غنائم العشر الأواخر

عناصر الخطبة

  1. الهدْي النبوي في العشر الأواخر من رمضان
  2. دعوة للبدار بالأعمال الصالحة فيها
  3. ضرورة إتقان الأعمال وإحسانها والتلذُّذ بها والإخلاص فيها
  4. التأسف من إضاعة البعض الليالي العشر في اللهو أو التسوّق
  5. تعاسة مَن أدرك رمضان ولم يغفر له
  6. الدعاء وآدابه
  7. الصدقة
  8. ليلة القدر وفضلها
اقتباس

إنَّكُم تستقبلون يوم غَدٍ عشراً مباركاً هي العشر الأواخر من رمضان، جعلها الله موسما للإعتاق من النار، وخصَّها بليلةٍ العبادةُ فيها خيرٌ من عبادة ألف شهر، وقد كان رسولكم وحبيبكم محمد -صلى الله عليه وسلم- يخص العشر لأواخر من رمضان بالاجتهاد في العمل أكثر من غيرها ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها الناس اتقوا الله -عز وجل-، واجتهدوا -رحمكم الله- في التقرب إلى مولاكم بالأعمال الصالحة ما دمتم في هذه الدار دار العمل، فوالله! لَيأتينَّ على كل واحد منا يوم يحاسب فيه على الصغير والكبير، يوم يود المحسن أن لو كان قد ازداد من الأعمال الصالحة، ويود المسيء لو كان قد تاب وأناب، فاليوم -أيها الإخوة المسلمون- عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل.

أيها الإخوة: تفكروا في سرعة مرور الليالي والأيام، واعلموا أنها تنقضي بمرورها الأعمال، وتطوى بها صحائف الأعمال، فرحم الله امرءا كانت هذه الليالي والأيام مطايا تقربه من دار النعيم المقيم، دار السرور والحبور، ويا حسرة مَن عمرت لياليه وايامه بالمعاصي، وانقضت حياته ولم يزدد عملا صالحا، ولم يُوفَّقْ لتوبةٍ نَصُوحٍ، فبادِرُوا -رحمني الله وإياكم- بالتوبة النصوح، والأعمال الصالحة قبل انقضاء الفرصة السانحة، فتقول نفسٌ عندها: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ [الزمر:56].

أيها الإخوة المسلمون: إنكم تستقبلون يوم غَدٍ عشراً مباركاً هي العشر الأواخر من رمضان، جعلها الله موسما للإعتاق من النار، وخصَّها بليلة العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر، وقد كان رسولكم وحبيبكم محمد -صلى الله عليه وسلم- يخص العشر لأواخر من رمضان بالاجتهاد في العمل أكثر من غيرها.

روى الإمام مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها. وفي الصحيحين، عنها أيضا قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم-" إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله".

والاجتهادُ -أيها الإخوة المسلمون- في العشر الأواخر يتناول الاجتهاد في جميع الأعمال الصالحة، وبخاصة قراءة القرآن الكريم، والصلاة، والذكر، من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير، ويتناول الصدقة، وبذل الإحسان، والمعروف.

كان -عليه الصلاة والسلام- يتفرغ في العشر الأواخر لتلك الأعمال الصالحة ونحوها من القربات النافعة، بل كان -وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- يعتكف في العشر الأواخر، تفرغا للعبادة، فحري بك أيها المسلم، يامن ترجو ثواب الله، يامن ترجو المنازل العالية في جنة عالية، حري بك أن تقتضي بنبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- فتضاعف في أيام العشر مِن جدّك ونشاطك، وتبذل أقصى جهدك.

رحم الله امرءا عمر الليالي العشر، هذه الليالي الفاضلة، عمرها بالأعمال الصالحة، والقربات النافعة، وأخلص النية لربه، وسأل الله -عز وجل- قبول الأعمال.

ما أجدر من كانت هذه حاله بأن تضاعف حسناته، وتكفر سيئاته، وتحط خطيئاته، ويجود عليه الرب الكريم بإعتاقه من النار! فنسأل الله -عز وجل- لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين التوفيق والاعانة على الأعمال الصالحة وأدائها في الأيام العشر على أحسن هيئة، وأكمل صورة ترضي الرب -عز وجل-؛ فإن العبرة -أيها الإخوة المسلمون- ليست بكثرة الأعمال، وإنما بإتقانها، وإحسانها، وتجويدها، ومراقبة الله فيها، وإخلاصها لله -عز وجل-، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [هود:7، الملك:2].

أيها الإخوة المسلمون: إن من خصائص العشر الأواخر الاجتهاد في قيام الليل، وخصوصا آخر الليل، وإقامة الصلاة، بتطويل القراءة والركوع والسجود، وإيقاظ الأهل والأولاد؛ ليشاركوا المسلمين في تعظيم ليالي العشر، ويكون لهم نصيب من أجرها، وهذه سُنة تكاد تكون مهجورة عند كثير من الناس.

وإن مما يؤسف له -عباد الله- أن تكون ليالي العشر الليالي الفاضلة عند بعض الناس فرصة للهو واللعب والسهر فيما لا يحل أو لا فائدة منه، إن من المؤسف حقا أن تكون ليالي العشر هذه الليالي الشريفة موسم للتنزه في الأسواق، وقضاء معظم الليالي مِن قِبل بعض النساء والرجال في شر البقاع وأبغضها إلى الله، الأسواق.

أيها الإخوة المسلمون: إن من الغبن العظيم، والخسران المبين، أن تأتي ليالي العشر المباركة وتنتهي وكثيرٌ من الناس في غفلة معرضون؛ إن من شقاء العبد أن تمر به مواسم الفضل، وفرص المتاجرة مع الله، "الحسَنَة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة"، ولم يكن له في هذه التجارة سهم رابح.

إن من شقاء العبد وتعاسته أن يمد الله في عمره، ويفسح في أجله فيدرك ساعات الخيرات، ولحظات العتق من النار، وأوقات توزيع الغنائم، وهو مع ذلك -عياذاً بالله- مقيم على المعاصي، مستمر في مقارفة الذنوب والأثام، "ورَغِم أنفُ امرئٍ أدرك شهر رمضان ولم يغفر له"، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-.

أيها الإخوة المسلمون: إن هذه الليالي الفاضلة، ليالي العشر الأواخر من رمضان، يتلذذ فيها المؤمنون بمناجاة ربهم وخالقهم والمنعِم عليهم، إنها أوقات الانطراح بين يدي الرب الكريم الرحيم، والخضوع والانكسار بين مَن يحب توبة التائبين، ودعاء الداعين.

فيا أيها العبد الضعيف المسكين! ها هو مولاك الرب الكريم الجواد العظيم يدعوك للانطراح بين يديه، فاسأل مَن لا يتبرم من كثرة سؤال السائلين، وإلحاح الملحين، مع كثرة حاجات المحتاجين، وتعدد مطلوبات الطالبين، ها هو مولاك الكريم الرحيم ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر نزولا يليق بجلالته وعظمته فيقول، وهو الرب الكريم الغني عن عباده: "مَن يستغفر لي فأغفر له؟ من يدعو لي فأستجيب له؟ من يسألني فأعطينه؟". فكن أحد السائلين، وثِقْ بأنك تسأل أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين.

روى ابو داود وابن ماجه والترمذي عن سلمان -رضي الله عنه-، قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن ربكم حَيِيٌّ كريمٌ، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهم صفرا، أي: خائبتين".

وعن معاوية أن أعرابيا قال: يارسول الله! أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ, أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله تعالى عليه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة:186].

فسبحانه مِن إلهٍ فتَح بابه للطالبين، وحث على دعائه في كتابه المبين، وهو سبحانه أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، لا تختلف عليه اللغات، ولا تشتبه عليه الأصوات، ولا تغيّب يمينه كثرة النفقات، وهو القائل -عز وجل-: "يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ".

فأكْثِرْ -أيها الأخ- من الدعاء في الأوقات الشريفة، لعلك توافق بابا مفتوحا فتستجاب دعوتك فتسعد في الدنيا والآخرة، تخير من الدعاء أجمعه وأنفعه لك في الدنيا والآخرة، لا تنس الدعاء لوالديك وذريتك وإخوانك المسلمين، ادعُ الله بقلب خاشع، قلب منيب، ادع الله وأنت موقن بالإجابة، واعلم -رحمك الله- أن الله -سبحانه وتعالى- لا يستجيب الدعاء من قلب غافل لاهٍ، لا ترفع صوتك بالدعاء فتؤذي مَن بجانبك من المصلين، لا تستعجل الاجابة، ولا تتحسر فتقول بقلبك أو لسانك: دعوتُ ودعوتُ فلم أر يُستجاب لي، فإنه "يستجاب لأحدكم ما لم يعجِّل"، كما قال -صلى الله عليه وسلم-.

ليس من الضروري أن ترى نتيجة ما دعوت، فقد يدفع الله عنك من السوء بسبب دعائك له، وقد يؤجل الله لك الإجابة، وما يختار مولاك فهو أولى.

تحرَّ -أيها المسلم- لدعائك الساعات الفاضلة، اجتهد في الدعاء والاستغفار وقت الأسحار، وآخِر ساعة من وقت الجمعة، ووقت نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، أكْثِرْ من الدعاء في سجودك، فإن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد.

سأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مرافقته في الجنة، فقال له -صلى الله عليه وآله وسلم-: "أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود"، أظهِر الخشوع والتذلل والمسكنة بين يدي الملك الأعلى، ادعُ الله وأنت موقن بأن الله يسمع دعاءك، ويطلع عليك، ادع الله وأنت راجٍ قبول دعائك، خائف من شؤم ذنبك.

نسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا لاغتنام ليالي العشر المباركة في الأعمال الصالحة، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، وألَّا يكلنا إلى أنفسنا ولا إلى عملنا ولا إلى أحدٍ من خلقه طرفة عين ولا أقل من ذلك، وأن يجعل خير اعمالنا آخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائه، إنه على كل شيء قدير.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:9].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا مستحقا صاحب الجود العميم، والكرم العظيم، أحمده سبحانه حمدا لا يحصى، وأصلي وأسلم على نبيه محمد الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.

عباد الله: اتقوا الله -عز وجل-، وكونوا -رحمكم الله- على الحق أعوانا، وفي اصلاح ذات البين إخوانا، وفي اعلاء كلمة الله أركانا، اتقوا الله في السراء والضراء، راقبوه في الشدة والرخاء، راقبوا علام الغيوب، وحافظوا على اصلاح البيوت، أسأل الله لي ولكم الثبات على السُّنة، والعصمة من الفتن والشُّبَه المضلة، أسأله سبحانه أن يجعلنا جميعاً ممن صام وقام الشهر ايمانا واحتسابا فغفرت ذنوبه الماضية، وكفرت خطاياه السالفة، أسأل الله لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين العتق من النار، إنه أرحم الراحمين.

أيها الإخوة المسلمون: أكثروا من الصدقات خصوصا وأنتم تعيشون هذا الشهر المبارك، وتستقبلون أفضل لياليه ليالي العشر الأواخر، واعلموا أن الصدقة تطفئ غضب الرب سبحانه، وتدفع ميتة السوء، كما قال رسولكم -صلى الله عليه وسلم-.

أدْخِلوا -رحمكم الله- بزكاتكم وصدقاتكم وإحسانكم السرور على الأسر المحتاجه، تفقدوا الفقراء والمحتاجين، وخصوصا الأقرباء والأرحام والجيران، سدوا خللهم، وواسوهم بأموالكم التي ائتمنكم الله عليها، ومن ينفق ينفق الله عليه، (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَلَى نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) [محمد:38].

أيها الإخوة المسلمون: تحروا بصدقاتكم المستحقين الذين لا يسألون الناس الحافا، واعلموا أنه لا يجوز اعطاء الزكاة لغير أهلها الذين سماهم الله في كتابه، ولا يجزئ دفعها إلى غيرهم، فينبغي للمزكي أن يدفع زكاته لمن يغلب على الظن أنه من أهل الزكاة؛ فإن الزكاة لا تحل لغنيّ، ولا لقوي مكتسب.

والأصل في الزكوات أن تدفع لأهل البلد، كما قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "أعْلِمْهُم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتُردّ على فقرائهم". ومتى ما علم المسلم بحاجة اخوانٍ له في غير بلده لحاجتهم الماسة جاز له أن يبذل زكاته لهم، وصدقته إليهم.

أيها الإخوة المسلمون: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، فإنها -والله!- ليلة عظيمة، ليلة مباركة، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".

الله اكبر! ما أعظمه من أجر! ما أعظمه من جزاء! ليلة واحدة، ساعات معدودةٌ، مَن قامها إيمانا واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، منذ أن كُلِّف وإلى زمانه! إنما سميت هذه الليلة العظيمة ليلة القدر إما لكون الله -عز وجل- يقدر فيها ما يكون في تلك السنة، وهو التقدير السنوي، وإما لعظم قدرها وشرفها ومنزلتها ومكانتها، فهي خير من ألف شهر، أي قيامها والعمل فيها خير من العمل في ألف شهر.

يستحب للمسلم أن يكثر فيها من الدعاء؛ لأن الدعاء فيها مستجاب، اجتهدوا -أيها المسلمون- في تحصيل هذه الليلة المباركة، ليلة القدر، بالصلاة والدعاء والاستغفار والأعمال الصالحة؛ فإنها -والله!- فرصة العمر، والفرص لا تدوم، فكم من أناس نعرفهم كانوا يتمنون إدراك شهر رمضان والفوز بقيامه وصيامه فحيل بينهم وبين ما يأملون! فاغتنموا إدراككم لهذه النعمة، واجتهدوا في الحرص على قيام الليالي العشر؛ لتحظوا بمشيئة الله -عز وجل- بإدراك ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

قالت عائشة -رضي الله عنها- للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: أرأيت يا رسول الله إن أدركت ليلة القدر، ماذا أقول فيها؟ فقال لها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني".

فمَن تحقق له عفو الله فاز بخيريْ الدنيا والآخرة، تحقق له المطلوب، ونجا من المرهوب، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عنا.

ان الله سبحانه أخبر أن هذه الليلة المباركة خير من ألف شهر، أتدرون -أيها الإخوة المسلمون- كم يساوي ألف شهر؟ يزيد على ثمانين عاما! عبادة ليلة واحدة خير من عبادة ثمانين عاما! وهي عمر طويل، لو قضاه الإنسان كله في طاعة الله فليلة واحدة، وهي ليلة القدر، خيرٌ من هذه السنين كلها.

وهذا فضل عظيم، هذه الليلة -أيها الإخوة المسلمون- في رمضان قطعا، وفي العشر الأواخر آكَد، وإذا اجتهد المسلم في كل ليالي رمضان، وبخاصة في العشر الأواخر، فقد صادف ليلة القدر قطعاً، فبالله عليكم -أيها الإخوة المسلمون- أي فضل أعظم من هذا الفضل لمن وفقه الله؟!.

فاحرصوا -رحمكم الله- على طلب هذه الليلة، واجتهدوا بالاعمال الصالحة؛ لتفوزا بثوابها، فإن المحروم ليس مَن حُرم المال والدنيا والجاه والمنصب، المحروم -أيها المؤمنون- مَن حُرم الثواب، ومن تمر عليه مواسم المغفرة ويبقى محملا بذنوبه وأوزاره بسبب غفلته وإعراضه وعدم مبالاته، فما هي -أيها الإخوة المسلمون- إلا ليالي معدودات عما قريب تنتهي وتنقضي ويودعكم شهركم، فنسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا ممن حظي بقيام ليلة القدر، فاستكمل الأجر، وحاز الفضل والخير.

احذروا -أيها الإخوة المسلمون- من التبرم من العبادة، والتحدث بما فعل الإنسان من صلاة وقراءة قرآن وبذل وصدقة؛ لكي تكون أعمالكم قريبة إلى الاخلاص، ولتكن قلوبكم دائرة بين الرجاء والخوف، الرجاء من رحمة الله وفضله، والطمع فيما عنده، والأمل في قبول العمل، والخوف من الذنوب، والحذر من عدم قبول الأعمال؛ فإن هذه حالات المتقين، ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون:60].

نسأل الله -عز وجل- بمنه وكرمه وفضله وجوده أن يجعلنا جميعاً مِن المقبولين.

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبيكم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-…