بيان شيء من أنواع السحر

عناصر الخطبة

  1. الفرق بين الولي والساحر
  2. العيافة والطرق والطيرة من السحر
  3. حرمة التنجيم
  4. حرمة النميمة
  5. وجه الاتفاق والافتراق بين النميمة والسحر
  6. وقفة مع حديث إن من البيان لسحرا
اقتباس

ولا بد للمسلم أن يفرق بين ولي الله، وبين عدو الله من ساحر وكاهن ونحوهم ممن قد يجري على يديه شيء من الخوارق؛ كأن يجر الأثقال بشعره، أو تمشي السيارة على جسده فلا تضره، أو يُدخل السيف في صدره ويخرجه من ظهره؛ فهذا كله مما يساعد فيه الشياطين

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره على نعمه وآلائه وأسأله المزيد من فضله وكرمه وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم ما ظهر وما استتر، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، الشافع المشفع في المحشر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإِسلام بالعروة الوثقى، واحذروا سخط الجبار، فإنَّ أجسادكم على النار لا تقوى.

عباد الله: هناك أنواع من السحر يكثر وقوعها وتخفى على بعض الناس أنها منه؛ حتى اعتقد البعض أن من صدر عنه عمل خارق فهو ولي الله، وحتى آل الأمر إلى أن عُبد أربابها، وهذا العمل بعينه من الناس أحوال شيطانية، واستدراج من الشيطان لبني آدم إلى الشرك.

ولا بد للمسلم أن يفرق بين ولي الله، وبين عدو الله من ساحر وكاهن ونحوهم ممن قد يجري على يديه شيء من الخوارق؛ كأن يجر الأثقال بشعره، أو تمشي السيارة على جسده فلا تضره، أو يُدخل السيف في صدره ويخرجه من ظهره؛ فهذا كله مما يساعد فيه الشياطين.

وأولياء الله هم أحبابه المتقربون إليه بالطاعات وترك المحرمات، وإن لم تجر على أيديهم خوارق، وإن جرت فكرامة من الله، وليست وحدها دليلاً على الولاية.

وكرامات الأولياء تقوى بذكر الله وتوحيده وقراءة القرآن؛ أما خوارق السحرة والمشعوذين فإنها تضعف وتبطل عند ذكر الله وقراءة القرآن.

في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت" رواه أحمد. قال عوف: "العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يُخط بالأرض"، والجبت قال الحسن: "رنة الشيطان". بين -صلى الله عليه وسلم- في الحديث ثلاثة أمور، كلها داخلة في مُسمى السحر:

وأولها: العيافة؛ وهي زجر الطير أي تهييجه، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، وقد كانت العرب تفعل ذلك من باب التشاؤم والتفاؤل، إذا أرادوا فعل أمر كسفر أو تجارة أتوا إلى الغربان أو الحمام أو غيرهما فينفرونهما أو يزجرونهما، فإذا طارت باتجاه اليمين تفاءلوا وأقدموا على هذا الأمر، وإذا اتجهت نحو الشمال تشاءموا وأحجموا عن هذا الأمر.

وقد أبطل -صلى الله عليه وسلم- هذه العادة الجاهلية، وعلَّمنا صلاة الاستخارة وتفويض الأمور لله -سبحانه وتعالى-.

وثانيها: الطَّرق؛ وهو ما يخطه الرمالون الكذابون ويدعون به علم الغيب، ويدخل في ذلك قراءة الكف والفنجان، وتحديد المستقبل من الأبراج ونحوها، وإن كان ذلك من باب التسلية، وعلى المسلم ألا يصدق هؤلاء الكذابين، فعلم الغيب مما اختص الله -سبحانه- بعلمه، قال تعالى: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [النمل: 65]

وثالثها: -عباد الله-: الطيرة؛ وهي التشاؤم بالطيور وغيرها، كاعتقاد أنَّ البومة إذا مرت على دار ونعقت فسيموت أحد من أهل هذه الدار، وكذلك التشاؤم ببعض أيام الشهر أو بعض شهور السنة، وقد حذر -صلى الله عليه وسلم- منها فقال: "الطيرة شرك" رواه الترمذي؛ لما فيها من تعلق القلب بغير الله.

وبهذا يظهر لنا -عباد الله- أنَّ العيافة والطرق والطيرة من السحر، وذلك أن السحر اسم لما خفى ولطف سببه؛ والاعتماد في هذه الأمور الثلاثة على أمر خفي.

وقول الحسن: "الجبت: رَّنة الشيطان"؛ تفسير للجبت ببعض أفراده، ورَّنة الشيطان: أي صوته، وفُسر صوت الشيطان بكل صوت يدعو للباطل، وكل صوت مُحرم؛ فصوت النائحات منه، وصوت المعازف والملاهي منه، قال تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ [الإسراء: 64]

وفي الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد" رواه أبو داود بإسناد صحيح.

يخبر -صلى الله عليه وسلم- خبرًا معناه النهي والتحذير؛ بأنَّ من تعلم شيئًا من علم التنجيم؛ فقد تعلم شيئًا من السحر المحرم؛ وذلك لما فيه من الاستدلال بالأمور الخفية التي لا حقيقة لها، ولما فيها من ادعاء علم الغيب الذي اختص الله بعلمه.

فالمنجمون يستدلون بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، فيزعمون أنَّ من وُلد في نجم كذا فسيكون سعيدًا، ومن ولد في النجم الآخر سيكون تعيسًا، وفي الحقيقة أنه ليس للنجوم أي علاقة بحوادث الأرض وأحوال الناس، كل هذا من ادعاء الغيب الذي استأثر الله به، فالله -سبحانه- هو المتصرف في الكون وبيده مقاليد الأمور.

عباد الله: بين -صلى الله عليه وسلم- أنه كلما ازداد المنُجم توغلاً في التنجيم ازداد توغلاً في السحر والإِثم العظيم، وزيادة البعد عن الله؛ فإن ما يعتقدونه في النجوم من معرفة الحوادث التي لم تقع، وربما تقع في مستقبل الزمان، مثل إخبارهم بوقت هبوب الرياح، ومجيء المطر، ووقوع الثلج، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار، وموت فلان ونحوها.

ويزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير الكواكب، واجتماعها وافتراقها، وهذا باطل؛ كما أن تأثير السحر باطل، بل هو مما استأثر الله به؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ [لقمان: 34]

وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله" وغير ذلك مما استأثر الله بعلمه؛ وأما ما يدرك بطريق المشاهدة من علم النجوم الذي يُعرف به الزوال وجهة القبلة ونحو ذلك، فغير داخل فيما نهى عنه، قال تعالى: ﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: 16]

أيها المسلمون: للنسائي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكلِّ إليه".

حذر -صلى الله عليه وسلم- أمته مما يسمى بسحر العقد في الخيوط ونحوها، ومن تعاطى ذلك فهو مشرك؛ لأنه لا يتوصل لسحره إلا بعبادة الشياطين والتقرب إليها، وقد أمرنا الله -سبحانه- بالاستعاذة من شر هؤلاء في قوله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ [الفلق: 4]، يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك.

وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن سحر فقد أشرك"، نص في أن الساحر مشرك، وقد حكى الحافظ عن بعضهم أنه لا يتأتى إلا مع الشرك.

ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "ومن تعلق شيئًا وكل إليه"، أي: ومن تعلق قلبه شيئًا بحيث يعتمد عليه ويرجوه، وكله الله على ذلك الشيء وخذله، وخلى بينه وبينه؛ فإن تعلق قلبه بربه كفاه وتولاه، كما قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36]

ومن تعلق على السحرة والشياطين وغيرهم من المخلوقين وكله الله إلى من تعلق به، ومن وكُلِّ إلى غير الله هلك وخسر خسرانًا مبينًا، وضل ضلالاً بعيدًا، بل من تعلق قلبه بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر فقد أشرك.

وسعادة المرء وعظم صلاح قلبه في تعلقه بالله -سبحانه وتعالى- ولجوئه إليه وانطراحه بين يديه.

وفي الحديث الآخر الذي رواه الإِمام مسلم، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا هل أنبئكم ما العَضْةُ؟ هي النميمة؛ القالة بين الناس".

أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحذر أمته من النميمة، وهي السعي بين الناس بنقل قول بعضهم في بعض على وجه الإِفساد، وحقيقتها إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه، فافتتح -صلى الله عليه وسلم- حديثه بصيغة الاستفهام؛ ليكون أوقع في النفوس وأدعى للانتباه، فسألهم: ما العَضْة؟ ثم بيَّن -صلى الله عليه وسلم- بأنه نقل الحديث بين الناس على وجه الإِفساد وإيقاع الخصومة بينهم.

فالحذر الحذر -عباد الله- من هذه الخصلة الذميمة التي هي من أسباب عذاب القبر، كما قال -صلى الله عليه وسلم- عندما مر على قبرين: "أما أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" رواه البخاري.كما يجب على كل من حُملَت إليه النميمة أن ينهى صاحبها ولا يظن بأخيه السوء.

عباد الله: النميمة نوع من أنواع السحر، قال يحيى بن أبي كثير: "يُفسد النمام والكذاب في ساعة، ما لا يُفسد الساحر في سنة"، وقال أبو الخطاب: "ومن السحر السعي بالنميمة والإِفساد بين الناس".

ووجهه أنه يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة أشبه السحر، وهذا يُعرف بالعرف والعادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله الساحر أو أكثر.

ووجه الشبه بين السحر والنميمة: أن كليهما يعملان على التفريق بين القلوب والإِفساد بين الناس.

وافترقا في أنَّ السحر يكفر صاحبه؛ لأن فيه عبادة للشياطين وعقوبته القتل.والنميمة من كبائر الذنوب لا يكفر صاحبها ولا يقتل؛ إلا إذا استحل ذلك؛ لأن من أحل حرامًا أو حرم حلالاً فقد كفر.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]

بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله شرح بفضله صدور أهل الإِيمان بالهدى، وأضل من شاء بحكمته وعدله، فلن تجد له وليًا مرشدًا، أحمده -سبحانه- وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا فردًا صمدًا، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله كرم أصلاً وطاب محتدًا، خصه ربه بالمقام المحمود وسماه محمدًا، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه هم النجوم بهم يهتدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتدى.

عباد الله: وللبخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من البيان لسحرًا".

وسبب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، أنه قدم رجلان من المشرق فخطبا الناس، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من البيان لسحرًا" أو "إن بعض البيان لسحر" والبيان: البلاغة والفصاحة؛ يعني إن بعض البيان يعمل عمل السحر.

وإنما شبهه بالسحر لحِدة عمله في سامعه، وسرعة قبول القلب؛ وهذا من التشبيه البليغ، لكون ذلك يعمل عمل السحر، فيجعل الحق في قالب الباطل، والباطل في قالب الحق، فيستميل به قلوب الجهال، حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق وهذا مذموم.

قال صعصعة بن صوجان: "صدق نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إن الرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحق؛ والمراد البيان الـذي فيه تمويه على السامع وتلبيس، شبهه بالسحر لفساده".

وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن عمر مرفوعًا: "إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي تخلل بلسانه كما تخلل البقرة بلسانها" وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره، ويبطل الباطل ويبينه فهذا ممدوح، حال الرسل وأتباعهم.

وسأل رجل عمر بن عبد العزيز عن حاجة فأحسن المسألة، فقال: "هذا والله السحر الحلال".

هذا، وصلوا وسلموا.