تضييع الأمانة

عناصر الخطبة

  1. منزلة الأمانة
  2. مجالاتها
  3. كيفية أدائها
  4. اتصاف المؤمنين بها
  5. تضييعها ورفعها
اقتباس

لقد نهى الله عن خيانة الأمانة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال:27]. ونفى النبي -صلى الله عليه وسلم- كمال الإيمان عن خائن الأمانة فقال: “لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له” رواه أحمد.

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أمر بأداء الأمانة، ونهى عن المكر والغدر والخيانة.

وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل -سبحانه-: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ﴾ [البقرة:283]. 

وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله، قال -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الوداع: "ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها" رواه أحمد.

اللهم صلّ وسلم  على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله: اتقوا الله، وأدّوا الأمانة، واعلموا أنها ستكون يوم القيامة على من خانها حسرة وندامة: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾[البقرة:281].

أما بعد: إنَّ الإنسان يحمل مسؤوليَّة عظيمة، فهو الَّذي حمل الأمانة الَّتي أبت السماوات والأرض والجبال حملها، هذه الأمانة هي أمانة الدين، أمانة العبادة، أمانة التكليف،       قال -تعالى-: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً(73)﴾ [الأحزاب:72-73].

سبحان الله! ما أظلم الإنسان! وما أجهله! تُعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فيمتنعن عن حملها، ثمَّ يأتي الإنسان ويتحمَّلها طائعاً مختاراً، فأقام الله عليه الحجَّة، قال   -تعالى-: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف172].

إنَّ الأمانة مسؤوليَّة عظيمة، وحمل ثقيل، فعلى الإنسان أن يتحمَّل مسؤوليَّته، وأن يؤدي أمانته فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين العباد.

أمَّا أداؤها فيما بينه وبين الله بأن يقوم بطاعة الله وعبادته وإخلاص الدين له، والالتزام بشرع الله، والاقتداء بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير زيادة ولا نقصان، وأن يكون العمل خالصاً لوجه الله الكريم، موافقاً لشرعه؛ حتى يقبله الله.

أمَّا أداؤها فيما بينه وبين العباد فأن يقوم بما أوجب الله عليه من حقوق بحسب مسؤولية الإنسان وما التزم به نحو غيره.

وأول المسؤوليات والأمانات أمانة أولياء الأمور في كلِّ أمرٍ تولاه الإنسان صغيراً كان أو كبيراً، فعليه أن يقوم بالعدل، وأن يسير في ولايته حسبما تقتضيه مصلحة الدين، لا يُحابي قريباً ولا صديقاً ولا قوياً ولا غنياً ولا شريفاً، إنَّما يكون قدوته في ذلك محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الَّذي قال: "لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" متفق عليه.

والأمانة عامّة، فكل إنسان مؤتمن، الرجل مؤتمن، والمرأة مؤتمنة، وكل فرد في هذا المجتمع الإسلامي مؤتمن على أمور من ضمنها أموال النَّاس وأعراضهم وأرواحهم وأنفسهم، فعليه أن يراعي الله في هذه الأمانة فلا يفرط فيها.

لقد أمر الله -تعالى- بأداء الأمانة فقال: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ [النساء:58]. وفي الحديث: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن مَن خانك" رواه أحمد والترمذي.

وفي سؤال هرقل لأبي سفيان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعوته قال هرقل: "وسألتك: بماذا يأمركم؟ فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال: وهذه صفة النبي" متفق عليه. وفي حديث جعفر للنجاشي: "أمرنا بصدق القول، وأداء الأمانة، وصلة الرحم" رواه أحمد.

لقد أثنى الله على المؤدين لأماناتهم، فقال في صفات المؤمنين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون:8]. وجاء في الحديث: "اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم" رواه أحمد.

وفي الحديث: "… فيأتون محمداً -صلى الله عليه وسلم- فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً فيمر أولكم كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشد الرجال تجري بهم أعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً"، قال: "وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج ومكدوس في النار" رواه مسلم.

قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: وأما إرسال الأمانة والرحم فهو لعظم أمرهما، وكبر موقعهما، فتصوران مشخصتين على الصفة التي يريدها الله -تعالى- , قال صاحب  التحرير: في الكلام اختصار, والسامع فهم أنهما تقومان لتطالبا كل من يريد الجواز بحقهما. اهــ.

لقد نهى الله عن خيانة الأمانة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال:27]. ونفى النبي -صلى الله عليه وسلم- كمال الإيمان عن خائن الأمانة فقال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" رواه أحمد.  

وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الخيانة والأمانة لا يجتمعان كما لا يجتمع الكفر والإيمان، فقال: "لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئ، ولا يجتمع الصدق والكذب جميعاً، ولا تجتمع الخيانة والأمانة جميعاً" رواه أحمد.

وجعله من المنافقين فقال: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" متفق عليه.

وفي رواية: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" متفق عليه. لأنَّ النَّاس يخدعون بإنسان من مظهره، أو في حسن كلامه، فيضعون عنده أماناتهم، سواء من مالٍ أو سرٍّ أو حاجةٍ، فإذا به يظهر على حقيقته مخالفاً ما ظنَّه النَّاس عليه، فيضيِّع الأمانات، ويأكل الأموال، ويفشي الأسرار، ويتلف الحاجات، لذلك كان فيه علامة من النِّفاق.

لقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الأمانة ستضيع، وأنَّه سيأتي زمان على النَّاس تنقلب فيه الموازين وتختلط فيه الحسابات، فقال: "إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن" متفق عليه.

وقال: "سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة". قيل: وما الرويبضة؟ قال: "الرجل التافه في أمر العامة" رواه ابن ماجه.

ولقد جاء هذا الزمن، وأصبح الكذب صدقاً، والصدق كذباً، صار الباطل حقاً والحق باطلاً، وجُعل الخائن مؤتمناً والأمين مخوّناً، وكثر الرويبضة الذين تحكَّموا في رقاب العباد، فإلى الله المشتكى!.

إنَّ رفع الأمانة من علامات الساعة، ففي الحديث: "لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن، ويخوّن الأمين" رواه أحمد.

وعن أبي هريرة قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس يحدث القوم في مجلسه جاء إعرابي فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدّث، فقال بعض القوم: سمع فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: "أين السائل عن الساعة؟"، قال: ها أنا ذا يا رسول الله. قال: "إذا ضيّعت الأمانة فانتظر الساعة". قال: يا رسول الله، وما إضاعتها؟ قال: "إذا أوسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" رواه أحمد.

لقد ضيعت الأمانة، فهل يا ترى الرجل المناسب في المكان المناسب؟ إنَّها المحسوبيات والواسطات والرشاوى.

أمَّا عن رفع الأمانة، فقال حذيفة: حدثنا رسول الله حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أنَّ الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنَّة. ثمَّ حدثنا عن رفع الأمانة فقال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط تراه منتبراً وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان!" متفق عليه.

نسأل الله -تعالى- أن يثبتنا على الإيمان والحق المبين، وأن يقلبنا إليه غير خزايا ولا مفتونين ولا معذّبين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.