الترغيب في الرفق

عناصر الخطبة

  1. من الأحاديث الواردة في الترغيب بالرفق
  2. دلالات هذه الأحاديث
اقتباس

وقد جاءت السنة النبوية مُرغِّبة في الرِّفق وحاثَّة عليه، وناهية عن ضِدِّه من العنف والفظاظة والغِلظة والقسوة، وضاربة المَثل الأعلى في الالتزام به؛ ليكون النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قدوةً لا مثيلَ له في هذا الباب العظيم من أبواب التعامل الإنساني السمح. وممَّا جاء من الترغيب في الرِّفق، والحث عليه، والنهي عن ضدِّه؛ من العنف…

الخطبة الأولى:

الحمد لله…

الرِّفق في اللغة: هو اللُّطف، وضِدُّه العُنف. والرَّفيق والرَّفق: اللَّطيف. والرَّفيق أيضاً: ضِدُّ الأخرق. يقال: طلبتُ حاجةً فوجدتُها رفَقَ البِغْية إذا كانت سهلةً(1).

ومما جاء في تعريف الرِّفق اصطلاحاً: بأنه “لِينُ الجانبِ بالقول والفِعل، والأخذُ بالأسهل، وهو ضِدُّ العُنف“(2). وقيل هو: “المُداراة مع الرُّفقاء، ولِينُ الجانب، واللُّطف في أخذ الأمر بأحسنِ الوجوه وأيسرِها“(3).

وقد جاءت السنة النبوية مُرغِّبة في الرِّفق وحاثَّة عليه، وناهية عن ضِدِّه من العنف والفظاظة والغِلظة والقسوة، وضاربة المَثل الأعلى في الالتزام به؛ ليكون النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قدوةً لا مثيلَ له في هذا الباب العظيم من أبواب التعامل الإنساني السمح.

وممَّا جاء من الترغيب في الرِّفق، والحث عليه، والنهي عن ضدِّه؛ من العنف، والفظَاظَة، والغِلظة، والقسوة، والتَّشدُّد:

1- قوله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ“(4). وجه الدِّلالة: محبَّةُ اللهِ -تعالى- لمَنْ ترفَّق في جميع أموره، وكلِّ أحواله، ومع جميع الناس؛ حتى مع المعاندين والمخالفين، ففيه حثٌّ على الرفقِ والصبر والحلم، وملاطفةِ الناس ما لم تدع حاجة إلى المُخاشنة(5).

2- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ“(6). وجه الدلالة: أنَّ الله -تعالى- يُثيب على الرِّفق ما لا يُثيب على غيره، ويُعطي عليه في الدُّنيا من الثناء الجميل، ونيل المطالب وتسهيل المقاصد، وفي الآخرة من الثواب الجزيل(7).

وفي الحديثين لطيفةٌ بديعة؛ وهي الإخبارُ عن حبِّ الله -تعالى- للرِّفق، ومن ثَمَّ فإنَّ الله -سبحانه- لا يُحبُّ من الأشياء إلاَّ ما كان خيراً مَحْضاً، كما أنَّ فيه إلزاماً للمسلم المُتابِع لله -سبحانه- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- بِحُبِّ الرِّفق، إذ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- – في حديث آخر: “ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِمَّا سِوَاهُمَا..” الحديث(8)، فإذا كان اللهُ -تعالى- يُحبُّ الرِّفقَ فبالضرورة أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يحب الرِّفق، وبالضرورة أيضاً أنْ يكون المسلمُ مُحِبًّا للرِّفق، تَبَعاً لله ورسوله.

3- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ“(9). وجه الدلالة: الرفق يُزَيِّن الأمور ويُجمِّلها، ويُتمِّم الأشياء التي يدخل فيها، والعنف على النقيض من ذلك؛ فهو يشين الأمور ويعيبها، وبه تقبح الأشياء وتفسد (10).

4- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ؛ يُحْرَمِ الْخَيْرَ“(11). وجه الدلالة: أنَّ عموم الأشياء لا تتمُّ إلاَّ بالرفق، فإذا حُرِمَه الإنسان لم يكد غَرَضُه يتم(12).

5- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ؛ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ في الأَعْمَارِ“(13).

6- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا أَرَادَ اللهُ عزَّ وجَلَّ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا؛ أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ“(14). وفي روايةٍ: “إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْراً؛ دَلَّهُمْ عَلَى بَابِ الرِّفْقِ“(15). وفي روايةٍ: “إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْخُرْقِ، وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَعْطَاهُ الرِّفْقَ، مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُحْرَمُونَ الرِّفْقَ إِلاَّ قَدْ حُرِمُوا“(16). وجه الدلالة: أنَّ علامات محبةِ الله -تعالى- لأهل بيتٍ ما، وإرادته الخير بهم أنْ يُلهمهم الرِّفق ويُدخله عليهم؛ فبه يتعاملون، وبه يتواصَون، ومَن يُحرم هذه الصفة الحسنة فقد حُرِم خيراً كثيراً.

7- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ؛ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ؛ فَارْفُقْ بِهِ“(17). وجه الدلالة: دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- على مَنْ شقَّ على الناس أن يشقَّ الله عليه، ودعا لمَن رفَقَ بهم أنْ يرفق الله به، و”هذا من أبلغِ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظمِ الحث على الرِّفق بهم“(18).

8- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ؛ فَأَوْغِلُوا فِيْهِ بِرِفْقٍ“(19). وجه الدلالة: الحث على الرِّفق في أداء العبادات، وتعلُّم العلم، وعدم الغلو والتَّنطُّع في ذلك.

الخطبة الثانية:

الحمد لله …

عباد الله: من دلالات الأحاديث السابقة:

الأول: كون الرِّفق خُلُقاً إسلاميًّا أصيلاً، حثَّ عليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ودعا إليه، ورغَّب فيه.

الثاني: حبُّ الله -تعالى- للرِّفق ومجازاته لمَن اتَّخذه سلوكاً له في حياته يدل على احتفاء الله -تعالى- بهذا الخُلُق، وتلك النِّعمة العظيمة.

الثالث: الرفق من الأخلاق المُتعدِّية الأثر إلى الغير؛ إذ أنَّ الإنسان لا يصدق عليه وصف الرَّفيق إلاَّ إذا رَفَقَ بغيره؛ سواء من الأبناء أو الأزواج أو الأقارب أو غيرهم. وهذا يعني: أنَّ الرِّفق عنصر من عناصر التواصل الاجتماعي، والذي يؤدِّي إلى نشر المودة والرحمة بين أفراد المجتمع بما يحقق تماسك البناء الاجتماعي سواء في المحيط الأسري الضيِّق أو المحيط الإنساني المجتمعي الواسع، وهكذا تُحافظ لنا الشريعة الإسلامية على التماسك الاجتماعي، وتُعزِّز كلَّ ما من شأنه أنْ يُحقِّق هذا التَّماسك.

الرابع: بيَّنت الأحاديث درجات ومراتب الرِّفق، فهناك الرِّفق بالنفس، وذلك بعدم المغالاة خاصة في الدِّين، ثم الرِّفق بالأهل والأقارب، ثم الرِّفق بين أفراد المجتمع، ثم الرِّفق من الحاكم بالرعية، وكلُّ هذه المراتب والدرجات مُؤدَّاها في النهاية إلى الخير في الدنيا والآخرة.

الاستعمال الصحيح للرِّفق:

لا بد أن يُستعمل الرفق في موضعه استعمالاً صحيحاً وحكيماً؛ ولذا قال الغزَّالي -رحمه الله-: “لَمَّا كانت الطِّباع إلى العُنف والحِدَّة أمْيَل كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جانب الرِّفق أكثر؛ فلذلك كَثُر ثناءُ الشَّرع على جانب الرِّفق دون العُنف، وإنْ كان العُنف في محلِّه حَسَنًا، كما أنَّ الرِّفق في محله حَسَن“(20).

ويُفهم من كلام الإمام الغزَّالي -رحمه الله- أنَّ هناك حالات لا يصلح لها الرِّفق، ومن الحكمة استعمال الشدة فيها؛ لأنه يترتَّب على وضع الرِّفق في غيرِ موضعه من النتائج السلبية، ما يترتَّب على وضع العنف في غير موضعه؛ فالرِّفق – مثلاً – بالعدو الكافر الذي بغى وظلم وتعدَّى، وقتل الأبرياء، ودنَّس المقدَّسات يعدُّ إساءةً كبيرة، بل مخالفة صريحة لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾[التوبة: 73]. ومِثْلُه مَنْ يعيثُ في الأرض فساداً(21).

قال سفيان الثوري -رحمه الله- لأصحابه: “تدرون ما الرِّفق؟ قالوا: قل يا أبا محمد! قال: أنْ تضَعَ الأمورَ من مواضعها؛ الشِّدة في موضعها، واللِّين في موضعه، والسَّيف في موضعه، والسَّوط في موضعه“(22).

بل إنَّ الشِّدة -التي هي في معنى الحزم- في بعض الأحيان قد تكون هي عين الرِّفق؛ فتأديب الأولاد وتربيتهم وتعويدهم السلوك الحسن الموصل إلى الجنة قد يحتاج أحياناً إلى الشدة.

وقد أحسن القائل:

فقَسَا لِيَزْدَجِرُوا، ومَنْ يَكُ حازماً *** فَلْيَقْسُ أحياناً على مَنْ يَرْحَمُ(23)

————-

(1) انظر: تهذيب اللغة، (9/102)؛ تهذيب الأسماء واللغات، (3/119)؛ لسان العرب، (10/121)؛ القاموس المحيط، (ص1145).

(2) فتح الباري، (10/449).

(3) عون المعبود، (13/112).

(4) رواه البخاري، (5/2242)، (ح5678)؛ ومسلم، (4/1706)، (ح2165).

(5) كشف المشكل، (4/269)؛ شرح النووي على صحيح مسلم، (14/145).

(6) رواه البخاري، (6/2539)، (ح6528)؛ ومسلم، واللفظ له، (4/2003)، (ح2593).

(7) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (16/145)؛ التيسير بشرح الجامع الصغير، (1/254).

(8) رواه البخاري، (1/14)، (ح16)؛ ومسلم، (1/66)، (ح43).

(9) رواه مسلم، (4/2004)، (ح2594).

(10) انظر: الرفق في السنة النبوية، د. حسن محمد (ص39).

(11) رواه مسلم، (4/2003)، (ح2592).

(12) انظر: كشف المشكل، (1/434).

(13) رواه أحمد في (المسند)، (6/159)، (ح25298). وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة)، (2/48)، (ح48).

(14) رواه ابن الجعد في (مسنده)، (ص495)، (ح3453)؛ وأحمد في (المسند)، (6/71)، (ح24471). وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد)، (8/19): (رجاله رجال الصحيح). وصححه الألباني في (صحيح الجامع)، (1/31)، (ح303).

(15) رواه أحمد في (المسند)، (6/104). وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة)، (2/55)، (ح523).

(16) رواه الطبراني في ﴿الكبير﴾، (2/306)، (ح2274). وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد)، (8/18): (رجاله ثقات)، وقال الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب)، (3/10)،(ح2666): (حسن لغيره).

(17) رواه مسلم، (3/1458)، (ح1828).

(18) شرح النووي على صحيح مسلم، (12/213).

(19) رواه أحمد في (المسند)، (3/198)، (ح13074). وحسنه الألباني في (صحيح الجامع)، (1/401)، (ح4009).

(20) إحياء علوم الدين، (3/186).

(21) انظر: الرفق في السنة النبوية، (ص81).

(22) إحياء علوم الدين، (3/186).

(23) نهاية الأرب في فنون الأدب، (7/219)؛ الوافي بالوفيات، (7/57).