الخشوع وأثره في الصلاة

عناصر الخطبة

  1. مكانة الصلاة في الإسلام
  2. فضل الخشوع في الصلاة
  3. صور ونماذج من خشوع السلف
  4. حالنا مع الصلاة
  5. أمور تعين على الخشوع في الصلاة
اقتباس

الصلاة من أعظم الفرائض أثرًا وأفظعها عند الترك خطرًا، وأجلها بيانًا وخيرًا؛ فيها أكرم قول يردده لسان، مع أكرم حركة يؤديها المسلم، هي عمود الدين ومفتاح جنة رب العالمين، عُرِج برسول الله وفتحت له أبواب السماء، فأخذ يتجاوزها مكانًا ومكانة. عُرِج به بمقامٍ يسمع فيه صريف الأقلام، فكان قاب قوسين أو أدنى، ثم نزل عليه الأمر من ربه تبارك وتعالى بالصلاة ..

أما بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، وقال تعالى: ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت:45]

الحديث عن الصلاة يحتاج إلى تذكير وتكرار، لا يمل سماعه الأبرار، ولا تشبع منه قلوب الأخيار.

الصلاة من أعظم الفرائض أثرًا وأفظعها عند الترك خطرًا، وأجلها بيانًا وخيرًا؛ فيها أكرم قول يردده لسان، مع أكرم حركة يؤديها المسلم، هي عمود الدين ومفتاح جنة رب العالمين، عُرِج برسول الله وفتحت له أبواب السماء، فأخذ يتجاوزها مكانًا ومكانة.

عُرِج به بمقامٍ يسمع فيه صريف الأقلام، فكان قاب قوسين أو أدنى، ثم نزل عليه الأمر من ربه تبارك وتعالى بالصلاة، وحين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه وقد أَتى عليه الأجل، عَلمَ أنه يودع الدنيا إلى لقاء ربه، فكانت الصلاة خاتمة وصيته، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، فأصبح يقول: "الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ وما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" رواه أحمد.

من حافظ عليها فقد تَوثَّقَ من عُرَى دينه وأخذ بأصله، ومن ضيّعها فقد ضيّع دينه من أصله، الصلاة دواء يشفي من أمراض القلوب وأدوائها، وفساد النفوس وأسقامها، النور المزيل لظلمات الذنوب والمعاصي، يتطهّر بها المسلم من غَفَلات قلبه، وهفوات نفسه؛ كما قال المصطفى: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يَبْقَى من دَرَنِهِ شيء؟"، قالوا: لا يَبْقَى من دَرَنِهِ شيء. قال: "فذلك مَثَلُ الصلوات الخمس؛ يَمْحُو الله بهن الخطايا" رواه مسلم.

وكما ورد في حديث فضائل الوضوء وفيه أن رسول الله قال: "فإن قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه وَمَجَّدَهُ بالذي هو له أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قلبه لله إلا انصرف من خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يوم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" رواه مسلم.

إن عبادة هذه نتائجها، وعملاً هذا شأنه لجدير بأن يسعى لتحقيقه والعناية به، وأن نجعله نُصْبَ أعيننا وحديث نفوسنا، الله أكبر حي على الصلاة حي على الفلاح، نداء يصدح في الأرجاء، وأذانٌ يخترق الآذان؛ ليوقض أجسادًا مشرقة بالإيمان، وقلوبًا مخبتة. فإذا بالوفود تتقاطر، والجموع تصطف ولا تتناثر، لها هدير كالبحر في تلاطمه، وعرش النحل في تلاحمه، وترى المسجد وقد غَصَّ بالناس فاتّصلوا وتلاحموا، تجد الصف منهم على استوائه، كما تجد السطر في الكتاب ممدودًا محتبكًا منتظمًا، وتراهم تتابعوا صفًا وراء صف، ونسقًا على نسق، فالمسجد بهم كالسنبلة ملئت حبًا ما بين أولها وآخرها، فليس فيهن على الكثرة حبة واحدة تهبها السنبلة فضل تميز لا في الأعلى ولا في الأدنى.

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)﴾ [المؤمنون:1، 2] بالخشوع -عباد الله – يجمع المصلي في صلاته بين طهارة الظاهر والباطن، إذ كان يقول في ركوعه في الصلاة: "خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي" رواه مسلم، وفي رواية عند أحمد: "وما استقلت به قدمي".

بالخشوع تغفر الذنوب وتكفر السيئات، وتكتب الصلاة في ميزان الحسنات، كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله قال: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله" رواه مسلم.

الصلاة إذا زينها الخشوع وترسخ في أقوالها وأفعالها الذُّلُ والانكسار، والتعظيم والمحبة والوقار، نهت صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فيستنير قلبه ويتطهر فؤاده ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير وتنعدم في الشر. بالخشوع يزداد إقبال المصلي على ربه، فيكون اقتراب ربه منه.

فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي -رحمهم الله تعالى-، أن رسول الله قال: "لا يزال الله عزّ وجلّ مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه".

الخشوع أمرٌ عظيم شأنه، سريع فقده، نادرًا وجوده خصوصًا في زماننا وحاضرنا، وحرمان الخشوع من أكبر المصائب، والعلل وخطبٌ جَلل، كان يستعيذ منه المصطفى، ويقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع" رواه الترمذي.

وما أصاب بعض المسلمين من ضعف في أخلاقهم، وانحراف في سلوكهم، إلا لأن الصلاة غدت جثة من غير روح وحركات مجرّدة، أخرج الطبراني وغيره أن رسول الله قال: "أول ما يُرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعًا".

وقال الصحابي الجليل حذيفة: "أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورب مصلي لا خير فيه، ويوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيهم خاشعًا".

حين نتجوّل في سير الأوائل نرى أن أمثالهم قليل، فإن في أخبار صلاتهم عِبَرًا، ودموعهم تنهلّ على وجوههم صِدْقًا. ذكروا من خبر الحبيب المصطفى أنه كان يباسطهم ويمازحهم، فإذا حانت الصلاة كأنه لم يعرفهم ولم يعرفوه.

الصلاة أُنس المسلم وسلواه، غاية مراده ومناه، يقول لبلال: "أرحنا بها"، ويقول أيضًا: "جُعِلت قُرّة عيني في الصلاة" أخرجه النسائي وأحمد. قُرّة عينه ونعيم روحه وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها فيستريح بها لا منها، يخلع على أعتاب المسجد الدنيا ومباهجها، ويترك هناك أموالها وشواغلها، يطوي صحيفة ذكرها من قلبه، يدخل المسجد بقلب أخذته الرهبة إجلالاً لله ورغبة في ثوابه سبحانه، الصديق أبو بكر إذا كان في صلاته كأنه وَتَد، وإذا جهر بالقراءة خنقته عبرة من البكاء.

والفاروق عمر بن الخطاب كان إذا قرأ لم يسمع مَن خلفه مِن البكاء، وعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إذا قامت الصلاة كأنه عود من خشب، وعلى بن أبي طالب إذا حان وقت الصلاة يضطرب ويتغير، فلما سئل قال: "لقد آن أوان أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها".

ومن الناس من يصلون بأجسامهم وأعضائهم، يحركون ألسنتهم وأفواههم بالكلم، يحنون ظهورهم راكعين، يهوون إلى الأرض ساجدين، لكن قلوبهم لم تتحرك نحو بارئها الأعلى، يظهرون له الخضوع وقلوبهم نافرة، يقرؤون القرآن لكنهم لا يتدبرونه، يسبحون لكنهم لا يفقهونه، زيّنوا ظواهرهم وغفلوا عن بواطنهم.

وقفوا أمام الله وفي بيته وهم في الحقيقة واقفون أمام مشاغلهم، مقيمون بأرواحهم في مساكنهم، فترى الرجل قد شاب عارضاه في الإسلام، وصلّى زمانًا طويلاً لكنه لم يكمل صلاته يومًا؛ لأنه لا يتم ركوعها وسجودها وخشوعها.

من كان هذا حاله لا ينتفع بالصلاة، لذا قد يأكل أموال الناس بالباطل، يسعى بالفساد بين الناس، يقوم بأعمال تتنافى مع الدين والأخلاق، بل ربما أخذ الصلاة أحبولة يتصيد بها ثناء الناس عليه، ويستر به جناية يديه ورجليه.

إخوة الإسلام: هذا الحديث للمحاسبة، فقف مع نفسك وقفة صادقة، ليرى كل منا موقعه، قال: "إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عُشر صلاته، تُسعها، ثُمنها، سُبعها، سُدسها، خُمسها، رُبعها، ثُلثها، نصفها" رواه أبو داود.

قال حسن بن عطية -رحمه الله-: "إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما من فضل كما بين السماء والأرض".

إذ ليس حظ القلب العامر بمحبة الله وخشيته وتعظيمه من الصلاة، كحظ القلب الخالي من ذلك، وليس حظ القلب المخبت الخاشع كحظ القلب الذي ملذات الدنيا وشهواتها خاضع، ليس حظ القلب الذي يرتع في رياض القرآن كحظ القلب الذي تملكه الشيطان.

أيها المصلي: إنها معركة حامية الوَطِيس مع الشيطان، معركة الوساوس والصوارف والخطرات؛ لأنك قمت أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان، يزين أمام ناظريك الملذات، يعرض مشاهد ومغريات، يذكرك ما نسيت فيستطير فرحًا حين تلف صلاتك كما يلف الثوب الخَلَقَ لا أجر ولا فضل.

أيها المصلي: من جرى على منهاج النبي، وسلك طريقته في الصلاة تحقق له الخشوع، ومما يعين على الخشوع ويحقق الخضوع أمور، أن يخرج المصلي إلى المسجد مبكرًا بسكينة ووقار، قد نظف ثيابه وطهر بدنه وفَرَّغَ قلبه من الشواغل، طيب رائحته، وأن يعمل على تسوية الصفوف وسُدّ الفُرَجِ، رَفْعُ البصر إلى السماء نُهي عنه المؤمن ويُخِلُّ بالخشوع.

ترك الالتفات في الصلاة ببصره أو قلبه، وهذا خَلَف بن أيوب سُئل: "ألا يؤذيك الذباب في صلاتك؟ قال: لا أعوّد نفسي شيئًا يفسد علي صلاتي، قيل له: وكيف تصبر على ذلك؟ قال: بلغني أن الفساق يصبرون تحت أسواط السلطان، فيقال فلان صبور ويفتخرون بذلك، فأنا قائم بين يدي ربي، أفأتحرك لذبابة"؟! وبعضنا يملأ صلاته حركة بدون ذبابة، فكيف إذا تراءت أمام ناظريه الذبابة؟!

ومن الأمور: عدم التهويش في القرآن على الآخرين، وأن لا يصلي في ثوب أو قميص فيه نقوش أو كتابات أو ألوان وتصاوير، تشغله وتشغل غيره، وكذا الأصوات المنبعثة من أجهزة الهواتف النقالة، التي آذت المسلمين في مساجدهم وصلواتهم، أفسدت عليهم خشوعهم، ناهيك عما تحمله من نغمات محرمة يتردد صداها في بيوت الله ومع كلام الله تبارك وتعالى. نسأل الله السلامة والعافية.

عن أبي قتادة قال: قال رسول الله: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته"، قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟ قال: "لا يُتِمّ ركوعها ولا سجودها"، أو قال: "لا يقيم صُلْبه في الركوع والسجود" رواه أحمد.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه.

أما بعد:

فاتقوا الله حق التقوى: وراقبوه في السر والنجوى.

من أعظم الدواعي لحضور القلب وخشوعه: تدبر الألفاظ والمعاني، فكلما قال المصلي: الله أكبر؛ تأمل عمق هذا المفهوم وجلال المدلول. الله أكبر من الشيطان يُغرره بالدنيا، الله أكبر من الشهوات والمال والجاه والولد، فإذا استقر في قلبه معنى هذه الكلمة وأتى بمقتضاها، اطرح خلف ظهره كل ما عداها.

ومن دواعي حضور القلب: تأمّل الجزاء العظيم في كل فاتحة تقرأها وركعة تركعها، تأمل الأجور الجزيلة، ومنها: إذا قرئ الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين قالت الملائكة: "آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه".

وأجور جزيلة أخرى، وفضائل كبرى في القيام والقعود، وأذكار الركوع والسجود، فمن تأملها أيقن برحمة الإله المعبود. ومما يجلب الخشوع: وصية الرسول الخالدة: "صَلِّ صلاة مَوَدِّع".

والمتأمل في هذه الأيام وما تؤول إليه الأحوال، وفي مصائر الناس يعلم جلال هذه الوصية، "صَلِّ صلاة مَوَدِّع"، دواءٌ ناجع لمن يرون القلب الخاشع، فإذا شرع العبد في صلاته وكأنها آخر عهده بالدنيا، أحسن خشوعها أتم سجودها وركوعها؛ لأن لحظة الرحيل بين يديه.

وكأن هادم اللذات مقبل عليه، فلا يلتفت بصره، ولا يشغل قلبه بغير الله، ولا يذهل لبه، ولو رأيت منصور بن معمر التابعي الجليل، لو رأيته يصلي لقلت يموت الساعة، كما قال سفيان الثوري.

ثم إن عثمان بن العاص أتى النبي فقال: "يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبّسها علي، فقال رسول الله: "ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثًا" فقال: ففعلت فأذهبه الله عني" رواه مسلم.

ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56]

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.