تبديد الغيوم في فقه اسم الله القيوم

عناصر الخطبة

  1. العلم بفقه الأسماء والصفات هو مفتاح الدعاء المستجاب
  2. اسم القيوم في اللغة والقرآن والسنة وأقوال أهل العلم
  3. أهم معاني قيومية المولى جل وعلا
  4. أثر فقه اسم القيوم في مواجهة نوازل الدنيا ومصائبها
  5. صور من الآثار الإيمانية لفقه اسم الله القيوم.
اقتباس

والعبد المؤمن حينما يدرك أن الله تعالى قيوم قائم بالقسط والتدبير، ومنفرد بالمشيئة والتقدير، عنده خزائن كل شيء، لا ينزله إلا بقدر معلوم، وأنه كفيل قائم بأمره ورزقه، أدى ذلك إلى اعتماده على ربه في كل شيء، ووثق به دون كل شيء، وقنع بكل ما جاءه من ربه، وصبر على ما ابتلاه به، فلا يطمع في سواه، ولا يرجو إلا إياه، ولا يشهد في العطاء إلا مشيئته ولا يرى في المنع إلا حكمته، ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته وقيوميته…

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي رفع السماء بغير عمد، وأرسى الأرض بغير وتد، ورزق الخلق بغير سبب، آلاؤه جسيمة، وفضائله كثيرة، ونعمه تترى، وبركاته كثرى، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، خاتم المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة السالكين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيه ومناصريه إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن خير الكلام، كلام الله، وخير الهدي، هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر فألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.

أوصيكم ونفسي بتقوى العلي الحكيم، كما أمر في كتابه الكريم، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء:1], وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102], فالتقوى هي الخير المدرار، وبركة الأعمار، وبقاء الأقطار.

أيها الأخوة المسلمون: أخرج هبة الله اللالكائي في كرامات الأولياء، والحافظ ابن حجر العسقلاني في الإصابة، ونسبها لابن أبي الدنيا في (مجابي الدعوة) بإسناده عن أنس ابن مالك قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى أبا معلق وكان تاجراً يتجر بمال له ولغيره، وكان له نسك وورع، فخرج مرة فلقيه لص متقنع في السلاح، فقال: ضع متاعك فإني قاتلك، قال: شأنك بالمال. قال: لست أريد إلا دمك. قال: فذرني أصلي. قال: صل ما بدا لك، فتوضأ ثم صلى، فكان من دعائه: ” يا ودود، ياذا العرش المجيد، يا فعالاً لما يريد، أسألك بعزتك التي لا ترام، وملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك، أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني” قالها ثلاثاً، فإذا هو بفارس بيده حربة رافعها بين أذني فرسه، فطعن اللص فقتله، ثم أقبل على التاجر، فقال التاجر: من أنت؟ فقد أغاثني الله بك. قال: إني ملك من أهل السماء الرابعة، لما دعوت سُمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوت ثانياً، فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوت ثالثاً فقيل: “دعاء مكروب، فسألت الله أن يوليني قتله ” والأثر موقوف على أنس رضي الله عنه، وله شهود في الصحيح.

عباد الله: إن من أعظم الفقه الذي يكون عليه العبد المؤمن ؛ فقه معاني أسماء الله وصفاته، فالعلم بالله عز وجل من أعظم العلوم وأهمها وأجلها، وتعظم له الحاجة عند النوازل والأزمات، فلو كان العبد فقيها بأسماء ربه وصفاته، عرف كيف يناجي ربه ويدعوه ويتودد إليه، عرف كيف يطرح نفسه بين يدي ربه عز وجل، فيناديه ويناجيه بأحب الأسماء وأحسن الصفات التي تتماشى مع حاجته التي يطلبها من ربه كما حدث مع هذا المكروب الذي ورد في الأثر.

وفي هذه اللحظات بحول الله وقوته سنحيا مع أعظم أسماء الله عز وجل وأجلها والذي عليه مدار باقي الأسماء والصفات، والذي قال عنه جمع من أهل العلم أنه أحد أسماء الله الأعظم، وهو اسمه القيوم.

فنقول – بالله مستعينين – إن اسم الله القيوم من عظمته أن جاء ذكره في أعظم آية من كتاب الله؛ آية الكرسي، قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255], وقد قال المفسرون أن سبب كون آية الكرسي أعظم آية في القرآن هو وجود اسمي الله الحي والقيوم، كما ورد في مواطن أخرى من القرآن, قال الله تعالى: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾ [طه:111]، وقال تعالى: (الم* اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [آل عمران: 1- 2]، وقال في بيان قيامه بالقسط: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]، كما يبيّن أن السماء والأرض لا تقومان إلاّ بأمره: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ [الروم: 25].

كما أن هذا الاسم ورد في السنة النبوية، فعن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: ” اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ” [البخاري:(1120) ]، وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي ثُمَّ دَعَا: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى..” [أبي داود (1495)]، وعنه أنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: ” يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ” [الترمذي(3565)]، وهذا الحديث يتماشى مع الأثر الذي ذكرناه في أول الكلام.

القيوم – عباد الله – هو المبالغ في القيام بالأمر، أما في حق الله عز وجل فالاسم الجليل يشير للصفة الجامعة لكل الأسماء والصفات الأخرى له عز وجل، وهي صفة القيومية، وهي الصفة التي تشمل الكثير من المعاني العظيمة والدلائل الجسيمة, ومن تلك المعاني:

أولا: أنه تعالى قائم بذاته لم يُقِمْهُ أحدٌ، بل غيره قائم عليه، قال الله: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: 33]؛ أي يَحافظ على النفوس ويُجازيها ويُحاسبها، وهو سبحانه قائم بنفسه ولم يقمه غيره، لأن قيام الحق المتعال قيام أزلي، قال الإمام الشوكاني في فتح القدير:  القائم الحفيظ والمتولي لأمور خلقه، المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق، وإحصاء الأعمال على كل نفس.

فهو سبحانه قام بنفسه، فاستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام به غيره، فافتقرت إليه جميع مخلوقاته في الإيجاد والإعداد، والإمداد، والبقاء: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15]، لذا أوصي الرسول صلي الله عليه وسلم ابنته فاطمة أن تقول صباحا ومساء:” يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، اكْفِنِي كُلَّ شَيْءٍ وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ” [صحيح الترغيب(657)].

ثانيا : أن الله تبارك وتعالى هو الحي القيوم، القائم بحفظ كل شيء من مخلوقاته، يقسم أرزاقهم، ويدبر أمورهم، ويصرف أحوالهم، ويحشرهم ويحاسبهم، قائم على كل شيء بالرعاية له، المتولي جميع ما يجري في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، وما يجري في الدنيا والآخرة.

ومن معاني القيّوم – ثالثا -: أنه في اقتران اسمه تعالي القيوم باسمه الحي تأكيدا لحقيقة هامة, وهي أن الله تعالى هو الحي الذي لا يغفل عن خلقه طرفة عين، فهو يراقبهم ويحاسبهم ويرعاهم بعنايته، فقيوميته عز وجل كاملة لذا استغنى عن كل أحد، كما أن قيوميته لا تنتهي إذ ليست فترة مؤقتة ولا مرحلة عمرية ولهذا فرنه بالحي ليؤكد ذلك، وفي حديث عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ ربه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:”…يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي…” [مسلم(2577)]، وفي حديث أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعٍ: “إِنَّ اللهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَرْفَعُ الْقِسْطَ وَيَخْفِضُهُ، وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ” [(179)].

ومن المعاني – رابعا -: أن الله هو القائم بذاته المقيم للعدل بين خلقه في الدنيا، والمقيم بالقسط بينهم في الآخرة حتى تُوزَن الأعمالُ بدِقَّة، وهذه المسألة تفطن لها العلماء ورثة الأنبياء دون غيرهم، الذين يعرفون قدر الله وعدله وقسطه، ولذلك استشهدهم على وحدانيته القائمة بالقسط والعدل، فقال سبحانه: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]، والله تعالى هو قيوم الحياة، وقيوم الممات وقيوم الأرزاق, وهو الذي أقام الأبدان والأرواح، والعقول والفطر، وأقام الهداية بفضله وأقام الغواية بعدله، وأقام الجنة بدوام النعيم، وأقام النار بدوام العذاب بقيوميته، لذا قال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ [الروم: 25]، فهو قائم على هذا الكون العظيم بكلياته وجزئياته في كل وقت، في السموات والأرض، في الدنيا والآخرة، القائم على كل نفس، يعلم أحوالها، ويسمع أقوالها، ويبصر أفعالها.

خامسا: أن القيوم لا يزول، ولا ينقص بعد كمال، وأنه لم يزل ولا يزال باقيًا أزليًّا أبديّاً موصوفًا بصفاتِ الكمال، من غير حدوثِ نقصِ أو تغيُّرٍ بفسادٍ واستحالةِ, ونحو ذلك مما يعتري الموجودات سواه، ولهذا كان من تمام قيُّوميّته أنه لا تأخذه سِنَةٌ ولا نومٌ، فإن السِّنة والنوم فيهما زوال ينافي القيومية، لما فيهما من النقص بزوال كمالِ الحياة والعلم والقدرة، فإن النائم يحصل له من نقص العلم، والقدرة والسمع والبصر والكلام, وغير ذلك ما يظهر نقصه بالنسبة إلى الشيطان. ولهذا كان النوم أخا الموت، فالله عز وجل هو القائم بنفسه الذي بلغ مطلق الكمال في كل وصف، والباقي بكماله على الدوام دون نقص أو تغيير، فالمخلوق قد يكون سميعا، لكن مع مرور الوقت يتأثر سمعه، فيحتاج عندها إلى وسيلة إضافية كسمّاعة أو آلة يستعين بها لتحسين أداء سمعه، وهكذا البصر قد يكون الحي بصيرا، لكن بمرور الزمن يتأثر بصره، فيفتقر إلى وسيلة إضافية للإبصار، كنظارة أو غيرها، وربما امتلك الحي صفة لكنها ليست دائمة، ولو كان قائما دائما لكملت حياته وبقيت صفاته، وليس ذلك إلا لله, قال تعالى: ﴿اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255].

ومن خلال هذا العرض لمعاني ودلائل اسم الله القيوم في القرآن والسنة وكلام الأئمة والعلماء، يتضح لنا أن هذا الاسم العظيم أو الأعظم له معنيان كليان كبيران وهما:

المعنى الأول: الذي قام بنفسه مطلقاً لا بغيره، وليس من مخلوقاته على الإطلاق قائم بذاته، ووجودنا مفتقر إلى إمداده، واستغنى القيوم عن جميع مخلوقاته.

المعنى الثاني: الذي يقوم به كل الموجودات، وجميع المخلوقات فقيرة إليه لا غنى لها عنه طرفة عين، فالعرش والكرسي، والسموات والأرض، والجبال، والأشجار، والملائكة والناس والحيوان كلها فقيرة إلى الله عزّ وجل، قال الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ﴾ [الرعد: 33]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر: 41] والآيات في هذا المعنى كثيرة.

اللهم إنا نسألك بأحب الأسماء وأحسن الصفات، نسألك يا حي قيوم أن تتولى أمرنا كله وأن تصلح لنا أحوالنا وأن تيسر أعمالنا، وأن تغيثنا من شر كل ذي شر وكيد كل ذي كيد، وأن تغفر لنا أجمعين، وتهب المسيئين منا للمحسنين، أنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين .

الخطبة الثانية

الحمد لله مجير المظلومين، وناصر المستضعفين، وجابر المهضومين، ذي الحول الذي لا يرام، والجانب الذي لا يضام، والصلاة والسلام على نبي الأنام، وبركة الأيام، و قامع الجهل ومنير الظلام، وعلى آله وصحبه الكرام.

أما بعد: عباد الله الدنيا دار امتحان قد أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة، وهي مليئة بالفتن والأكدار والمنغصات، لذاتها وشهواتها مهلكة، ونعمها زائلة، إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، فلم تَصْفُ لأحد، بل أهلها في شقاء وكبد من كثرة ما فيها من ابتلاءات وآفات، لذلك إذا لم يكن القلب موصولا بربه، عارفا بأسمائه وصفاته، بصيرا بمعانيها ودلائلها واستحقاقاتها، فإنه يعيش وسط هذه الدنيا بأمواج فتنها وبلاياها ونوازلها، بلا طوق إنقاذ ولا سند نجاة، غريق لا محالة، تائه ضائع ساخط، وهذا هو حال كثير من الناس كما قال الله عز وجل ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22)﴾ [المعارج: 19 – 22].

والعبد المؤمن حينما يدرك أن الله تعالى قيوم قائم بالقسط والتدبير، ومنفرد بالمشيئة والتقدير، عنده خزائن كل شيء، لا ينزله إلا بقدر معلوم، وأنه كفيل قائم بأمره ورزقه، أدى ذلك إلى اعتماده على ربه في كل شيء، ووثق به دون كل شيء، وقنع بكل ما جاءه من ربه، وصبر على ما ابتلاه به، فلا يطمع في سواه، ولا يرجو إلا إياه، ولا يشهد في العطاء إلا مشيئته ولا يرى في المنع إلا حكمته، ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته وقيوميته، فيكثر من دعائه وذكره لاسيما إذا حزبه هم أو لحقه كرب، وقد تقدم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كان النّبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمرٌ، وفي رواية أخري إذا حزبه أمر قال:” يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ ” [الترمذي(3565)].

فما أحوج القلب لأنوار اسم الله القيوم أن تسطع على حناياه وتطهر روحه من التوكل والتوجه لغير المولى جل وعلا، ما أحوج البشرية المعذبة التي حارت مع نداءات الشرق والغرب، والشيوعية والرأسمالية أن تعرف المالك الحقيقي والمدبر الحقيقي والذي بيده الأمر كله وقائم على كل نفس وخلق في الكون كله، فكم لهذا الاسم العظيم الأعظم المبارك من آثار إيمانية وظلال ربانية على قلب المؤمن الصادق، وهي الآثار التي لا يسع المؤمن أن يجهلها, أو يتخلى عنها بعد إدراكها ومعرفتها، ومن أهم هذه الآثار والثمار التي تشرق على قلب المؤمن باسم الله القيوم: المعرفة الحقيقية لقدر الدنيا، معرفة معنى اسم القيوم لا يجعل للدّنيا في قلب عبد قيمة ولا حيزاً، بل يتعامل معها كما يتعامل مع شيء لا يملكه، ولا يتحكم فيه، فوجب عليه أن يقوم بما كلّفه مولاه القيّوم علمًا وعملاً، والله هو القائمٌ بأمره المدبر لشئونه.

ومن آثار الايمان بهذا الاسم: اليقين الراسخ لدى المسلم أن الخلائق ليست قائمةً بنفسها، مهما بلغت في القوة وامتلكت من الغنى والسلطان، بل هي مفتقرة للحيّ القيّوم الذي يحييها ويقيمها، فهو سبحانه القيوم لأهل السّماوات والأرض القائم بتدبيرهم وأرزاقهم وجميع أحوالهم، أوجدها وأمدها وأعدها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها.

لذا قال العلماء: من أدب المؤمن مع اسم القيوم، أن يعوّد نفسه انقطاع قلبه عن الخلق، مادام يعرف أن الله هو القائم بأمره، حتى قال بعض العارفين: حسبك من التوكل ألا ترى لنفسك ناصراً غيره، فهل يليق بعاقل أن يجعل لربه الحي القيوم شريكاً في الخلق والتدبير والعبودية؟ فماذا بعد الحق إلا الضلال؟.. وماذا بعد النور إلا الظلام..؟: قال سبحانه: ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الرعد: 33].

ومن الآثار التي يجنيها المؤمن: راحة القلب وسلامة البال؛ فمن علم أن الله هو القيوم استراح من كد التدبير، وتعب التفكير، وعاش براحة النفس، يعني أن ما قدره الله سيكون، وما كتب له لن ينال أحد سواه، وما لم يقدره فليس إليه سبيل قط، والله عز وجل لا ينسى ولا يغفل، وأمر الخلق جميعا بيده، فإذا تيسر لك شيء فالحمد لله، قال بعضهم:

يا رب.. أنت لست محتاجاً إلى  ***   أحد والكل محتاج إليك

يا عليم السر في أغواره كيف ***   للأسرار أن تخفى عليك

كل شيء بك باق دائماً ***   والذي تقضيه مكتوب لديك

يا مضيء النجم يا قيوم يا  ***   ناقل الأطيار من أيك لأيك

رابعا : محبته سبحانه وحمده وإجلاله وتعظيمه على قدرته البليغة وقيوميته الدائمة ورعايته المستمرة، وكيف لا نحبّ من قد أولإنا برعايته وشملنا بعطائه ووسعنا بفضله, وهو القيّوم على أمرنا كلّها, وتولى شؤون معاشنا وأرزاقنا, وتكفّل بحفظ أرواحنا حينما ننام!!.

واعلم -يا عبد الله- أن الافتقار إلي الله عز وجل هو لب العبودية الذي عليه مدار القبول وسلم الوصول، لذلك كان لاسم القيوم تأثير خاص في إجابة الدعوات، ونتيجة ملموسة في كشف الكربات، قَالَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ وَتَشَهَّدَ دَعَا، فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، إِنِّي أَسْأَلُكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: “تَدْرُونَ بِمَا دَعَا؟” قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى” [النسائي(1300)].

فليعلن العبد افتقاره التام لله عز وجل ويحط رحاله عنده، وينزل جميع حوائجه بربه، ويوجه إخلاصه واستعانته واستغاثته واعتصامه – بالقيوم – ويقطع التعلق بالمخلوق الضعيف المربوب لله تعالى، المفتقر إليه الفقر الذاتي، ويتجه بكلّه الى من تولى أمره، وقام على كبير شؤونه وصغيرها, وهو الله الحيّ القيّوم، وليكرر الاستغاثة باسمه “يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ” [الترمذي(3565)], عندما تدركه النوائب، وتحدث فيه الحادثات.

اللهم نور قلوبنا بفقه اسمك القيوم، وطهر أرواحنا بالإقبال والتوجه والتوكل عليك وحدك يا حي يا قيوم، وأغننا بالافتقار إليك، وأغثنا من كل مكروه، واحفظنا من سوء، وكن لنا نصيرا معينا يا رب العالمين.

اللهم فارجَ الهَم، كاشِف الغم، ومجيب دعوة المضطرين ..رحمنَ الدنيا والآخرة ورحيمَهُما نسألك أن ترحمَنا .. فارحمنا برحمةٍ تغنينا بها عن رحمةِ مَن سِواك.

اللهم إنا نعوذُ بك من عملٍ يُخزينا، ونعوذُ بك من صاحبٍ يؤذينا .. ونعوذُ بك مِن أملٍ يلهينا .. ونعوذ بك من فقر يُنسينا ..ونعوذ بك

من غِنى يُطغينا .

اللهم إنا نسألك صحةً في إيمان وإيمانا في حُسن خُلق ونجاحًا يتبعه فلاح، ورحمة منك وعافية ومغفرةً منك ورضوانا .

اللهم بديع السموات والأرض ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا تُرام أسألك يا الله يا رحمن بجلالك ونور وجهك أن تلزم قلوبنا حفظ كتابك كما علمتنا، وارزقنا تلاوته على النحو الذي يرضيك عنا، اللهم بديع السموات والأرض ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام نسألك يا الله يا رحمن بجلالك ونور وجهك أن تنور بكتابك أبصارنا .. وأن تطلق به ألستنا .. وأن تفرج به عن قلوبنا .. وأن تشرح به صدورنا .. وأن تستعمل به أبداننا فانه لا يعيننا على الحق غيرك

ولا يؤتينا اٍياه إلا أنت … ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

اللهم احفظنا بالإسلام قائمين .. واحفظنا بالإسلام قاعدين .. واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تشمِّت بنا عدوًا ولا حاسدًا.

اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك .. ونعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك .

اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الاخلاق والأعمال والأهواء والأدواء.

اللهم إنا نعوذ بك من الفسوق والشقاق والنفاق والسمعة والرياء .. ونعوذ بك من الصمم والبكم والجنون وسيء الاسقام.

اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء .. وتنزع الملك ممن تشاء .. وتعِز من تشاء وتذل من تشاء .. بيدك الخير انك على كل شيء قدير .. رحمن الدنيا والآخرة .. تعطيها من تشاء وتمنعها ممن تشاء .. ارحمنا رحمة تغنينا عن رحمة من سواك.

اللهم إنا نعوذ بك من الهَم والحَزَن ونعوذ بك من العجز والكسل … ونعوذ بك من الجبن والبخل .. ونعوذ بك من غلَبة الدَين وقهر الرجال.

اللهم رب السموات السبع وما أظلّت .. ورب الأرضين وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت .. كُن لنا جارًا من شر خلقك أجمعين أن يُفرط علينا أحد منهم أو يطغى .. عز جارُك .. وتبارك اسمك.

اللهم أسلمنا وجوهنا اٍليك .. وفوّضنا أمورنا إليك وألجأنا ظهورنا اليك .. رغبة ورهبة اليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا اليك .. آمنا بكتابك الذي أنزلت .. ونبيك الذي أرسلت .