عذاب القبر

عناصر الخطبة

  1. التحذير من عذاب القبر
  2. ثبوت عذاب القبر ونعيمه
  3. المبادرة بالتوبة إلى الله
  4. أسباب النجاة من عذاب القبر
اقتباس

أول ليلة في القبر، بكى منها العلماء، وشكى منها الحكماء, لا أنيسَ فيها ولا جليس، ولا مناصبَ ولا أموال، ولا زوجةَ ولا أطفال، بل إن أقرب الناس إليك الذي كان يقبّلك ويعانقك ويهرع بك إلى الطبيب لأدنى علة، هو من يسعى ويجدُّ مسرعًا في دفنك وإهالة التراب عليك..

أما بعد: في عصر طغت فيه الماديّات والشهوات، وغفل فيه كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات، كم نحن بحاجة إلى وقفة رقيقة، تعظ النفوس وتحيي القلوب.

هاهو رسول الرحمة بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم- يسير في نفر من أصحابه في حائط لبني النجار، وبينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسير إذ حَادَتْ بِهِ بغلته التي يركبها فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ، فَقَالَ: "مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟" فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ "فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاء؟ِ" قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ, قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ فَقَالَ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ, قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ",الحديث, رواه مسلم.

أحبتي في الله: هل وقفنا مع أنفسنا وقفة تذكُّر؟ هل تذكرنا القبر وضمَّته وضيقه وظلمته؟ أم أننا مشغولون بدنيانا، حتى لم نجد لحظةً واحدة، نتذكر فيها هذا الموقف العظيم.

كم فقدنا من الأحباب، ودفنا من الأصحاب، ولم نعتبر بما صاروا إليه، بل ربما تسمع قساة القلوب من المشيعين يتحدثون بالحرام ويركبون الآثام وهم يدفنون الميت.

عباد الله: قد دلّ على عذاب القبر آيات القرآن، وأحاديث السنة الصحيحة.

قال الله تعالى: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46)﴾ [غافر:45-46].

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً النار)؛ أي: صباحًا ومساءًا هذا في دار البرزخ، ويوم تقوم الساعة؛ أي: يوم القيامة، أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.

قال ابن كثير: "وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبر".

وقال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾, [الأنعام: من الآية: 93], اليوم يعذبون بعد الموت قبل قيام الساعة الكبرى وهو عذاب القبر والبرزخ.

وأما الأحاديث الصحيحة فكثيرة، وهي تثبت أن عذاب القبر حقيقة لا ريب فيها.

فقد روى أحمد والترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني "كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبلّ لحيته، فقيل له تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه".

والقبر رَوضـةٌ من الجِنَان *** أو حُفرةٌ من حُفَر النِّيـرَان إن يك خيرًا فالذي من بعدِه *** أفضلُ عنـد ربنـا لعبـده وإن يكن شـرًا فبعـده أشدّ *** ويل لعبدٍ عن سبيل الله صدّ

وقد علَّمنا صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من عذاب القبر في كل صلاة، كما في الصحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنْ التَّشَهُّدِ الْآخِرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ" ولمسلم عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ.

وروى ابن ماجه وحسنه الألباني عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى" ثُمَّ قَالَ: "يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا".

واستمع إلى هذا الحديث العجيب، وهو العمدة في هذا الباب، كما عند أحمد وأبي داود وابن خزيمة والحاكم غيرهم وصححه ابن القيم والألباني عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أنه قال: "خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في جنازة رجل من الأنصار فلما انتهينا إلى القبر جلس النبي -صلى الله عليه وسلم- على شفير القبر، وجلسنا حوله وكأنّ على رؤوسنا الطير، وفى يد النبي -صلى الله عليه وسلم- عُودٌ ينكـت بـه الأرض، ثم رفـع النبي -صلى الله عليه وسلم- رأسه فنظر وقال لأصحابه: "استعيذوا بالله من عذاب القبر" قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: "إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكةٌ بيض الوجوه، كأن وجوهَهم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحَنوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مَدّ البصر، ثم يجيءُ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: "يا أيتها النفس الطيبة، اُخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السِّقَاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفى ذلك الحنوط، فيخرج منها كأطيبِ نفحةٍ مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرّون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: "ما هذا الروح الطيب؟" فيقولون: "فلان بن فلان" -بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا- حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح له، فيشيِّعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: "اكتبوا كتاب عبدي في علّيّين وأعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد روحه، فيأتيه ملكان، فيجلسانه فيقولان: "من ربك؟" فيقول: "ربى الله" فيقولان له: "ما دينك؟" فيقول: "ديني الإسلام" فيقولان له: "ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟" فيقول: "هو رسول الله" فيقولان له: "وما علمك؟" فيقول: "قرأت كتاب الله فأمنت به وصدقت" فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، فيأتيه من رَوحها وطيبها ،ويُفسَح له في قبره مَدَّ بصره، ويأتيه رجل حسنُ الوجه، حسنُ الثياب، طيِّبُ الريح، فيقول: "أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد" فيقول له: "من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير" فيقول: "أنا عملك الصالح" فيقول: "رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي".

وإن العبد الكافر "وفي رواية "الفاجر" إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المُسوح من النار, فيجلسون منه مَدّ البصر, ثم يجيء ملك الموت حتى يَجلسَ عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب, فتَفَرَّقُ في جسده فينتزعُها كما ينتزع السَّفّود -وهي الحديدة ذات الشعب المعقوفة- من الصوف المبلول، فيأخذُها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المُسوح، ويخرج منها كأنتن ريحِ جيفةٍ وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرّون بها على ملأ من الملائكة إلاَّ قالوا: "ما هذه الروح الخبيثة؟" فيقولون: "فلان بن فلان" -بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا- فيُستفتَح له فلا يُفتح له، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم ﴿لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾, [لأعراف: من الآية: 40] فيقول الله -عز وجل-: "اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى" فتطرح روحه طرحًا فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه فيقولان له: "من ربك؟" فيقول: "هاه, هاه, لا أدرى" فيقولان: له "ما دينك؟" فيقول: "هاه, هاه, لا أدرى" فيقولان له: "ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟" فيقول: "هاه, هاه, لا أدرى" فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلفَ أضلاعه، ويأتيه رجل قبيحُ الوجه، قبيحُ الثياب، منتنُ الريح، فيقول: "أبشر بالذى يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد" فيقول: "من أنت؟، فوجهك الوجهُ يجئ بالشرّ" فيقول: "أنا عملك الخبيث" فيقول: "رب لا تقم الساعة".

إخوتي في الله: هل تذكرنا هذه الأهوال العظيمة التي نحاسب فيها على كل صغير وكبير، وكل جليل وحقير.

كان الربيع بن خثيم قد حفر قبرًا في داره، فكان إذا وجد في قلبه قسوة دخل فيه فاضطجع، ثم صرخ ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ(100)﴾, [المؤمنون: من الآية:99-100], ثم يردّ على نفسه: يا ربيع قد رجعت فاعمل.

ونحن نقول: السُّنة أولى بالاتباع، والسنة زيارة القبور، فقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه كما عند مسلم عن بريدة: "نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها" زاد الترمذي والنسائي "فإنها تذكر الآخرة" ولمسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ".

وإذا رأيت القبر -يا عبد الله-، فتذكر أن له منظرًا فظيعًا، وظلمة شديدة، وضمة وضغطة.

أما المنظر الفظيع والهول العظيم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "ما رأيت منظرًا قط إلا القبر أفظع منه" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عثمان وحسنه الألباني.

وأما الظلمة الشديدة، فقد قال صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى على قبر المرأة التي كانت تَقُمّ المسجد: "إن هذه القبور مليئة ظلمة على أهلها، وإن الله -عز وجل- منورها لهم بصلاتي عليهم" متفق عليه.

وأما الضمة والضغطة: فقد قال صلى الله عليه وسلم: "للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ" رواه أحمد وصححه الألباني، وعند النسائي عَنْ ابْنِ عُمَرَ أن رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ في سعد: "هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ".

قال بعض العلماء: ضَغْطَة الْقَبْر: اِلْتِقَاء جَانِبَيْهِ عَلَى جَسَد الْمَيِّت، ولَا يَنْجُو مِنْها صَالِح وَلَا طَالِح غَيْر أَنَّ الْفَرْق فِيهَا: دَوَامُ الضَّغْط لِلْكَافِرِ، وَحُصُوله لِلْمُؤْمِنِ فِي أَوَّل نُزُوله إِلَى قَبْره ثُمَّ يَعُود إِلَى الانْفِسَاح لَهُ.

إخوتي في الله: ليتصور الواحد منا الفرق بين ليلتين، الليلة الأولى يجلس فيها بين أهله وأبنائه يلاعبهم ويداعبهم، والليلة التي تليها يدفن فيها في قبره وحيدًا منفردًا، لا يدري ما يكون حاله فيه، أمن المنعمين أم من المعذبين؟.

فارقتُ موضِع مَرْقَدي *** يوما ففارقني السُّكُون القبـر أول ليلـةٍ **** بالله قل: لـي ما يكون

أول ليلة في القبر، بكى منها العلماء، وشكى منها الحكماء, لا أنيسَ فيها ولا جليس، ولا مناصبَ ولا أموال، ولا زوجةَ ولا أطفال، بل إن أقرب الناس إليك الذي كان يقبّلك ويعانقك ويهرع بك إلى الطبيب لأدنى علة، هو من يسعى ويجدُّ مسرعًا في دفنك وإهالة التراب عليك.

متى نراجع حساباتنا مع الله -يا عباد الله-, ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100)﴾ [المؤمنون: 99-100].

كلا, الآن تراجع حساباتك، الآن تتوب من ذنوبك، ألم تكن مدبرًا عن الصلاة والمساجد، معرضًا عن القرآن، منتهكًا لحدود الرحمن، آلآن تتوب!!، أين أنت قبل ذلك؟.

والله لو عاش الفتى في عمره *** ألفاً من الأعوام مالكَ أمرِه متنعماً فيها بكل لذيذة *** متلذِّذاً فيها بسُكْنى قصـرِه لا يعتريه الهمّ طولَ حياته *** كلا ولا تَرِدُ الهموم بصدره ما كان ذلك كلُه في أن يفي *** فيهـا بأولِ ليلـةٍ في قبره

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وجعلنا ممن ﴿يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر: من الآية18).

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه:

عباد الله: ما السبيل للنجاة من عذاب القبر؟.

السبيل باختصار هو الاستقامة على طاعة الله -جل وعلا- وهدي نبيه -صلى الله عليه وسلم- ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾, [فصلت:30].

ومن أنفع الأسباب النجاة من عذاب القبر ما ذكره ابن القيم في كتابه القيم ﴿الروح﴾ قال: "ومن أنفعها أن يتفكر الإنسان قبل نومه ساعة ليذكر نفسه بعمله، فإن كان مقصرًا زاد في عمله وإن كان عاصيًا تاب إلى الله، وليجدد توبة قبل نومه بينه وبين الله، فإن مات من ليلته على هذه التوبة فهو من أهل الجنة ونجاه الله من عذاب القبر ومن عذاب النار".

ومن أسباب النجاة من عذاب القبر: المداومة على العمل الصالح كالصلاة، والصيام والصدقة والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وبر الوالدين وصلة الأرحام، ولا سيما ونحن -يا عباد الله- على أبواب العشر الأول من ذي الحجة، وقد روى البخاري وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ -يعني العشر كما بينته روايات غير البخاري- قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ".

ومن الأعمال الصالحة التي تنجي صاحبها من عذاب القبر الشهادة في سبيل الله، فمن خصال الشهادة الثابتة في بعض الأحاديث، أن الله –تعالى- ينجي الشهيد من عذاب القبر.

ومن أسباب النجاة من عذاب القبر، قراءة سورة الملك, روى ابن مَردَويه وصححه الألباني "سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر".

وروى النسائي والحاكم وصححه وحسنه الألباني عن عبد الله بن مسعود أنه قال -رضي الله عنه- موقوفًا: "من قرأ تبارك الذي بيده الملك كل ليلة منعه الله -عز وجل- بها من عذاب القبر".

وصح عند أحمد والترمذي عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل وتبارك الذي بيده الملك.

فاتقوا الله -عباد الله-، وهَيِّئوا لأنفسكم نورًا وذخرًا في قبوركم بالإيمان بالله و العمل الصالح.

اللهم صل على محمد.

اللهم أيقظنا من رقدة الغافلين، واحشرنا في زمرة المتقين.

اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، أن تثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

اللهم اجعل قبورنا وقبور آبائنا وأمهاتنا وقبور من له حق علينا وجميعِ المسلمين روضة من رياض الجنة، ولا تجعلها حفرة من حفر النيران، يا أرحم الراحمين.