لئلا ننسى يوم عاشوراء

عناصر الخطبة

  1. الحكمة من تكرار قصة موسى عليه السلام وفرعون
  2. قصة موسى وفرعون تبعث في نفوس المؤمنين التفاؤل
  3. بعض الدروس من قصة موسى وفرعون
اقتباس

إِنَّ هَذِهِ الحَيَاةَ هِيَ هِيَ، تَتَكَرَّرُ مَشَاهِدُهَا في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلِلأُمَمِ دَورَاتُ حَيَاةٍ مُتَشَابِهَةٌ، يَتَكَرَّرُ فِيهَا الفَرَاعِنَةُ وَمُعَاوِنُوهُم مِن مِثلِ هَامَانَ، وَتُجَّارُهُم الجَشِعُونَ مِن مِثلِ قَارُونَ، وَالمُضَلِّلُونَ لِلنَّاسِ بِتَخيِيلاتِهِم وَكَذِبِهِم مِن أَمثَالِ السَّحَرَةِ…

الخطبة الأولى:

أَمَّا بَعدُ، فَـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[الْبَقَرَةِ: 21].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: وَبَعدَ أَن صَامَ المُسلِمُونَ يَومَ عَاشُورَاءَ وَيَومًا قَبلَهُ، اقتِدَاءً بِرَسُولِ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَشُكرًا للهِ عَلَى إِنجَائِهِ مُوسَى -عَلَيهِ السَّلامُ- وَمَن مَعَهُ مِنَ المُؤمِنِينَ، فَلَعَلَّ مِمَّا يُنَاسِبُ الحَدِيثُ عَنهُ بَعدَ هَذِهِ المُنَاسَبَةِ الكَرِيمَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِمُوسَى -عَلَيهِ السَّلامُ- أَن نُشِيرَ إِلى مَا يَلحَظُهُ قَارِئُ القُرآنِ المُتَدَبِّرُ، مِن تَكَرُّرِ ذِكرِ نَبيِّ اللهِ مُوسَى -عَلَيهِ السَّلامُ- في سُوَرِ القُرآنِ أَكثَرَ مِن غَيرِهِ، وَتَعَرُّضِ آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِلى مَا حَدَثَ لَهُ مَعَ قَومِهِ، وَمُرُورِ مَوَاقِفَ مُتَنَوِّعَةٍ مِن حَيَاتِهِ، وَهُوَ طِفلٌ رَضِيعٌ، ثم وَهُوَ شَابٌّ قَوِيٌّ أَمِينٌ، ثم مَعَ فِرعَونَ وَهُوَ كَهلٌ رَصِينٌ، ثم مَعَ بَني إِسرَائِيلَ في مِصرَ وَفي سَينَاءَ وَفي فِلَسطِينَ.

أَجَل -أَيُّهَا الإِخوَةُ- لَقَد تَكَرَّرَ اسمُ نَبيِّ اللهِ مُوسَى في القُرآنِ كَثِيرًا، وَفُصِّلَ في قِصَّتِهِ بِمَا لم يُفَصَّلْ في قَصَصِ الأَنبِيَاءِ الآخَرِينَ. وَكَم هُوَ -وَاللهِ- عَجِيبٌ أَنْ يَحذَرَ فِرعَونُ مِن مُوسَى كُلَّ الحَذَرِ، فَيَقتُلَ أَبنَاءَ بَنِي إِسرَائِيلَ وَيَستَبقِيَ نِسَاءَهُم، خَوفًا مِن غُلامٍ مِنهُم، زَعَمَ كَهَنَتُهُ أَنَّهُ سَيَولَدُ وَيَكُونُ عَلَى يَدَيهِ نِهَايَةُ مُلكِهِ وَهَلاكُهُ، وَبِتَدبِيرٍ مِنَ العَزِيزِ الحَكِيمِ اللَّطِيفِ الخَبِيرِ، يُولَدُ مُوسَى في عَامٍ كَانَ فِرعَونُ يَقتُلُ فِيهِ الأَطفَالَ، فَتَحزَنُ أُمُّهُ حِينَ وَضَعَتهُ خَوفًا عَلَيهِ، وَيَستَمِرُّ خَوفُهَا عَلَيهِ حَتَّى أُوحِيَ إِلَيهَا أَن تُرضِعَهُ، فَإِذَا خَافَت عَلَيهِ فَلْتَضَعْهُ في صُندُوقٍ وَتُلقِهِ في البَحرِ، ﴿وَأَوحَينَا إِلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرضِعِيهِ فَإِذَا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقِيهِ في اليَمِّ وَلا تَخَافي وَلا تَحزَني إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرسَلِينَ﴾[الْقَصَصِ: 7].

وَيَشَاءُ اللهُ أَن تَقذِفَ بِهِ الأَموَاجُ لِيَصِلَ إِلى بَيتِ فِرعَونَ؛ لِيَظهَرَ عَجزُ ذَلِكُمُ الطَّاغِيَةِ وَضَعفُهُ أَمَامَ قُوَّةِ اللهِ الجَبَّارِ وَقُدرَتِهِ، وَيَأتيَ الغُلامُ الَّذِي كَانَ يَقتُلُ الغِلمَانَ مِن أَجلِهِ حَتَّى يَكُونَ بَينَ يَدَيهِ وَفي قَبضَتِهِ، وَلَيسَ ذَلِكَ فَحَسبُ، بَل وَيُسَخِّرُ اللهُ هَذَا الطَّاغِيَةَ بِكُلِّ مَا تَحتَ يَدِهِ لِهَذَا الغُلامِ، فَيَعِيشُ في بَيتِهِ وَعَلَى فِرَاشِهِ وَمَائِدَتِهِ، وَيَرضَعُ مِن ثَديِ أُمِّهِ بِأُجرَةٍ مِن فِرعَونَ، وَيَتَحَقَّقُ وَعدُ اللهِ: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلى أُمِّهِ كَي تَقَرَّ عَينُهَا وَلا تَحزَنَ وَلِتَعلَمَ أَنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لا يَعلَمُونَ﴾[الْقَصَصِ: 13].

وَيَعقِدُ اللهُ لِعَبدِهِ مُوسَى الأَسبَابَ حَتَّى يُخرِجَهُ مِن بَينِ أَظهُرِ الأَقبَاطِ الكَافِرِينَ، وَيَرزُقَهُ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ وَالتَّكْلِيمَ، وَيَبعَثَهُ إِلى فِرعَونَ لِيَدعُوَهُ مَعَ مَا كَانَ عَلَيهِ مِن التَّعَاظُمِ وَالكِبرِ، فَيَتَمَرَّدَ الطَّاغِيَةُ وَيَستَكبِرَ وَتَأخُذَهُ الحَمِيَّةُ وَالنَّفسُ الخَبِيثَةُ الأَبِيَّةُ، وَيَتَوَلَّى بِرُكنِهِ وَيَدَّعِيَ مَا لَيسَ لَهُ، وَيَتَجَرَّأَ عَلَى اللهِ وَيَبغِيَ على أَهلِ الإِيمَانِ مِن بَنِي إِسرَائِيلَ. وَمَا يَزَالُ اللهُ -تَعَالَى- يَحفَظُ رَسُولَهُ مُوسَى -عَلَيهِ السَّلامُ- وَيَحوُطُهُ بِعَنَايَتِهِ ويُؤَيِّدُهُ بِالآيَاتِ البَاهِرَةِ وَالمُعجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَمَا يَزَالُ فِرعَونُ وَمَلَؤُهُ يُصِرُّونَ عَلَى التَّكذِيبِ وَالجُحُودِ وَإِيذَاءِ مُوسَى وَمَن مَعَهُ، حُتَّى يُلجِئُوهُم لِلفَرَارِ بِدِينِهِم، وَالهِجرَةِ مِن وَطنِهِم إِلى وَطَنٍ يَعبُدُونَ اللهَ -تَعَالَى- فِيهِ. وَيُصِرُّ فِرعَونُ وَجُنُودُهُ عَلَى اللَّحَاقِ بِهِم لِلتَّنكِيلِ بِهِم وَقَطْعِ دَابِرِهِم، وَيَبلُغُ الكَربُ بِالمُؤمِنِينَ غَايَتَهُ حِينَ وَصَلُوا إِلى البَحرِ الَّذِي يَقِفُ كَالحَاجِزِ أَمَامَهُم، وَالعَدُوُّ خَلفَهُم يَقتَرِبُ مِنهُم (فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمعَانِ قَالَ أَصحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدرَكُون * قَالَ كَلَا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهدِينِ * فَأَوحَينَا إِلى مُوسَى أَنِ اضرِبْ بِعَصَاكَ البَحرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرقٍ كَالطَّودِ الْعَظِيمِ * وَأَزلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنجَينَا مُوسَى وَمَن مَعَهُ أَجمَعِينَ * ثُمَّ أَغرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكثَرُهُم مُؤمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ)[الشُّعَرَاءِ: 61-68].

نَعَم -أَيُّهَا الإِخوَةُ- لم يَزَلْ فِرعَونُ مُتَكَبِّرًا مُتَجَبِّرًا، حَتَّى حَلَّ بِهِ بَأسُ اللهِ الَّذِي لا يُرَدُّ عَنِ القَومِ المُجرِمِينَ، وَحَتَّى أَغرَقَهُ اللهُ بِذَاكَ المَاءِ الَّذِي حَفِظَ مِنهُ مُوسَى لَمَّا أَلقَتهُ أُمُّهُ فِيهِ، فَسُبحَانَ الَّذِي أَنجَى بِرَحمَتِهِ مِنَ اليَمِّ طِفلًا رَضِيعًا، وَأَهلَكَ بِهِ الطَّاغِيَةَ وَمَن مَعَهُ جَمِيعًا ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ القَومِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾[الْأَنْعَامِ: 45].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ قِصَّةَ مُوسَى وَفِرعَونَ لَتَبعَثُ في نُفُوسِ المُؤمِنِينَ التَّفَاؤُلَ، وَتَمنَحُهُم الأَمَلَ الوَاسِعَ بِأَنَّ دِينَ اللهِ غَالِبٌ لا مَحَالَةَ، وَأَنَّ أَولِيَاءَهُ مُنتَصِرُونَ مَهمَا انتَفَشَ البَاطِلُ وَانتَشَرَ وَتَقَوَّى وَتَكَبَّرَ؛ وَأَنَّ أَمرَهُ -تَعَالَى- مَاضٍ وَقَدَرَهُ نَافِذٌ، لا يَمنَعُهُ ظُلمٌ وَلا جَبَرُوتٌ وَلا طُغيَانٌ، وَلا يَرُدُّهُ كَيدٌ وَلا مَكرٌ ولا تَدبِيرٌ، وَلِمُتَأَمِّلٍ أَن يَتَأَمَّلَ وَيَعجَبَ، كَيفَ استَمَالَ فِرعَونُ السَّحَرَةَ بِالمِنَحِ وَأَجزَلَ لَهُمُ العَطَايَا، وَكَم وَعَدَهم بِهِ مِنَ التَّمكِينِ لَدَيهِ إِن هُم صَرَفُوا النَّاسَ عَنِ الحَقِّ وَأَعمَوهُم عَن نُورِ اللهِ المُبِينِ، وَمَعَ ذَلِكَ يِنَقلِبُونَ عَلَيهِ مُستَهِينِينَ بِوُعُودِهِ وَوَعِيدِهِ حِينَ أَبصَرُوا دَلائِلَ الإِيمَانِ، فَكَانُوا أَوَّلَ النَّهَارِ سَحَرَةً، وَآخِرَهُ مُؤمِنِينَ شُهَدَاءَ بَرَرَةُ ﴿وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرعَونَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجرًا إِنْ كُنَّا نَحنُ الغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَم وَإِنَّكُم لَمِنَ المُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلقِيَ وَإِمَّا أَن نَكُونَ نَحنُ المُلقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلقَوا سَحَرُوا أَعيُنَ النَّاسِ وَاستَرهَبُوهُم وَجَاءُوا بِسِحرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوحَينَا إِلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلقَفُ مَا يَأفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(122)﴾[الْأَعْرَافِ: 113-122]، وَلَيسَ هَذَا فَحَسبُ، بَل إِنَّهُ حَتَّى مَعَ ضَعفِ النِّسَاءِ، فَقَد تَحَدَّتِ امرَأَةُ فِرعَونَ زَوجَهَا الطَّاغِيَةَ، وَشَمَخَت بِإِيمَانِهَا، وَلم تَفتَتِنْ بِالدُّنيَا وَزَخَارِفِهَا، وَضَرَبَ اللهُ بها مَثَلًا لِلمُؤمِنِينَ إِذْ قَالَت: ﴿رَبِّ ابْنِ لي عِندَكَ بَيتًا في الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرعَونَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القَومِ الظَّالِمِينَ﴾[التَّحْرِيمِ: 11]، بَل وَوُجِدَ في آلِ فِرعَونَ مُؤمِنُونَ نَاصِحُونَ مَعَ مَا في ذَلِكَ عَلَيهِم مِنَ الأَذَى ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾[غَافِرٍ: 28]، وَهَكَذَا -أَيُّهَا المُؤمِنُونَ- تَتَكَرَّرُ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ فِرعَونَ وَمَعَ بَنِي إِسرَائِيلَ في مَوَاضِعَ مِن كِتَابِ اللهِ؛ لِتَكُونَ تَثبِيتًا لِلمُؤمِنِينَ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَتَهدِيدًا لِلطُّغَاةِ في كل عَهدٍ وَآنٍ (طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)[الْقَصَصِ: 6].

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ، وَاقرَؤُوا كِتَابَهُ وَتَدَبَّرُوهُ، وَخُذُوا العِبَرَ مِمَّا فِيهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الحَيَاةَ هِيَ هِيَ، تَتَكَرَّرُ مَشَاهِدُهَا في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلِلأُمَمِ دَورَاتُ حَيَاةٍ مُتَشَابِهَةٌ، يَتَكَرَّرُ فِيهَا الفَرَاعِنَةُ وَمُعَاوِنُوهُم مِن مِثلِ هَامَانَ، وَتُجَّارُهُم الجَشِعُونَ مِن مِثلِ قَارُونَ، وَالمُضَلِّلُونَ لِلنَّاسِ بِتَخيِيلاتِهِم وَكَذِبِهِم مِن أَمثَالِ السَّحَرَةِ؛ وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ مِن أَظهَرِ الحِكَمِ في تَكرَارِ قِصَّةِ مُوسَى في القُرآنِ، وَمَا فِيهَا في كُلِّ إِعَادَةٍ مِن زِيَادَةٍ، تَطمِينَ المُؤمِنِينَ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، لِيَعلَمُوا أَنَّ مَصِيرَ الطُّغَاةِ وَالمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِينَ هُوَ الهَلاكُ، وَأَنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ، وَأَنَّ الأَرضَ للهِ يُورِثُهَا عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ، وَأَنَّهُ -تَعَالَى- لا يُصلِحُ عَمَلَ المُفسِدِينَ، وَأَنَّهَ -سُبحَانَهُ- يُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَو كَرِهَ المُجرِمُونَ، وَأَنَّهَ بِالصَّبرِ وَاليَقِينِ تُنَالُ الإِمَامَةُ في الدِّينِ، قَالَ سُبحَانَهُ: ﴿وَلَقَد آتَينَا مُوسَى الكِتَابَ فَلا تَكُنْ في مِريَةٍ مِن لِقَائِهِ وَجَعَلنَاهُ هُدًى لِبَني إِسرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ(26)﴾[السَّجْدَةِ: 26].

وَبِالجُملَةِ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- فَإِنَّ دُرُوسَ قِصَّةِ مُوسَى كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ وَمُهِمَّةٌ، وَمِنهَا: أَنَّ المُسلِمِينَ قَد تَمُرُّ بِهِم ظُرُوفٌ عَصِيبَةٌ، مِلْؤُهَا الخَوفُ وَالأَذَى، وَقَد يَصِلُ بِهِمُ الأَمرُ إِلى أَن يُسِرُّوا بِصَلاتِهِم وَيَتَّخِذُوا المَسَاجِدَ في بُيُوتِهِم، لَكِنَّهُم مَعَ ذَلِكَ مَأمُورُونَ بِالصَّبرِ وَالاستِعَانَةِ بِاللهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ، وَدُعَائِهِ وَاللُّجُوءِ إِلَيهِ، مَعَ الاستِقَامَةِ عَلَى الخَيرِ وَعَدَمِ الاستِعجَالِ في حُصُولِ المَطلُوبِ، قَالَ تَعَالَى -: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ(89)﴾[يُونُسَ: 84-89].

وَأَخِيرًا أَيُّهَا المُؤمِنُونَ فَإِنَ مِنَ الدُّرُوسِ العَظِيمَةِ في قِصَّةِ مُوسَى وَقَومِهِ، أَنَّهُ لَيسَ بَينَ اللهِ -تَعَالَى- وَبَينَ أَحَدٍ مِن خَلقِهِ مَهمَا آمَنَ وَاتَّقَى وَبَذَلَ مِن حَبلٍ وَلا وَصلٍ، إِلَا الإِيمَانُ بِهِ وَطَاعَتُهُ وَتَقوَاهُ، وَمَتى تَخَلَّى عَن كُلِّ ذَلِكَ تَخَلَّى عَنهُ اللهُ؛ فَإِنَّ بَنِي إِسرَائِيلَ الَّذِينَ نَجَّاهُمُ اللهُ -تَعَالَى- وَفَضَّلَهُم عَلَى أَهلِ زَمَانِهِم، لَمَّا زَاغُوا بَعدَ ذَلِكَ أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُم، قَالَ سُبحَانَهُ -: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ يَا قَومِ لِمَ تُؤذُونَنِي وَقَد تَعلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيكُم فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُم وَاللهُ لا يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ﴾[الصَّفِّ: 5].

أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَلْنَصبِرْ فَـ: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ﴾[يُوسُفَ: 90].

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكُ الثَّبَاتَ في الأَمرِ، وَالعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشدِ، وَنَسأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغفِرَتِكَ، وَنَسأَلُكَ شُكرَ نِعمَتِكَ، وَحُسنَ عِبَادَتِكَ، وَنَسأَلُكَ قُلُوبًا سَلِيمَةً وَأَلسِنَةً صَادِقَةً، وَنَسأَلُكَ مِن خَيرِ مَا تَعلَمُ، وَنَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ مَا تَعلَمُ، وَنَستَغفِرُكَ لِمَا تَعلَمُ؛ إِنَّكَ أَنتَ عَلَامُ الغُيُوبِ.