من التيسير في الصيام

عناصر الخطبة

  1. رفع الحرج عن الأمة
  2. بيان مسائل قد تشكل على الصائمين: تبييت النية- ما يفطر به الصائم وما لا يفطر
  3. تدريب الصغار على العبادة
اقتباس

واستعمال الإبر العلاجية التي تحقن في الجلد أو العضل أو الوريد للعلاج غير مفطرة، لأنها ليست في معنى الطعام المغذي، ولا تصل إلى الجوف، أمَّا الإبر الوريدية المغذية التي يقصد منها التغذية فتفطر، لأنها في معنى الأكل والشرب…

الخطبة الأولى:

الحمد لله ..

أما بعد: فإن شريعة الله لما أوجبت على العباد عبادات بدنية ومالية راعت في ذلك طاقتهم ووسعهم، فلم تكلفهم فوق طاقتهم قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق: 7] وقد جاءت شريعة الله بنفي الحرج والمشقة عن العباد, قال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6].

وجاءت بتيسير الدين فشرعت فيه الرخص الخاصة والعامة، العارضة والدائمة، كما قال الحبيب -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ" رواه أحمد والبيهقي والطبراني، وصححه الألباني.

والصوم في حقيقته الإمساك عن المفطرات من طعام وشراب وإتيان النساء، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس طاعةً لله، وظاهره المشقة والحرج، ولكنَّ الله تعالى نصَّ على رفع الحرج عن الصائمين في آيات الصيام، فقال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].

وقد تُشْكِل على الصائم مسائل وتصرفات أثناء صومه نبين بعضها على سبيل الاختصار توعية للصائم، ورفعِ الحرج عنه، ليكون على بصيرة في أمر دينه، وينتفي عنه القلق والتردد في عبادته.

(1) يشترط تبييت النية لصوم الفرض في أي وقت من الليل لحديث حفصة -رضي الله عنها- : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ لم يُجْمعِ الصِّيامَ قبل الفجر؛ فلا صيام له". رواه أبوداود والنسائي والترمذي وأحمد وصححيه الالباني.

والنية سهلة يسيرة، فتكون بكلُّ ما يدلُّ على العزم على الصوم غدًا، ولا تحتاج إلى تكلف وتأكيدها بالسحور وغيره، والتلفظ بها عمل ليس له أصل في السنة. ولا حرج على الصائم أن ينوي نية واحدة من أولِ الشهر لجميع رمضان، ولا يشترط أن ينوي نيةً مستقلةً لكل يوم من رمضان، لأن صوم رمضان عبادة واحدة متصلة، فتكفيه نية واحدة كالصلاة والحج.

(2) والأصل أن الصائم لا يفطر إلا بدخول شيءٍ إلى جوفه من منفذٍ معتادٍ أو شبهِ معتادٍ، وهذا القول هو الصواب من جهة النقل وموافقة قاعدة الشريعة في التيسير ورفع الحرج  وعليه فلا يفطر الصائم باستعمال السواك في أي وقت، ويدخل معه استعمال فرشاة الأسنان قياسًا على السواك والمضمضة، ولكن بشرط التأكد من عدم دخول المعجون للحلق .وكذلك معالجة الأسنان وقلعها وتنظيفها، ولو خرج دم من جراء ذلك، بشرط عدم ابتلاع شيء منه.

(3) الأكل والشرب ناسيًا لأن الشارع عفى عنه، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ" رواه مسلم.

(4) لا حرج على الصائم إذا خرج منه القيء بغير قصد منه، أما إذا تعمد ذلك فعليه القضاء، لحديث: "مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ". رواه الترمذي وصححه الألباني.

(5) واستعمال الكحل في العين ليس مفطرًا، لأن العين ليست منفذًا للجوف، وقد كان أنس -رضي الله عنه- يكتحل وهو صائم, كما ورد في سنن أبي داود، ومثله استعمال قطرة العين، وقطرة الأذن، وغسول الأذن.

(6)     ولا يفطر الصائم بوضع الأطياب بأنواعها، واستنشاق الروائح الزكية من الأزهار والنباتات والتوابل غير مفطرة، لأنها ليس لها جرم ينفُذ إلى الجوف، أما البخور فقد ذكر الفقهاء أن له جرم ينفُذ إلى الجوف، فمنعوا من قصد استنشاقه.

(7) ومثلها وضع الكريمات والمراهم والمساحيق وما شابهها على البشرة، لأن البشرة ليست منفذًا للجوف. وكذلك وضع الحناء على الشعر والبدن لا يفطر.

(8) ولا حرج على الصائم في استعمال قطرة الأنف عند الحاجة للدواء، ما لم يتحقق وصولها إلى الحلق، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للقيط بن صبرة: "وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا". رواه الأربعة وصححه الألباني، فإن تحقق وصوله للحلق أفطر، وقضى ذلك اليوم لأن الأنف منفذٌ معتبرٌ للجوف.

(9) استعمال بخاخ الربو عند الحاجة ليس بمفطِّر، لأنه علاج للجهاز التنفسي، ولا يتغذى منه البدن، ولا يشعر به الصائم، ويعفى عنه كما يعفى عن أثر السواك والمضمضة المعفي عنه شرعًا، وكذلك بخاخ الأنف لا يفطِّر.

(10) واستعمال الإبر العلاجية التي تحقن في الجلد أو العضل أو الوريد للعلاج غير مفطرة، لأنها ليست في معنى الطعام المغذي، ولا تصل إلى الجوف، أمَّا الإبر الوريدية المغذية التي يقصد منها التغذية فتفطر، لأنها في معنى الأكل والشرب، ولأن المتناول لها يستغني عن الطعام والشراب.

(11) وكذلك أخذ عينة من الدم أو التبرع به، لأن الشرع لم يعتبره مفطرًا وأكثر الفقهاء على القول بجواز الحجامة للصائم، لما روى البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ". وكذلك ما يخرج من رعاف الأنف، وجروح البدن لا يفطر.

(12) إدخال المنظار الطبي في البدن عن طريق الفم أو غيره لا يفطِّر، لأن المنظار ليس في معنى الطعام الذي يتغذى به البدن، ولأن دخوله مؤقت لا يستقر داخل المعدة، لكن يشترط أن لا يوضع عليه دهن يتغذى به البدن، ومثله إدخال التحاميل والغسول لأنه ليس منفذًا معتادًا للجوف.

(13) تقبيل الزوجة ومباشرتها إذا كان الصائم يملك نفسه، ويأمن عدم ثوران الشهوة، أما إذا كان لا يملك نفسه فيحرم، لحديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنه-: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُنِي وَهُوَ صَائِمٌ، وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟" رواه مسلم.

(14) ولا يفسد الصوم إلا خروج المني دفقًا بفعل أو نظر، وعليه التوبة والقضاء، لما في الصحيحين: "يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي". وخروجه باحتلام في النوم أو مرضٍ فلا يفسد الصوم، ولا يؤثر في صحته بالاتفاق، لأن الصائم لم يتعمده، وقد عفى الله عن ذلك.

(15) وإذا خرج من الصائم مذي، لا يفسد صومه على الصحيح، وعليه إتمام صومه، ولا قضاء عليه ولا كفارة.

(16) ولا حرج على الصائم أن يطلع عليه الفجر وهو جنب لم يغتسل، لأن الطهارة ليست شرطًا للصوم، لما في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُدْرِكُهُ الفَجْرُ، وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ، وَيَصُومُ" وكذلك الحائض إذا طهُرت قبل الفجر، واغتسلت بعد الفجر، صومها صحيح.

(17) لا حرج على الصائم أن يأكل أو يشرب ليلًا حتى يغلب على ظنه طلوع الصبح، فيجب الإمساك، أما بمجرد الشك فلا يلزمه الإمساك، لقوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187] وما اشتهر عند الناس من الإمساكية قبل الفجر بعشر دقائق فعمل لا أصل له في الشرع، والسنة على خلافه. وأما إذا أكل خطأ يظن أن الليل باقٍ، ثم تبين أنه قد أصبح فصومه باطلٌ، وعليه القضاء.

(18) لا حرج على الصائم في الاغتسال والتبرد بالماء بشرط عدم ابتلاع الماء، وإن اشتد عليه الحر أو أصابه ظمأ شديد من عناء العمل، وأصابته مشقة عظيمة يخشى منها الهلاك أو المرض المحقق، فلا عليه إن أفطر لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195] وعليه القضاء.

(19) لا حرج على الصائم أن يفطر إذا رأى معصوما أشرف على الهلاك فقام بإنقاذه، لأنه من باب الضرورة، كما رخص أهل العلم في ذلك ثم يقضي ذلك اليوم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله…

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- في أنفسكم وأهليكم وأبنائكم، أن تأمروهم بالصلاة، وتعودوهم على حضور المساجد، فقد أمركم بذلك الحبيب -صلى الله عليه وسلم- فقال: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغُوا سَبْعَ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ" رواه أبوداود وأحمد وغيرهما، وحسنه الألباني، وفي رواية عند البزار قال: "عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمْ الصَّلَاةَ..".

وكان من دعاء إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- ربه فقال: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [إبراهيم: 37], ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ [إبراهيم: 40]

وأثنى الله -جلَّ وعلا- على نبيه إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- فقال: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ [مريم: 55] وفي الصحيحين عن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ -رضي الله عنه-، قَالَتْ: "فَكُنَّا، بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ"، فكانوا يأتون بأبنائهم إلى المساجد ويتابعنهم، حتى لا يحدث منهم إزعاج بالبكاء من الجوع فيعطونهم ما ينشغلون به عن الطعام إلى غروب الشمس.

فجميل أن نأتي بأبنائنا إلى المساجد، وأن نعوِّدهم على ارتيادها، والأكمل والأجمل أن نربي فيهم تعظيم بيوت الله واحترامها، وأن نعلمهم الآداب الواجبة للمسجد، وأنها ما جعلت إلا لذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة، وأن من تعظيم شعائر الله عدم رفع الصوت في المسجد، والبعد عن التشويش على المصلين وإزعاجهم، واجتناب اللعب واللهو فيها، والمحافظة على مقتنيات المسجد وفرشه وعدم العبث بها.

﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74]

﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ [إبراهيم: 40]