فنفت الصفات والقدر وقالت بخلق القرآن وغير ذلك من البدع العقدية المخالفة لما كان عليه النبي وأصحابه، وقد قامت بدعة الاعتزال على أصول خمسة:

الأصل الأول: التوحيد فقاسوا الخالق عز وجل على المخلوق فنفوا عنها صفات الكمال التي أثبتها لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله فتوحيدهم على الحقيقة تعطيل صفات الباري عز وجل.

الأصل الثاني العدل ويقصدون به نفي القدر فلم يقدر الله شيئاً على عباده ولم يقض عليهم بشيء بل هم يخلقون أفعالهم.  

الأصل الثالث: الوعد والوعيد: فيجب على الله عندهم تعالى عن ذلك أن يثيب الطائعين على طاعتهم وليس له اخلاف ذلك فالمطيع مستحق الثواب على الله كما أنه يجب عليه تعذيب العاصين على معصيتهم وليس له إخلاف الوعيد فالمؤمن إذا خرج من الدنيا من غير توبة عن الكبيرة التي ارتكبها فإنه خالد مخلد في النار لأن الله توعده بذلك لكن عقابه أخف من عقاب الكافر فنفوا عفو الله عن أهل الكبائر والشفاعة لهم.

الأصل الرابع : المنزلة بين المنزلتين، وهذا الأصل هو البذرة التي نشأ عليها الاعتزال ويقصدون بهذا الأصل أن مرتكب الكبيرة من الموحدين ليس بمؤمن ولا كافر؛ فهو في برزخ بين الإسلام والكفر هذا حكمه في الدنيا أما في الآخرة فإذا مات ولم يتب فهو خالد في النار.

الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا الأصل ظاهره حق وباطنه فيه باطل وهكذا المبتدعة والضلال يزخرفون باطلهم ويلبسونه لباس الحق ليموهوا على من لا يعرف حقيقتهم، فمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندهم استعمال القوة العسكرية لإزالة المنكر فهم يرون الخروج على السلاطين الجائرين بالسلاح لخلعهم. وهذا الأصل من أسباب إعجاب بعض المفكرين المعاصرين بمذهب الاعتزال فيرون في الاعتزال مذهباً ثورياً يرفض الظلم ويقف في وجوه الحكام المستبدين.

والواقع أنه وافق المعتزلة في مسألة الخروج على الحكام المستبدين بعض فضلاء أهل السنة لكن حينما رأوا ما آل الأمر إليه من حصول المفاسد واستباحة الدماء والأموال والأعراض وتفاقم الشر رجعوا عن ذلك وتمسكوا بمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن لا ينازعوا الأمر أهله إلا أن يروا كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان" رواه البخاري ومسلم.

ولم ينزعوا يدهم من طاعة وصبروا على ظلم الولاة وجورهم ففي حديث عوف بن مالك: "قيل يا رسول الله: أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال لا ما أقاموا فيكم الصلاة وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة" رواه مسلم.

لاتظن أخي حينما طرحت موضوع الاعتزال بأن المسألة مسألة ترف علمي أو أن الخطيب أعيته الحيلة فلم يجد موضوعاً يتكلم عنه فعن له موضوع الاعتزال. وإياك أن تظن أن فرقة المعتزلة فرقة ظهرت في فترة ثم زالت لا ليس الأمر كذلك فربما التسمية زالت أما الأفكار فهي باقية ولكل قوم وارث.

فلا زالت بعض أفكارهم تبث وتطرح ويطلب منا اعتقادها ويوحون لنا بأنها هي مفتاح التقدم والرقي فالعبرة بالمعاني والحقائق لا بالأسماء والألفاظ فربما تدثرت أفكار المعتزلة برداء العلمانية أوالعقلانية أو العصرانية أو التنويرية أو اللبرالية أو غير ذلك من التسميات فالأفكار في الغالب لا تموت بموت أصحابها بل لا تزال تتناقل ويزاد فيها وينقص فأفكار المعتزلة بمثابة الجرثومة التي تنتقل من شخص لشخص آخر عبر التاريخ.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين الذي يسر بأن يرث هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين وبعد سأعرض بعض أراء المعتزلة لننظر مدى وجود هذه الآراء في عصرنا وهل هذه الفرقة في عداد التاريخ أم أن لها تأثيراً على بعض الكتاب والمفكرين المعاصرين.

المعتزلة قدموا العقل على النصوص وجعلوه حاكماً على النصوص فإن كان النص آية من كتاب الله فلا سبيل إلى رده أو التشكيك في ثبوته فيلجؤون إلى تحريف النص وصرفه عن ظاهره ليوافق نتائج القواعد التي قعدوها والأصول التي أصلوها بعقولهم القاصرة أما إذا كان النص حديثا فالأمر عندهم أخف فيرد لأنه خبر آحاد فليس قطعي الثبوت فيحتمل الخطأ وقد عارض القطعي بزعمهم وهو العقل.

فمجدوا العقل وجعلوه هو الحكم حتى فيما لا يدرك بالعقل كالذي يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر وعالم الغيب فقد كانوا يطرحون المسألة ثم يعرضونها على عقولهم فيثبتون لها حكماً وحينما يصدرون الحكم يأتي النظر في الأدلة النقلة من الكتاب والسنة فالعقل مقدم وحاكم عندهم على النقل قارن ذلك بما تسمعه وتقرأه عبر وسائل الإعلام من تمجيد العقل وحتمية الرجوع إليه وإصدار الأحكام على ضوئه وأن الأحكام الشرعية نزلت في فترة زمنية معينة فلابد من إعادة النظر في تراثنا الفقهي ليواكب العصر في الحكم لا في طريقة العرض.

تأثر المعتزلة بكتب الفلسفة المترجمة من اليونان وأكبوا عليها وبنوا عليها أفكارهم وأصولهم مع شيء من التنقيح حتى لا يصادموا الناس في مسلماتهم العقدية فعظم في نفوسهم قدر هؤلاء الفلاسفة وجعلوهم في مرتبة تقارب مرتبة النبي.

قارن ذلك بما تسمعه وتقرأه من المحاولات للتوفيق بين أقوال وأراء وأفكار الغرب وأنها لا تخالف الدين الإسلامي وإظهار الغرب بالمظهر الحسن وتحسين وجهه القبيح وعظمت محبة كتب الفلسفة ومافيها عند المعتزلة وجعلوها مقدمة وحاكمة على كتاب ربهم وسنة نبيهم وماخالفها لابد من ليه ليوافق ما فيها.

قارن ذلك بما تسمعه وتقرأه من تعظيم الفلاسفة ومنظري الغرب وأن الغرب تقدم عندما أعمل الفكر الفلسفي وابتعد عما تفرضه عليه الكنيسة. رمى المعتزلة الصحابة بالتناقض حتى لم يسلم منهم الصديق ونسبوا أبا هريرة وغيره من الصحابة إلى الكذب واحتقروا علماء التابعين المنافحين عن السنة وزدروهم حتى قال عمرو بن عبيد وهو من كبار متقدميهم ألا تسمعون ما كلام الحسن البصري وابن سيرين عندما تسمعون إلا خرقة حيضة ملقاة. فكلام السلف عندهم بمثابة فوط الحيض المستعملة.

قارن ذلك بما تسمعه وتقرأه من الغمز بالصحابة وسلف هذه الأمة والطعن بالعلماء المنافحين عن مذهب السلف القامعين للمبتدعة من معتزلة ورافضة وغيرهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب وغيرهم فإسقاط هؤلاء إسقاط لما يحملونه من الإرث الشرعي الذي تناقلوه خلفا عن سلف. قارن ذلك بما تسمعه وتقرأه من أن الغرب تقدم عندما تخلص من تقديس المرجعيات واستخدام نحو ذلك من العبارات المبهمة التي تحتمل حقاً وباطلاً.

إخوتي: نلاحظ التباين بين اهتمام المعتزلة المتقدمين وبين معتزلة عصرنا وهذا أمر طبعي لاختلاف الظروف فنشأت فرقة المعتزلة في القرن الثاني وهو من القرون المفضلة فكان الدين هو المهيمن على حياة الناس فلذا برزت مسألة المنزلة بين المنزلتين لمرتكب الكبيرة حيث كان الناس على خير وصلاح والفسق قليل نسبياً فظهر الفجور بعد ذلك فظهر الكلام على حكم مرتكب الكبيرة ودخل في الإسلام الفرس والروم وغيرهم من العجم وكانوا يعتمدوا على علم الكلام وهو إثبات العقائد بالأدلة العقلية فظهرت أراء المعتزلة في الأسماء والصفات مقابل الآراء المورثة لمن دخل في الإسلام من غير العرب.

أما في عصرنا فالتقدم العلمي لدى الغرب وهيمنة مبادي الحضارة الغربية ومحاولة فرضها على غير الغربيين فاعتنى معتزلة العصر بسبب التقدم العلمي وبعض المبادي الغربية لاسيما ما يتعلق بالمرأة فتبنوا هذه الأفكار وناقشوها نقاشاً عقلياً محاولين تطويع النصوص لتوافق اعتقادهم ورد ما لا يمكن تطويعه من النصوص. فالاختلاف بين متقدمي المعتزلة ومتأخريهم اختلاف في الاهتمامات أما المنهج ففيه توافق إلى حد كبير على ما تقدم بيانه.