تطبيق الحدود الشرعية

عناصر الخطبة

  1. تطبيق الحدود حماية للمجتمع من الفساد
  2. الحكمة من فرض عقوبة قذف المحصنات
  3. عقوبة الزنا والحكمة من كونها نوعين
  4. اللواط وهدمه لأخلاق المجتمع وقلبه للأوضاع الطبيعية
  5. السرقة والاعتداء على أموال الناس
  6. الخمر وتغييب عقل المجتمع
  7. حد الحرابة والفساد في الأرض
  8. شبهات حول تطبيق الحدود الشرعية
  9. وجوب الستر على المسلمين
اقتباس

لقد شرع الله -سبحانه وتعالى- الحدود لحكم عظيمة، ومنافع جمة غفيرة، ينعم بجناها المجتمع الإنساني، ويتفيأ ظلالها، وتعود عليه بالأمن والاستقرار والراحة والهناء والاطمئنان، فيعيش المرء آمنًا في سربه، مرتاح الضمير، روحه مصونة فلا تزهق، ودمه محقون فلا يراق، ونسبه كريم صاف فلا يلوث ولا يعتدى عليه ..

إن الحمد لله… 

أما بعد:

أيها المسلمون: إن من طبيعة البشر أن تكون لهم إرادات متباينة، ونزعات مختلفة، فمنها نزعات إلى الحق والخير، ومنها نزعات إلى الباطل والشر، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن: 2]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ [الليل: 4]، ولما كانت النـزعات إلى الباطل والشر في ضرورة إلى ما يكبح جماحها، ويخفف من حدتها، من وازع إيماني، أو رادع سلطاني، جاءت النصوص الكثيرة بالتحذير من الباطل والشر، والترغيب في الحق والخير، وبيان ما يترتب على الباطل والشر من مفاسد في الدنيا وعقوبة في الآخرة، وما يترتب على الحق والخير من مصالح في الدنيا ومثوبات نعيم في الآخرة.

ولكن لما كان هذا الوازع لا يكفي في إصلاح بعض النفوس الشريرة الموغلة في الباطل والشر، وكبح جماحها، والتخفيف من حدتها، فرض رب العالمين -برحمته وحكمته- عقوبات دنيوية، وحدودًا متنوعة -بحسب الجرائم- لتردع المعتدي، وتصلح الفاسد، وتقيم الأعوج، وتظهر الملة، وتستقيم الأمة، وتكفّر جريمة المجرم، فلا تجتمع له عقوبة الآخرة مع عقوبة الدنيا، ففرض الله الحدود، وأوجب على ولاة الأمور إقامتها على الشريف والوضيع، والغني والفقير، والذكر والأنثى، والقريب منهم والبعيد؛ ففي الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم".

ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأسامة بن زيد -رضي الله عنهما- حين شفع إليه في امرأة من بني مخزوم كانت تستعير الشيء فتجحده، فأمر النبي بقطع يدها، فشفع فيها أسامة، فأنكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتشفع في حد من حدود الله؟!" ثم قام -صلى الله عليه وسلم- فخطب وقال: "إنما أهلك الذين كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله -أي أحلف بالله- لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". متفق عليه.

أيها المسلمون: لقد شرع الله -سبحانه وتعالى- الحدود لحكم عظيمة، ومنافع جمة غفيرة، ينعم بجناها المجتمع الإنساني، ويتفيأ ظلالها، وتعود عليه بالأمن والاستقرار والراحة والهناء والاطمئنان، فيعيش المرء آمنًا في سربه، مرتاح الضمير، روحه مصونة فلا تزهق، ودمه محقون فلا يراق، ونسبه كريم صاف فلا يلوث ولا يعتدى عليه، وعرضه سليم فلا يقذف ولا يوصم به، وأمواله محفوظة فلا تصل إليها يد خائن مجرم، ولا تمتد إليها يد سارق جشع اتخذ النهب حرفة، وعقله باقٍ على جبلته التي ميّزه الله بها، فلا يزيل نعمة الله عليه بالسكر، ودينه ثابت مستقيم قوي صلب، لا تلعب به الأهواء، ولا تزعزعه العواطف، فتجده مذبذبًا مترددًا يسير على غير هدى، ويخبط خبط عشواء.

فما دامت هذه فوائد تطبيق الحدود، فهنيئًا للذين يطبقون حدود الله في الأرض، حياة مستقرة سعيدة في الدنيا، وأجر ومغفرة من الله في الآخرة.

وفي المقابل، فما من أمة ضيعت أمر الله وحدوده إلا شاع فيها الذعر والفزع والاضطراب، وقل خيرها، وذهبت بركتها، وضاقت أرزاق أهلها، وكثرت فيها الأزمات والقلاقل، ومصداق هذا من كتاب الله قوله تعالى: (وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) [الجن: 16]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96].

وباجتراء الناس على محارم الله، وإمساك الأمة عن إقامة الحدود والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، تلحقهم اللعنة، كما لحقت بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون.

أيها المسلمون: إليكم بعض أحكام الله تعالى في بعض العقوبات، والتي يجب أن ترى ظاهرة تطبيقها في مجتمعات المسلمين، بسبب انتشار هذه الأمور.

لقد فرض الله عقوبة القاذف الذي يرمي الشخص المحصن البعيد عن تهمة الزنا فيقول: يا زاني أو يا زانية، فمن قال له ذلك، قيل له: إما أن تأتي بالبينة الشرعية على ما قلت وإما حدّ في ظهرك، فإذا لم يأت بها عوقب بثلاث عقوبات: يجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة أبدًا، ويحكم بفسقه فيخرج عن العدالة، إلا أن يتوب، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 4، 5]، وإنما أوجب الله عقوبته بتلك العقوبات حماية للأعراض ودفعًا عن تهمة المقذوف البريء البعيد عن التهمة.

وفرض الله عقوبة الزاني وجعلها على نوعين: نوع بالجلد مائة جلدة أمام الناس، ثم ينفى عن البلد لمدة سنة كاملة، وذلك فيما إذا لم يسبق له زواج تمتع فيه بنعمة الجماع المباح، يقول الله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 2]. ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام".

والنوع الثاني من عقوبة الزناة: الرجم بالحجارة حتى يموت، ثم يغسّل ويكفّن، ويصلّى عليه، ويدعى له بالرحمة، ويدفن مع المسلمين، وتلك العقوبة فيمن سبق له زواج تمتع فيه بالجماع المباح، وإن كان حين فعل الفاحشة لا زوج معه. وإنما كانت عقوبة الزاني المحصن بهذه الصورة المؤلمة دون القتل بالسيف؛ لأن هذه العقوبة كفارة للذة محرمة اهتز لها جميع بدنه، فكان من المناسب والحكمة أن تشمل العقوبة جميع بدنه بألم تلك الحجارة.

إن عقوبة الزاني بهذين النوعين من العقوبة لفي غاية الحكمة والمناسبة: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 132]، وإن إيجاب عقوبة الزاني من رجل أو امرأة لَعَيْنُ الرحمة للخلق؛ لما فيه من القضاء على مفسدة الزنا المدمر للمجتمعات، المفسد للأخلاق والسلوك، الموجب لضياع الأنساب واختلاط المياه، المحول للمجتمع الإنساني إلى مجتمع بهيمي، لا يهتم إلا بملء بطنه وشهوة فرجه: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) [الإسراء: 32].

أما اللواط وهو إتيان الذكر، فذلكم الفاحشة العظمى والجريمة النكراء، هدم للأخلاق، ومحق للرجولة، وجلب للدمار، وسبب للخزي والعار، وقلب للأوضاع الطبيعية، تمتع في غير محله، واستحلال في غير حله، الفاعل ظالم لنفسه حيث جرها إلى هذه الجريمة، والمفعول به مع ذلك مهين لنفسه؛ حيث رضي أن يكون من الرجال بمنزلة النسوان، لا تزول ظلمة الذل والهوان من وجهه حتى يموت أو يتوب توبة نصوحًا يستنير بها قلبه ووجهه، وكلاهما -الفاعل والمفعول به- ظالم لمجتمعه، حيث نزل بمستوى المجتمع إلى هذه الحال المقلوبة التي لا ترضاها ولا البهائم، ومن أجل مفاسده العظيمة كانت عقوبته أعظم من عقوبة الزنا؛ ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به".

واتفق الصحابة -رضي الله عنهم- على قتل الفاعل والمفعول به، قال شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله-: "لم يختلف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتله، سواء كان فاعلاً أم مفعولاً به، ولكن اختلفوا كيف يقتل، فقال بعضهم: يرجم بالحجارة، وقال بعضهم: يلقى من أعلى شاهق في البلد، وقال بعضهم: يحرق بالنار". وإنما كانت هذه عقوبة تلك الفاحشة؛ لأنها قضاء على تلك الجرثومة الفاسدة التي إذا ظهرت في المجتمع فيوشك أن تدمره تدمير النار للهشيم، ففي القضاء عليها مصلحة الجميع، وحماية له من أن يملى للمجرمين في البقاء في الدنيا، فيزدادوا إثما وطغيانًا، والله عليم حكيم.

وأما السرقة -التي هي اعتداء على أموال الناس، وهي من أحب الأشياء إلى النفوس- فقد قرر الشرع لهذه الجريمة عقوبة القطع، حتى يكون المقطوع عبرة لغيره بالكف عن اقتراف هذه الجريمة، فيطمئن كل فرد في المجتمع على ماله ونفسه وأهله.

والخمر جريمة تفقد الشارب عقلَه ورشده، وتحمله على ارتكاب كل حماقة وفحش قبيح ومنكر، وكفى بها أنها أم الخبائث، ولذا كانت عقوبته الجلد والضرب بالنعال؛ ليكون ذلك رادعًا له ولغيره من اقتراف مثل هذه الجريمة المفسدة للدين والأخلاق، تصل بصاحبها ومتعاطيها إلى التخنث والدياثة، وكفى بها من ضعة وهوان.

والمحاربون الساعون في الأرض بالفساد، المضرمون لنيران الفتن، والمثيرون للاضطرابات، كانت عقوبة هذه الجريمة أن تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْض) [المائدة: 33].

أيها المسلمون: إن إقامة الحدود الشرعية، وتطهير المجتمع من بذور الإجرام، قد أثار حقد أعوان الشيطان من القانونيين الكفرة، فبدؤوا يلقون الشبه حول تطبيق القوانين الوضعية، التي شقيت بها معظم المجتمعات، فهم يريدون أن يعم الشقاء؛ حيث زعموا أن إقامة الحدود ضرب عنيف من القسوة العاتية التي تتنافى مع الإنسانية الرحيمة، ومع الشفقة التي يجب أن يتحلى بها الناس والتي تساير المدنية الحديثة والحضارة الراقية المهذبة!! إلى آخر ما قالوا من هذه العبارات الجوفاء الخاوية. ونقول لهؤلاء: نعم إن في إقامة الحدود مظهرًا من مظاهر الشدة التي تسمونها قسوة، ولا بد لكل عقوبة أن يكون فيها مظهر شدة أيًا كانت، وإذا لم تشتمل العقوبة على شيء من الشدة فأي أثر لها في الزجر والردع؟! ثم أسأل عقول هؤلاء -إن كانت لهم عقول-: ما الذي حمل على هذه القسوة في نظركم؟! وما الذي دفع القاضي أن يحكم بهذه القسوة؟!

إن الذي دعا إلى هذا هو شيء أشد منه قسوة، ولو تركنا هذه العقوبة القاسية فيما تزعمون، لوقعنا في أمر أقسى من العقوبة وأقسى من موجبها، فمن الرحمة والشفقة أن تقيم الحد، ففيه رحمة بالمحدود، وبمن اعتُدي عليه، ألا ترون الطبيب الماهر الذي يستأصل بمبضعه جزءًا حيًّا من جسم أخيه الإنسان، أليست عملية البتر وضرب المبضع في اللحم الحي مظهرًا من مظاهر القسوة؟! وهل يستطيع أن يمارس هذه العملية إلا قلب قوي يعد في نظركم -أيها المترفون- قلبًا قاسيًا؟! ولكنها -لو تعلمون- قسوة هي الرحمة بعينها، وبخاصة إذا قيست بما يترتب على تركها، فحرصًا على سلامة المجتمع من سرطان الجريمة كان من الحزم الواجب استئصال العضو المريض الذي لا يرجى من بقائه إلا الفساد والإفساد، فإذا العضو الفاسد أغلق قلبه، فلم يقبل نصحًا، وألغى إنسانيته، فلم يعرف رحمة ولا شفقة، كان الجزاء من جنس العمل ﴿جَزَاءً وِفَاقاً﴾ [النبأ: 26].

فالقائلون بهذا القول نظروا إلى الحدود بعين واحدة، نظروا إلى الحدود ولم ينظروا إلى الجرائم، ينظرون إلى المجرم نظرة العطف، ولا ينظرون إلى الضحايا نفس النظرة، والمجرم في الحدّ قد يكون واحدًا، وقد تكون الضحية أكثر من واحد. إن المجرم بمقارفته الحدّ يتحدى المجتمع كله، فكيف يُصبر عليه؟! وكيف يُعفى عنه؟!

ومن هذه الشبه أيضًا قالوا: ولماذا كان القتل في حدّ المحصن رجمًا بالحجارة؟! أليس ذلك تحقيرًا للإنسانية وازدراءً لها؟! أليس هناك وسائل للقتل أرحم وأحسن وأسرع؟! فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وأي إحسان في القتل بالرجم؟! أليس الصعق مثلاً أو الشنق أخف على المحدود؟! نقول لهؤلاء: على رسلكم أيها الرحماء كما تزعمون!! إن هذا قتل لا يراد منه الإزهاق الروحي وكفى، وإنما المراد من هذا القتل الزجر والردع عن مقارفة الجريمة الشنعاء، فليكن القتل بطريقة تليق بمن اقترف هذا الإثم المستقذر البشع، ومن الحكمة في حد المحصن أن يكون الرجم بالحجارة ليتألم جميع بدنه، كما تلذذ بشهوة الزنا بجميع بدنه، والذي فرض العقوبة وقدرها وبيّن كيف تكون، إنما هو العليم الخبير، الذي يعلم خبايا النفس البشرية: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ﴾ [البقرة: 220].

إن الله -جل وعلا- هو الذي خلقنا وهو الذي أوجدنا، وهو أعلم بشؤوننا وما يصلح لنا وما لا يصلح، الله -جل وعلا- عندما يُشرِّع لعباده، فإنه -سبحانه- يُشرِّع ما يكون رحمة لهم، وإن كان في أنظارنا القاصرة قسوة وشدة، الله -جل وعلا- لم يخلقنا ويوجدنا ليعذبنا، ولكن خلقنا سبحانه لنعبده، ونتقيد بأحكامه رحمة بنا.

إن الرحمة التي ينشدها الإسلام هي الرحمة العامة التي تتسع لعموم الناس، ومن بينهم المجرمون، وليست الرحمة التي تنحصر بالمجرمين ويتضرر منها سائر الناس.

إن العقوبة -أيها الإخوة- عندما تكون لينة هشة فإنها تُغري بارتكاب الجرائم في الدماء والأموال والأعراض، فتكون شقاءً على العامة، وسببًا لإهدار حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم لحساب القتلة والسُرَّاق والزناة، ولكن عندما تكون العقوبة أليمة موجعة، فإنها تكون رحمة للجميع، رحمة بمريدي الإجرام؛ لأنها تزجرهم عن ارتكاب الجرائم ابتداءً، فتسلم لهم أنفسهم من العقاب، ورحمة بعموم المجتمع، بصيانة دمائه وأمواله وأعراضه من أن يُعتدى عليها بغير حق.

لقد اضطرّت بعض الدول الكافرة أخيرًا إلى تشديد عقوبة السرقة في أنظمتها، بعد أن تبين لهم أن عقوبة السجن لم تعد تجدي، ولم يخفف من كثرة ارتكاب هذه الجريمة، حتى سنّت بعض الدول إعدام السارق رميًا بالرصاص، وهي أقسى عقوبة ممكنة عندهم.

ألا فاتقوا الله عباد الله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 229]

نفعني الله وإياكم بهدي…

الخطبة الثانية:

الحمد لله…

أما بعد:

أيها المسلمون: إن كل عمل من شأنه أن يعطل إقامة الحدود فهو تعطيل لأحكام الله ومحاربة له؛ لأن ذلك من شأنه إقرار المنكر وإشاعة الشر.

إنه يحرم أن يشفع أحدٌ أو يعمل على تعطيل حدٍّ من حدود الله؛ لأن في ذلك تفويتًا لمصلحة محققة، وإغراءً بارتكاب الجنايات، ورضًا بإفلات المجرم من تَبِعات جُرمه.

إنه لا يجوز أن يصل الأمر للقاضي، ثم يأتي من يريد أن يشفع في القضية؛ لأن هذا يصرف القاضي عن وظيفته الأولى، ويفتح الباب لتعطيل الحدود، فكم من الظلم يحصل بسبب تدخل بعض الجهات في وظائف القضاة؛ روى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث صفوان بن أمية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه فقال: "هلاّ كان قبل أن تأتيني به؟!".

أيها المسلمون: إن شمول دين الله -جل وعلا- وكماله وعدالته، أنه يأمر بالستر على العصاة والمجرمين أحيانًا، والإسلام لا يقيم الحدود إلا إذا ثبتت وظهر أمرها واستفحل خطرها، لكن ما دام في القضية شبهة، فإن الحدود تُدرأ بالشبهات، وما دام الأمر لم يصل للسلطان أو القاضي، فإن الستر والتوبة ممكنة.

وقد يكون ستر العصاة علاجًا ناجعًا للذين تورطوا في الجرائم واقترفوا المآثم، وقد ينهضون بعد ارتكابها فيتوبون توبة نصوحًا، ويستأنفون حياة نظيفة، لهذا شرع الإسلام الستر على المتورطين في الآثام وعدم التعجيل بكشف أمرهم؛ عن سعيد بن المسيب قال: بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل من أسلم يقال له هَزَّال، وقد جاء يشكو رجلاً بالزنا، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: (وَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَـاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة) [النور: 4]، قال: "يا هزّال: لو سترته بردائك كان خيرًا لك". وروى ابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته".

كذلك على المسلم أن يستر نفسه ولا يفضحها، وأن يرجع ويتوب إلى الله، فإن في هذا خيرًا له، روى الإمام مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أيها الناس: قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب شيئًا من هذه القاذورة فليستتر بستر الله، فإنه من يُبْدِ لنا صفحته نُقم عليه كتاب الله".

أيها المسلمون: إن الحدود إذا أقيمت كانت مكفرة لصاحبها، فهي -إضافة إلى أنها إقامة لشريعة الله، وحفظ للمجتمع- فإن من فوائدها على الفرد المجرم نفسه، أنها تسقط عنه عقوبة الآخرة، وهذا لا شك في مصلحته؛ لأن عقوبة الآخرة لا تقاس بعقوبة الدنيا؛ روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مجلس فقال: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفىّ منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه".

أيها المسلمون: إن الناس يدركون لغة الأرقام، ويستوعبون ويقدرون حجم الكلام بالأرقام أكثر من الكلام العام، وإليكم -أيها الأحبة- هذه الإحصائية عن معدل الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية، هذه الدولة التي تنادي بحقوق الإنسان، وتعترض على الدول التي يطبق فيها شرع الله على المجرمين، بأن هذا قسوة، وظلم للإنسانية، تقول الإحصائية -وهي منشورة عن وكالة التحقيق الفدرالية والتي تسمى (إف بي آي)-: إن الجرائم في أمريكا جريمة كل 3 ثوانٍ، ويشير التقرير إلى أن جريمة قتل ترتكب كل 27 دقيقة، وجريمة اغتصاب كل 7 دقائق، وجريمة سرقة كل 63 ثانية، وسرقة سيارة كل 31 ثانية، وسطو على منزل كل 10 ثوانٍ، وسرقة أمتعة صغيرة كل 5 ثوانٍ؛ فأين أنظمتهم وأين جبروتهم وقوتهم؟! وأين ضبط الأمن عندهم؟! إنه لا نظام ولا أمن ولا قوة، إلا في تحكيم شرع الله، وأيّ تهاون أو تساهل في تطبيق الحدود فإنه يؤدي إلى مثل هذه الإحصائية وأشد من هذا، إنه ليس بين الله -جل وعلا- وبين أحدٍ نسب، إنها سنن، وإنه دين، من أخذه فاز في الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنه، أو قصّر في تطبيقه، أو تهاون في بعضه، فإنها مطارق السنن الإلهية ولا محالة: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكا) [طه: 124].