الاستقامة

عناصر الخطبة

  1. الحكمة من إيجاد الخلق
  2. أهمية السنة ومكانتها
  3. العبادات مبناها الإتباع لا الابتداع
  4. نزول التشريع في الفترة المدنية
  5. القرآنيون
  6. أهمية الاستقامة.
اقتباس

إن الاستقامة بمفهومها الشامل العام تعني الامتثال لأمر الله تعالى ولامتثال لشرعه، وشرع الله أوامره ونواهيه، أوامر تصل إلى حد الوجوب، وأوامر تصل إلى حد الاستحباب، ونواهٍ تصل إلى حد التحريم، وأخرى إلى الكراهة، فالاستقامة تعني الالتزام بهذا الدين أن تدور مع الشرع حيث دار، أن يجدك الله حيث أمرك، وأن يفتقدك الله حيث نهاك، هذا هو مقتضى الاستقامة.

أما بعد: فإن الله تعالى لم يخلق شيئًا في الوجود عبثًا ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ﴾ [ المؤمنون: 115]، وإن الغاية من خلق الإنسان تحقيق العبودية لله تعالى، والغاية من خلق بقية الخلق: خدمة هذا الإنسان، ومن أجل أن يسخرها في طاعة الله عز وجل، ويستعين بها على طاعة الله عز وجل من جهة، وعلى استقراره وحسن معيشته على ظهر هذه الأرض من جهة أخرى، فالغاية من خلق بني آدم تحقيق العبودية لله تعالى، قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)﴾ [ الذاريات: 56- 57].

هذه هي الغاية من خلق الإنسان من أجلها؛ عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها، ولهذا فإن الله تعالى قطعًا للعذر والمجادلة والمحاجة من بني آدم، أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب قال تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ [ النساء: 165]، وقال سبحانه: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 19]. وقال تبارك وتعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً﴾ [النحل: 41]. وقال جل وعلا: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ الحديد: 25].

فالله سبحانه وتعالى قطع العذر على كل إنسان أن يعتذر يوم القيامة، فيقول: ما جاءنا من بشير ولا نذير، قال الله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [ المائدة: 19].

إن الله تعالى لم يترك الناس هملاً ولم يتركهم إلى عقولهم ولا إلى أهوائهم، بل جعل الهوى أحيانًا إذا كان صاحبه يتبعه جعله ربنا تبارك وتعالى بمقام الإلهة التي تُعبد من دون الله، فقال سبحانه: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [ الجاثية: 23].

ولما كانت الغاية من خلق الإنسان أن يعبد الله وحده، وأن لا يشرك به شيئًا، وأن يصرف عباداته لله تعالى، فإن الله تعالى جعل ذلك مضبوطًا بضابط كتاب الله تعالى وأقوال رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى أنزل الكتب وأرسل الرسل، وكلفهم بأن يوضحوا للناس ما انبهم عليهم من كتبه، وما كان يحمل أكثر من معنى، وما كان أن يتطرق إليه فهم غير صحيح، فقال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(44)﴾ [ النحل: 43-44].

فكان من مهمات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يبينوا للناس ما يحتاج إلى بيان، ولهذا فإن الكتاب وحده لا يمكن أن يفي بحاجة الناس في التعبد وفي التشريع، فهذا أمر مجزوم به، وما سوى ذلك فالكفر والضلال.. وإن معنى قول من قال: إن القرآن وحده دون سنة النبي صلى الله عليه وسلم.. معناه إنكار لآيات بينات من القرآن العظيم، منها قول الله تعالى ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [ الحشر: 7].

فالذي يقول: إن القرآن يكفي، ولسنا بحاجة لسنة النبي عليه الصلاة والسلام كفر بهذه الآية، ومن كفر بكلمة من كتاب الله تعالى، فقد كفر وارتد عن دين الله تعالى، هذا أمر متفق عليه بين أئمة الدين وأهل الإسلام، ولم يُختلَف في ذلك بإذن الله تعالى.

ولهذا تنبأ النبي عليه الصلاة والسلام بأنه في آخر الزمان يأتي رجال ينبذون سنته صلى الله عليه وسلم عرض الحائط، يتركونها ورائهم ظهريًّا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِيّ، وَلاَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ، وَلاَ لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِىَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ". "ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه سلم مثل ما حرم الله، ألا وإني أوتيت القرآن مثله معه" في الاحتجاج في التحليل والتحريم.

وإلا فقل لي بالله عليك وأنت تقرأ القرآن من أوله إلى آخره: أتستطيع أن تستخرج كم ركعة لصلاة الظهر، وكم ركعة لصلاة المغرب، وبقية الصلوات، وما هي النوافل، كيف تُحرم، كيف تطوف، كيف تسعى، كم عدد الأشواط إلى آخر ذلك، كل هذا وأكثر من هذا لا يمكن أن تجده في كتاب الله تعالى، بل إن هذا قام ببيانه الرسول صلى الله عليه سلم.

نعم، لقد دخل الدخيل في سنته صلى الله وسلم، ولكن الله تعالى لما تكفل بحفظ القرآن تكفل أيضًا بحفظ ما يبين القرآن، فهيأ الله رجالاً سنوا قوانين وضوابط لكيفية التعامل مع الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من أئمة الإسلام ما بيّن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وما لم يصح، هناك أسفار من الكتب، كتب تبلغ المجلدات العظيمة التي بين فيها العلماء ما كذب فيها الكذابون والأفاكون على نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا من باب حفظ الدين، ومن باب البيات، والتحذير لهذه الأمة.

فإن تلك الأحاديث المكذوبة الموضوعة المختلقة على النبي عليه الصلاة والسلام حرّفت عقائد كثير من الناس، وشوّهت كثيرًا من عبادات الناس وسلوكيات الناس، وأخلاقيات الناس، وتعاملات الناس؛ لأنها ليست من عند الله تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ [ النساء: 82].

إذًا التدين والالتزام إنما هو مضبوط بضابط الشرع، بضابط كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا غيرُ.

يجب على الأمة أن تسلك هذا المسلك وألا تخرج عنه قيد أنملة؛ لأن هذا هو مقتضى التدين، ومقتضى إرادة الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك فإن هذا التشريع ليس موكولاً إلى أهوائنا، ولو كان موكولاً إلى الهوى لما اجتمعت هذه الوجوه الطيبة المتوضئة في بيوت الله تعالى للصلاة وللعبادة، لما اجتمعت قلوب المسلمين في رمضان فصاموا في يوم واحد، وأفطروا في يوم واحد، لما اجتمعت قلوب المسلمين وحجوا في يوم واحد، ونهجوا منهجًا واحدًا، بل لوجدت الاضطراب.

لو كان الأمر موكولاً إلى العقول لوجدت كل عقل يعبد نفسه، ويطوف حول نفسه؛ حيث تكون مصلحته، فالعقل يجب أن يكون تابعًا ولا يجوز بل يحرم أن يكون مبتدعًا، وإلا لو أتاه مشكك لعبد هواه وعبد عقله، وقال: إن قضية الحج لم تدخل في عقلي كيف أطوف حول حجر، وكيف أرمي بحجر حجرًا، وكيف أقف في جبل، وكيف أسافر إلى مكة، لِمَ لا أقف في أي جبل، لا أطوف حول أي حجر؟! لماذا أسعى بين الصفا والمروة؟! وكل هذا ضلال وكفر وانحراف على ملة محمد صلى الله عليه سلم؛ لأن هذا الإنسان إلهه عقله، ولجاء إنسان آخر، وقال: لم يدخل عقلي ولا في مزاجي قضية الصوم لماذا أصوم؟ ولماذا أترك الطعام وقد أحله الله تعالى؟ لماذا لا أكل من الصباح إلى غروب الشمس؟ لماذا يحرم طول اليوم لماذا في شهر رمضان ولم يكن في غيره من الشهور؟!!

ألم يكن الإنسان الأولى بالإنسان أن يقول: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. وإلا لو أن كل إنسان عبد ما يهوى لتعارض الشرع، ولصار عند المسلمين ليس دينًا واحدًا بل مليار دين؛ لأن كل إنسان سيتدين بهواه، بل لقال إنسان آخر لِمَ هذا التعبد؟ ولِمَ هذا وذاك؟ إنما هي حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر كل إنسان سيقول قوله.

لقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ليضبط هذا الأمر ويضبط الفهوم حتى لا تتناقض ولا تتعارض، وهذا هو مقتضى شرع الله سبحانه وتعالى، وأهل السنة سائرون منذ أن بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم على هذا السبيل، وعلى هذا المنهاج، وعلى هذا الطريق إنهم يأخذون تدينهم من كتاب الله، ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، يأخذون دينهم بجدية، يأخذون دينهم بقوة، بعيدًا عن الغلو، وبعيدًا عن التقصير أيضًا، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فخير الأمور الوسط، والوسيط، وشرها الإفراط والتفريط.

إن قضية التدين لله بتارك وتعالى يجب أن تكون مضبوطة هكذا لو سألت سؤالاً، فقلت للإخوة: ماذا تعرفون من التشريع في الفترة المكية خلال ثلاثة عشر سنة من عمر النبوة؟ لأصبتم وقلتم: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مهتماً بغير تحقيق توحيد الله تعالى، ولم يشرع الله تعالى في مكة سوى الصلاة، وبقية التشريعات إنما شرعت في المدينة؛ لأن الأصل في المسلم أن يكون وقّافًا لا يتعبد لله بالهوى والمزاج، بل يقف حيث أوقفه الشرع إذا قال له: اعبد عبد، وإذا قيل له: لا تفعل قال: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.

والله تعالى لم يكلف الأمة فوق الطاقة، قال الله تبارك وتعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ﴾ [ الطلاق: 7]. وقال سبحانه: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [ البقرة: 286]، وقال الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ… ﴾ [ البقرة: 185].

ينتقل الإنسان من حال إلى حال، من حال خفة إلى حال شدة، فيقول: سمعنا وأطعنا، ينتقل الإنسان من حال شدة إلى حال خفة فيقول: حمدًا لله هذا هو مقتضى شرع الله تعالى لهذه الأمة، وربما كان التشريع -وهذا في عموم التشريع- جاء في الأمة متدرجًا لم ينزل دفعة واحدة، ولو شاء الله لكلّف الأمة بكل التكاليف دفعة واحدة، ولكن النفس البشرية ميالة إلى شيء من التدرج، وميالة إلى الخفة، وميالة إلى ما تطيق، وتنفر من الشدة، والله تعالى هو خالق هذه النفس هو الذي يعلم ما يصلحها، قال الله تعالى: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [ الملك: 14].

الفترة المدنية هي فترة التشريع؛ شرع الصوم في المدينة، وشرعت الزكاة في المدينة، وشُرع الجهاد في المدينة، وشُرع الحج في المدينة، وفي السنة التاسعة حج صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة، وهكذا استمر التشريع، بل إن كان يتدرج أحيانًا في القضية الواحدة، فكان نكاح المتعة مباحًا في البداية ثم حُرّم، قالوا يا رسول الله: إن هذا الأمر شقّ علينا ثم أبيح، ثم حرم إلى يوم القيامة.

والحُمُر كان المسلمون يتعاطونها في بداية الإسلام على البراءة الأصلية، كانوا يأكلون لحم الحمر الأهلية على البراءة الأصلية؛ لأن العرب في الجاهلية كانت تأكلها، ثم في عام خيبر لحق النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة وقد ذبحوا حمارًا وهم يطبخونه، فنادى صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث عن ابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتِ الْقُدُورُ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ، فَلَا تَطْعَمُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَقُلْنَا إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".

الخمر كانت مباحة على البراءة الأصلية، كانوا يشربونها، ولكنهم كانوا يأتون الصلاة وربما لغطوا وسبوا أنفسهم، ودعوا على أنفسهم وقرءوا شيئًا تلوا غير القرآن، وما زال عمر رضي الله عنه يقول: "اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا"، والله تعالى سمح لهم في البداية بشربها، ثم قال: لهم لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً﴾ [النساء: 43]، فكان يعضهم يتجوز، ثم قال في النهاية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ(91)﴾ [المائدة:90-91]، فما كان منهم إلا أن قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فأكفئوا، وأهرقوا كل ما كان معهم من الخمور حتى تدفقت أزقة المدينة بالخمور، كل هذا سمعًا وطاعة لله تعالى، ثم لرسوله صلى الله عليه وسلم.

حتى جاء رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله إن لي خمرًا لأيتام أفأبتاعها وأعطيهم ثمنها؟ قال: "لا، إن الله إذا حرم شيئًا حرّم ثمنه"، فأهرقها ورماها؛ امتثالاً وسمعًا وطاعة، وهذا هو مقتضى التشريع عمومًا، نعم تدرج، نعم يسر وسهولة، نعم فالله تعالى لم يكلف أحدًا فوق طاقته ومقدوره، ولو أن إنسانًا في هذا الآونة شق عليه أمر لوجد البدائل الكثيرة، من فضل الله عز وجل فمن لم يستطع الصوم انتقل إلى الإطعام، ومن عجز عن الوضوء تيمم، ومن لم يستطع أن يحج رفعه الله عنه، أو حج عنه شخص آخر.

فهل يمكن للناس أن يكتفوا بكتاب الله تعالى؟! كلا والله لا يمكن لأحد أن يكتفي بكتاب الله تعالى إطلاقًا، وإلا فهنالك محرمات كثيرة باتفاق أهل الإسلام: لحوم الحمر ولحوم الحيوانات المفترسة، والصقور الكلاب، الهرر، وكذلك لبس الحرير للرجال والذهب للرجال، وجمع الرجل بين المرأة وخالتها والمرأة وعمتها محرم باتفاق المسلمين، لو سألت عاميًّا فقلت له: هل يجوز لك أن يكون تحتك في عقد واحد المرأة وخالتها، أو المرأة وعمتها؟ لقال لك: هذا حرام أن يجمع الرجل بين المرأة وخالتها والمرأة عمتها .

فالتشريع يجب أن يكون على هذا المنوال، ويجب على المسلم أن يكون عنده جدية في التدين والتمسك بدين الله عز وجل، وأن يكون عنده استقامة قوية ترضي الله عنه وترضي رسوله صلى الله عليه وسلم .

أيها الإخوة: لقد كانوا رضوان الله كانوا في غاية من الجدية في أخذهم لدينهم، والله تعالى يقول ﴿يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ﴾ [مريم: 12]، بقوة أي بجدية، إن تديننا في الآونة الأخيرة صار مجرد روتين مجرد عادة، ولذلك تجد أن كثيرًا من الناس لم يستفد من صلاته ولم يستفد من صومه، ولم يزد إيمانه بالأعمال الصالحة؛ لأنه أخذها مأخذها العادة، ولم يأخذه مأخذ التدين، ما كان الصحابة يخافون من كلام المشركين، ولم يكونوا يعيرون اتهاماتهم أي اهتمام أبدًا، فهذا بلال رضي الله عنه ذلك العبد الحبشي الذي فتح الله قلبه وملاه إيمانًا في وقت يعاني فيه المسلمون من قلة، ويعاني فيه المسلمون من اضطهاد من المشركين، كان يفتنه كفار قريش، فما زادته تلك الفتنة إلا إيمانًا يعذّب ومع هذا يقول: أحدٌ أحد.

حبيب يحرق بالنار ومع هذا يأبى أن يرتد عن دينه وإيمانه.

مصعب بن عمير يسجن بجوع ومع هذا لا يزيده ذلك إلا إيمانًا .

أم سعد تقول لابنها: إن دينكم يأمر ببر الوالدين، وإني آمرك أن تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به فيقول: "والله لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفساً ما رجعت عن دين الله تبارك وتعالى".

والبر شيء والكفر بدين الله شيء آخر، وهنالك قائمة طويلة من هؤلاء الرجال .

وكذلك أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يرسل أخاه ليسأل عن حقيقة النبي عليه الصلاة والسلام ويتأكد فيأتيه بالأخبار ولم يشف صدره، فيرتحل بنفسه للبحث والنظر حتى إذا تيقن من صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعلنها مدوية، وشهد الشهادتين وخرج إلى جوار الكعبة فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتألب عليه القوم فيضربونه حتى يغمى عليه، ومع هذا لم يرتد عن دين الله، وسافر إلى بلده داعيًا إلى الله تعالى فأسلمت قبيلته وكان سببًا في هداية قومه .

إننا أيها الإخوة: في هذه الآونة المتأخرة نلمس من أنفسنا ضعفًا في التدين والالتزام، إننا نخاف نظرات الناس فضلاً عن كلامهم، ومن قوي إيمانه ترك نظرات الناس، واهتم بكلامهم سيقول الناس عني كذا، وإذا قوي إيمانه خاف من التهديد، كيف لو كان حالنا كحال أولئك الناس، أظن أنه لن يبقى إلا من وفقه الله تعالى، كيف لو عذبنا لو سجنا كيف لو ضربت ظهورنا وأُخذت أموالنا، كيف ستكون الأمة اليوم ترتعد فرائصها من تهديدات الأعداء إذا تدينت وإذا التزمت، وإذا احتكمت إلى الشرع، فكيف لو أنها نعذب كيف لو أن الأعداء نفذوا هذه التهديدات كيف يكون حال الناس؟!

إن الاستقامة والجدية في التدين أمر مهم، وإن الترقي بالنفس من أهم المهمات، لا بد من مراقبة النفس، ولا بد من التدرج فيها، لا بد أن يكون كل يوم والنفس إلى الأمام إلى الترقي لا إلى التردي، يجب أن تكون النفس هكذا حتى يعود للأمة مجدها وقوتها بإذن الله تعالى.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.

وبعد: فإن الاستقامة بمفهومها الشامل العام تعني الامتثال لأمر الله تعالى ولامتثال لشرعه، وشرع الله أوامره ونواهيه، أوامر تصل إلى حد الوجوب، وأوامر تصل إلى حد الاستحباب، ونواهٍ تصل إلى حد التحريم، وأخرى إلى الكراهة، فالاستقامة تعني الالتزام بهذا الدين أن تدور مع الشرع حيث دار، أن يجدك الله حيث أمرك، وأن يفتقدك الله حيث نهاك، هذا هو مقتضى الاستقامة، ولذلك فإن تحقق الاستقامة 100% عزيز .

الاستقامة أمر الله بها الأنبياء فضلاً عن أتباعهم، فقال لموسى وهارون عليهما السلام: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [ يونس: 89]. وأمر بها النبي عليه الصلاة والسلام ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [ هود: 112].

والاستقامة كما أسلفت لا يمكن أن تكون عند الإنسان 100% هذا أمر عزيز، ولهذا فإن الله تعالى لما أمر بالاستقامة علم سبحانه ضعف النفس البشرية، فأمر بالاستغفار، فقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [ فصلت: 6].

لماذا أمر بالاستغفار بعد الأمر بالاستقامة؟ لأن الله سبحانه يعلم أن النفس البشرية لن تستقر على كل حال، وأنها لا بد أن تقصر؛ تقصر في صلاتها وصومها وطاعتها، تهفوا النظر، تهفوا اليد، تهفوا الرِّجل، يهفوا الفرج، يقع الإنسان في المعاصي، ولهذا قال: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [ فصلت: 6]، إن حصل منكم شيء من الزلل فاستغفروه، ولهذا لما أتي رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وطلب منه النصح، فقال: يا رسول الله مرني في الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحدًا بعدك. قال: "قل: آمنت بالله ثم استقم". قال: قلت: فما أتقي؟ فأومأ إلى لسانه.

وقال أيضًا من حديث آخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ".

والسداد إصابة الأمر، إصابة الهدف، والمقاربة أن تكون حواليه، مثل الرجل يرمي هدفًا فتارة يصيب وتارة يكون بجواره، يوشك أن يصيب، هذا هو المقصود أن تكون استقامتنا إما أن تصيب الهدف إما أن نكون قريبين من الهدف، وإن حصل الزلل فالاستغفار هو الذي يمحو السيئات كما قال صلى الله عليه وسلم عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".

إننا لا نعاني شيئًا من معاناتنا من هذا الأمر، من هشاشة التدين في الأمة، وهشاشة الاستقامة، وعدم الأخذ لهذا الدين بالجدية، هذا من أخطر الأدواء والأمراض التي كانت سببًا في تسليط الأعداء علينا، إننا غرقنا في الذنوب والمعاصي، ابتعدنا عن شرع الله عز وجل وعن دين الله سبحانه وتعالى لهذا أيها الأخوة: فإن الاستقامة والأخذ بهذا الدين بالجدية هو عبادة مستقلة يؤجر الإنسان عليها؛ لأن الله تعالى أمر بها فقال سبحانه: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [ فصلت: 6].

ولهذا فإن الله تعالى رتب على هذه الاستقامة أجرًا وثوابًا في الدنيا والآخرة ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [ فصلت: 30]، فالله تعالى وعد من استقام على أمره تعالى أنه يثبته في هذه الحياة قبل الممات تتنزل عليه الملائكة تقول له: لا تخاف على ما تركت من مال وولد، ولا تخاف على مستقبلك، فمستقبلك زاهر بإذن الله تعالى، فيبشرونه بالجنة والثواب والجزيل عند الله تعالى.

وإن مما يعين على هذه الاستقامة إدامة النظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإقامة الصلاة، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وكذا طلب العلم الشرعي يثبت الإنسان ويلزمه هذه الاستقامة الرفقة الصالحة، كذلك تعينك على الاستقامة كما قال الله عز وجل: ﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ(69)﴾ [الزخرف: 67-69].

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" إن الرفقة الصالحة من أهم المهمات في التثبيت، وفي لزوم الاستقامة، والأخذ بهذا الدين بجدية على كل حال، فإن الإنسان إذا أراد الاستقامة يستطيع أن يسلك طريقها بسؤال أهل العلم وبقراءة الكتب النافعة والتي تدل على الاستقامة.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

والحمد لله رب العالمين .