فضل العشر الأواخر

عناصر الخطبة

  1. التشويق إلى العشر الأواخر
  2. أقسام الناس في رمضان
  3. فضل العشر الأواخر
  4. الأعمال المشروعة في العشر الأواخر
اقتباس

أمة الإسلام: ها هو شهر رمضان قد تصرمت أيامه، وأوشكنا على الدخول في ثلثه الأخير، فما عسانا قدمنا فيما مضى منه، هل هو بالإحسان أو بالإساءة؟! فيا أيها المحسنون: هل تجدون لإحسانكم تعباً؟ ويا أيها المفرطون: هل تجدون لتفريطكم راحة؟ تفنى اللذاذات ممن نال صفوتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعارإن ليالي العشر الأخير من رمضان هي لؤلؤة في…

الخطبة الأولى:

الحمد لله…

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا ربكم، واعلموا أنكم ملاقوه، وبشر المؤمنين، فطوبى لمن استعد للقاء ربه، فجعل دنياه مزرعة لآخرته، ويا شقاوة من عمل في الدنيا عمل الخالدين الذين هم عن الآخرة معرضون.

أمة الإسلام: ها هو شهر رمضان قد تصرمت أيامه، وأوشكنا على الدخول في ثلثه الأخير، فما عسانا قدمنا فيما مضى منه، هل هو بالإحسان أو بالإساءة؟!

فيا أيها المحسنون: هل تجدون لإحسانكم تعباً؟ ويا أيها المفرطون: هل تجدون لتفريطكم راحة؟

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعار

فلنستدرك ما مضى بما تبقى، خصوصاً وأن الليالي الباقية أفضل مما مضى.

إن ليالي العشر الأخير من رمضان هي لؤلؤة في عقدٍ نفيس، فيا لله وما فيها من الخيرات؛ ويا لله وما فيها من البركات.

أيها المؤمنون: لقد كان الصالحون يعدون الأيام عداً، شوقاً لهذه العشر الفاضلة، قال ابن رجب -رحمه الله- : "المحبون تطول عليهم الليالي فيعدونها عداً، لانتظار الليالي العشر في كل عام، فإذا ظفروا بها، نالوا مطلوبهم، وخدموا محبوبهم".

أيها الصائمون: إن الناس في هذا الشهر لا يخرجون عن قسمين: إما أن يكونوا من المتزودين من خيراته ونفحاته، الفائزين بثمرته الغالية، وهي العتق من النار، وإما أن يكونوا من المحرومين الغافلين، الذين انصرم رمضان ولم يتزودوا من نفحاته، فمن كان هذا حاله فهو محروم حقاً -عافانا الله وإياكم من ذلك-.

إن شهر رمضان شهر النفحات والرحمات، والعتق من النار، وأغلى شيء في رمضان أيامه العشر الأخيرة ولياليه، وأغلى شيء في هذه العشر الأخيرة تلك الليلة، التي أرقت نوم العباد، وأسهرت ليليهم، وهم ركعا سجدا، كلما مر خاطرها على قلوبهم ارتعشت ارتعاش الطير، شوقاً إليها.

أخرج ابن ماجه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم".

عباد الله: ها هي مواسم الخيرات تمر علينا في كل عام، فهل تذكرنا شرفها؟ وهل سابقنا بالصالحات فيها؟

إياكم أن تكونوا عن هذه المواسم من الغافلين، فها هي أيام هذه العشر تزف إليك لتأخذ منها نصيبك قبل أن ترحل، وكأنها قد رحلت محملة بالأعمال من الصالحين والطالحين، وغداً ينكشف الغطاء.

إن من شرف هذه العشر: حرص المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على العمل فيها، وهو المغفور له ما تقدم وما تأخر من ذنبه صلى الله عليه وسلم، أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها-: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخلت العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله! وجد وشد المئزر.

وأخرج مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره".

لقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مجتهداً في طاعة ربه، لا يمل ولا يكل، بل فيها قرة عينه، ولكن إذا دخلت العشر عمل بكل طاقة ما يستطيع، حذراً من تفويت هذه الأيام الفاضلة، ولقد كان سلفنا الصالح يعدون للعشر ما لا يعدون لغيرها.

قال ابن جرير -رحمه الله-: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر.

وكان إبراهيم النخعي -رحمه الله- يغتسل في العشر كل ليلة.

إن مما يبين فضل هذه العشر، وأنه لا ينبغي للمؤمن أن يفرط فيها، اعتكاف النبي -صلى الله عليه وسلم- العشر كلها في المسجد، وحث أصحابه على ذلك.

عباد الله: إن الأجور في هذه الأيام لا تكال ولا توزن، بل تغرف غرفاً؛ كما قال الأوزاعي -رحمه الله-، وما ذاك إلا لأن الطاعة تحتاج إلى صبر، ومصابرة، والله -سبحانه- يقول: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].

قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "كم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل، وهذه الأيام مثل المزرعة فكأنه قيل للإنسان: كلما بذرت حبة، أخرجت لك كراً -وهو المكيال الضخم- فهل يجوز للعاقل أن يتوقف عن البذر ويتوانى".

أيها المؤمنون: العجل، العجل، البدار، البدار، قبل حلول قاطع الأعمار، وهادم اللذات والأوطار: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].

قال سعيد بن جبير -رحمه الله-: "سارعوا بالأعمال الصالحة".

أيها المسلمون: أين أهل المقاييس والمقارنة؟ أين أهل الموازنة والمفاضلة؟ عشرة أيام، مملوءة بالعبادة والإخلاص توازي مغفرة الذنوب كلها، والعتق من النار، والخلود في الجنة، حقا إن الخاسر من خسر هذه الأيام، وقد وزعت السلع فيها بما يشبه المجان.

اللهم أيقضنا من الرقدات، وهيئنا لاغتنام الأوقات.

الخطبة الثانية

أيها المؤمنون: إن العشر الأواخر من رمضان ينبغي أن تخص بأعمال زائدة عما في أول رمضان، وذلك لما تحويه من الفضائل والخيرات، فمن ذلك: الحرص على إحياء لياليها كلها بالصلاة والذكر والقرآن، وسائر القربات، وكذلك إشغال نهارها بتلك العبادات.

قال سفيان الثوري: "أحب إذا دخل العشر الأواخر أن يجتهد فيها، وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك".

ومن الأعمال كذلك: تحري ليلة القدر في هذه العشر التي قال الله فيها: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: 3].

أتدري -يا عبد الله- كم هي ألف شهر؟

هي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، قال النخعي -رحمه الله-: "العمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر".

فيا لله كم في هذه الليلة المباركة من الخيرات والنفحات؟

قال الله -تعالى-: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: 5].

وقال الضحاك -رحمه الله-: "لا يقدر الله في تلك الليلة إلا السلامة، وفي سائر الليالي يقضي بالبلاء والسلامة"، قال تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 4].

قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إذا كان ليلة القدر لم تزل الملائكة تخفق بأجنحتها بالسلام من الله والحرمة من لدن صلاة المغرب إلى طلوع الفجر".

لقد كان السلف الصالح – رحمه الله – يتهيئون لها ويستقبلونها؛ كما يستقبلون الأعياد.

كان لتميم الداري -رحمه الله ورضي عنه- حلة اشتراها بألف درهم، كان يلبسها في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر، وكان ثابت البناني وحميد الطويل -رحمهما الله- يلبسان أحسن ثيابهما، ويتطيبان، ويطيبان المسجد بأنواع الطيب في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر.

أيها المسلمون: أينا لا يرغب أن يكون من المغفور لهم؟

إن ليلة القدر هي ليلة الدعاء، ليلة طلب الحاجات من ملك الملوك، الغني الذي بيده خزائن الأرض والسماوات، أخرج الترمذي من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة، ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفوا كريم تحب العفو فاعف عني".

يا غافلا عن الخيرات، إن ليلة القدر فرصة غالية في عمرك، فلا تمرن عليك وأنت غافل، إن فاتتك ليلة القدر، فقد فاتك أجر لا يعوض، وقد تكون من المحرومين.

إن ليلة القدر نفحة إلهية، وعطية ربانية ادخرها الله -تعالى- لعباده الصائمين في نهاية صومهم، أخرج ابن ماجه من حديث أنس بن مالك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم".

كيف لا، وهي ليلة واحدة يغفر الله بها كل ما تقدم من ذنبك، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".

ومما يستحب من الأعمال في هذه العشر: اعتكافها: أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله – عز وجل- ، ثم اعتكف أزواجه من بعده.

قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أن الاعتكاف مسنون، والأفضل اعتكاف العشر جميعاً؛ كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل، لكن لو اعتكف يوماً أو أقل أو أكثر جاز".

قال العلماء: الاعتكاف هو قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، قال ابن رجب -رحمه الله-: "كلما قويت المعرفة بالله، والمحبة له والإنس به، أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله -تعالى-بالكلية".

قال ابن القيم -رحمه الله-: وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه علو القلب على الله -تعالى-، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده -سبحانه- بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، والأنس به بدلاً عن الإنس بالخلق، فيستعد بذلك لأنسه به يوم وحشته في القبور، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.

أيها المؤمنون: إن المعتكف أحرى من وفق لليلة القدر، وهو أكثر الناس حظاً من نفحاتها، فيصادفها قانتاً لله، عابداً ذاكراً لله -تعالى-، مع ما هو فيه من الاستكانة، والتضرع والخضوع لله -تعالى-.

اللهم اجعلنا ممن وفق لقيام ليلة القدر.