وقفات مع آية الكرسي (4)

عناصر الخطبة

  1. المقصود باسم الله: \"الحي\" وآثر الإيمان به
  2. مستلزمات ومقتضيات معرفة اسم الله: \"الحي\"
  3. المقصود باسم الله: \"القيوم\" وأثر الإيمان به
  4. مستلزمات معرفة اسم الله: \"القيوم\"
اقتباس

﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ اسمان من أسماء الله -تعالى-، وهما جامعان لكمال الأوصاف والأفعال. وكلنا لا نستغني عن هذين الاسمين العظيمين، وجودنا حركتنا سكوننا، حياتنا بكل ما فيها؛ كل ذلك مُستمَد من هذين الاسمين: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾. فالله -جل جلاله- من أسمائه: ﴿الْحَيُّ﴾، فهو موصوف بحياة أزلية لا بداية لها، وأبدية لا نهاية لها، حياة كاملة دائمة ليس لها انقطاع ولا زوال، فهو الحي الباقي الدائم، الذي لا أول له بحد ولا آخر له بأمد…

الخطبة الأولى:

الحمد لله القائل في محكم التنزيل: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180].

وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه.

معاشر المؤمنين والمؤمنات: ما زال حديثنا متواصلا مع أعظم آية في كتاب الله ألا وهي: آية الكرسي.

واليوم -بإذن الله- لنا موعدا مع اسمين من أسماء الله تضمنتهما هذه الآية، ألا هما: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾.

﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ اسمان من أسماء الله -تعالى-، وهما جامعان لكمال الأوصاف والأفعال.

وكلنا لا نستغني عن هذين الاسمين العظيمين، وجودنا حركتنا سكوننا، حياتنا بكل ما فيها، كل ذلك مُستمَد من هذين الاسمين: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾.

فالله -جل جلاله- من أسمائه: ﴿الْحَيُّ﴾، فهو موصوف بحياة أزلية لا بداية لها، وأبدية لا نهاية لها، حياة كاملة دائمة ليس لها انقطاع ولا زوال، فهو الحي الباقي الدائم، الذي لا أول له بحد ولا آخر له بأمد: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: 3]، فهو الأول الذي لا شيء قبله، والآخر الذي لا شيء بعده، خالق كل شيء، وكل ما سواه، وإن كان حيا فلحياته أول محدود وآخر معدود، ينقطع بانقطاع أمدها، وينقضي بانقضاء غايتها.

كل ما سوى الله حياته سُبِقت بعدم ويعتريها الخلل والضعف والمرض، ويلحقها الزوال والفناء والموت، أما حياة الخالق -جل جلاله وعز كماله- لم تُسبق بعدم ولم يَسبقها ابتداء، ولا يلحقها فناء ولا زوال، ولا يعترضها خلل ولا ضعف، ولا يتطرقها نقص ولا عيب، سبحانه وتعالى القائل: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(27)﴾ [الرحمن: 26 – 27].

فالله -سبحانه وتعالى- ذكر اسم: ﴿الْحَيُّ﴾ مباشرة بعد قوله: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، وفي ذلك استدلال على إثباتِ بأن الله هو المعبود بحق، وإبطال عبودية كل من سواه، فالعبادة لا يستحقها إلا من كان حياً بالحياة الدائمة الأبدية، وحيث لا حي بهذه الحياة إلا الله الواحد الأحد، فلا يستحق العبادة إلا هو سبحانه.

الله -سبحانه وتعالى- يقول لعباده: أنا الحي، ولا يجوز لكم أن تتوجهوا إلى المخلوقين ولا إلى الأموات أو القبور بالدعاء أو الاستعانة: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: 14]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21)﴾[النحل: 20، 21].

فلماذا تلتجأ -أيها العبد- إلى مخلوق عاجز ضعيف قاصر لا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا، وتستغيث به وتدعوه، وتُعرض عن الحي الذي لا يموت، الذي خلق الموت والحياة؟

إذا جعلت -أيها العبد- جهدك لحيّ يموت ضاع جهدك إذا مات.

إن اعتززت -أيها العبد- بحيّ يموت ضاعت عزتك إذا مات.

إن توكلت على حي يموت ضاع أملك إذا مات.

فكل من في السموات والأرض وما فيهن وما بينهن يموت، والله رب العزة والجلال لا إله إلا هو حي لا يموت؛ لذلك قرن الله بين هذا الاسم: ﴿الْحَيِّ﴾ وبين التوكل عليه، فقال: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58].

الذي ينبغي عليك -أيها المؤمن- فقهه.

إذا علمت أن الله "حي" عظم توكلك عليه، فلا تتوكل إلا على الله.

إذا علمت أن الله "حي" عظم اعتمادك عليه، فلا تعتمد إلا على الله.

إذا علمت أن الله "حي" عظمت استعانتك به، فلا تستعن إلا بالله.

إذا علمت أن الله "حي" عظم رجاؤك فيه والتجاؤك إليه، فلا ترجو إلا الله، ولا تلتجأ إلا لله.

إذا علمت أن الله -جل وعلا- غني عنك وأنك عظيم الافتقار إليه ازداد تضرعك ودعاؤك وتوسلك ولجوؤك إليه تبارك وتعالى.

معاشر الصالحين والصالحات: هذا الاسم: ﴿الْحَيِّ﴾ اسم يستلزم أن كل ما سوى ومن سوى الله -تبارك وتعالى- ميت، فالحياة الأزلية الأبدية الدائمة ليست إلا لله الواحد الأحد -تبارك وتعالى- وكل من سواه وما سواه كائناً من كان فإنه هالك وميت، يقول جل جلاله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 88]، ويقول: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 57].

فلو كان أحد من الخلق أحق بالخلود والبقاء لكان أولاهم بذلك سيد الأولين والآخرين خليل رب العالمين، رسول الله وحبيبه محمد -صلى الله عليه وسلم-، لكنه عليه الصلاة والسلام مات كما يموت البشر، وهذه الحقيقة كانت مؤكدة حتى قبل وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث يقول الله -عز وجل-: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ(35)﴾ [الأنبياء: 34- 35]، وقال جل وعلا: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30].

وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: جاء جبريل -عليه السلام- فقال: "يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به".

فالشاهد قوله: "يا محمد عش ما شئت" أي افترض أنك تعيش ما شئت، فلا بد في النهاية من الموت "فإنك ميت".

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

"القيوم" هو الذي قام بنفسه، وعظمت صفاته، واستغنى عن جميع مخلوقاته.

فالله هو القيوم المدبر لجميع الأشياء، القائم بتدبير خلقه، يرزقهم ويحفظهم، فما من شيء إلا وإقامته بأمر الله وتدبيره سبحانه، جميع الموجودات مفتقرة إلى الله وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره سبحانه، قامت به الأرض والسموات وما فيهن من المخلوقات، فهو الذي أوجدها وأمدها وأعدها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامُها، وهو الغني عنها من كل وجه، وهي التي افتقرت إليه من كل وجه، هو المستغن عن كل شيء وكل شيء يحتاج إليه جل جلاله وهو القائل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15]، فالحي القيوم من له صفة كل كمال وهو الفعال لما يريد.

معاشر العباد: في القرآن الكريم وردت نصوص تدل على أن قيام الموجودات وبقاؤها وحفظُها بأمر الله -تعالى-، ولا قوام لها بدونه، من ذلك قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ [الملك: 19]، وقال جل وعلا: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ(44)﴾ [يس: 38 – 44].

فمن الذي يمسك الطير في السماء؟ ومن يأمر الشمس بالجري لمستقرٍ لها؟! من يقدر منازل القمر؟! من يمنع الشمس عن الاجتماع مع القمر؟! ومن يَحجز الليل عن المجيء قبل انقضاء النهار؟! ومن يوقف النهار من الطلوع قبل ذهاب الليل؟! ومن يحفظ ركاب السفن وسط موجات البحر التي هي كالجبال؟!

بل: ﴿قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 42] قل لهؤلاء العباد من يحفظكم ويحرسكم بالليل وبالنهار من أمر الله ومن عذابه إن حل بكم؟

الجواب: لا أحد إلا الله لا إله إلا هو الحي القيوم، فكل شيء موجود في الكون قائم بأمر الله الذي أمره بين الكاف والنون إذا أراد شيئا فإنما يقول له: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: 117].

فكل إنسان مدعو إلى أن يفهم أنّ الله -سبحانه وتعالى- هو القيوم، ولابد أن يكون هذا الفهم واسعا وشاملا لصفة القيومية، فالله هو الذي يدبر أمر الخلق كلهم بشرا وحيوانا ونباتا بتأمين أرزاقهم، وحاجاتهم، وزروعهم، ومياههم، قال جل وعلا: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) [عبس: 24 – 32].

لذلك يرتكب الإنسان خطأ فاحشا إذا قال: أنا، أو قال: لي، أو قال: عندي، فهذه الثلاث "أنا، لي، وعندي" من المهلكات؛ لأنهن أبواب الكِبْر والاستكبار على العلي الجبار.

"أنا" قالها إبليس: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: 12] فطُرد من رحمة الله.

"لي" قالها فرعون: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ [الزخرف: 51] فأغرقه الله.

"عندي" قالها قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78] فخسف الله به الأرض.

فأنت -أيها الإنسان- وكل ما لك وما عندك، بل حياتُك كلُها قائمة بأمر الله الحي القيوم، إذا أذن الله لك أن تعيش يوما عشته، وإن لم يأذن لك فلن تعيش أبدا، ما من شيء فيك إلا وهو بقدرة الله وبإقامة الله إياه، فلو لم يُقمك الحي القيوم لما قدرت على شيء، فلا حول ولا قوة لك إلا بالله، أنت لا تستطيع أن تستقل بنفسك، تحتاج إلى الطعام والشراب، تحتاج إلى الزوجة والأولاد، تحتاج إلى الطبيب إذا مرضت، تحتاج إلى أشياء كثيرة.

أما الرب العظيم الكبير -سبحانه- فهو يُطعِم ولا يُطعَم، وهو الرزاق ذو القوة المتين، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، مالِك الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء، يحيي ويميت، حي لا يموت، عزيز في ملكه حكيم في تدبيره، يعلم السر والجهر وما يخفى، لطيف خبير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.

فمن كان هذا ملكه وهذه صفاته وتلك نعمه، أفلا يستحق الحمد والشكر وإخلاصَ العبادةِ له دون سواه؟

﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [يونس: 3].

وللحديث بقية -إن شاء الله-.