لا تغضب

عناصر الخطبة

  1. أسباب الغضب
  2. العُجب
  3. المراء
  4. كثرة المزاح
  5. بذاءة اللسان وفحشه
  6. أنواع الغضب
  7. الغضب المحمود
  8. الغضب المذموم
  9. الغضب المباح
  10. علاج الغضب
اقتباس

الغضب عدو العقل، وهو له كالذئب للشاة، قلَّما يتمكن منه إلا اغتاله، والغضب من الصفات التي ندر أن يسلم منه أحد، بل تركه بالكلية صفة نقص لا كمال، والغضب ينسي الحرمات، ويدفن الحسنات، ويخلق للبريء جنايات ..

إن الحمد لله… 

أما بعد:

أيها المسلمون: الغضب عدو العقل، وهو له كالذئب للشاة، قلَّما يتمكن منه إلا اغتاله، والغضب من الصفات التي ندر أن يسلم منه أحد، بل تركه بالكلية صفة نقص لا كمال، والغضب ينسي الحرمات، ويدفن الحسنات، ويخلق للبريء جنايات، وقد قيل:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا

كما قيل:

وعين البغض تبرز كل عيب *** وعين الحب لا تجد العيوبا

أيها المسلمون: للغضب أسباب كثيرة جدًّا، والناس متفاوتون فيها، فمنهم مَن يَغضب لأمر تافه لا يُغضِب غيره، وهكذا، فمِن أسباب الغضب:

أولاً: العُجْب: فالعُجْب بالرأي والمكانة والنسب والمال سبب للعداوة، فالعُجب قرين الكِبْر وملازم له. والكِبْر من كبائر الذنوب، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة مَن في قلبه مثقال ذرة من كِبر".

ثانيًا: المِراء: قال عبد الله بن الحسين: المراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلاً يأتيك بالغضب. وللمِراء آفات كثيرة منها: الغضب؛ ولهذا فقد نهى الشارع عنه؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا".

ثالثًا: من أسباب الغضب المِزاح: إن المزاح بدؤه حلاوة لكنما آخره عداوة، يحتد منه الرجل الشريف، ويجتري بسخفه السخيف، فتجد بعض المكثرين من المزاح يتجاوز الحد المشروع منه: إما بكلام لا فائدة منه، أو بفعل مؤذٍ قد ينتج عنه ضرر بالغ، ثم يزعم بعد ذلك أنه كان يمزح؛ لذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه جادًا ولا لاعبًا".

قال الشاعر:

مازح صديقك ما أحب مزاحا *** وتوقَّ منه في المزاح مزاحًا فلربما مزح الصديق بمزحة *** كانت لباب عداوة مفتاحًا

ذكر خالد بن صفوان المزاح فقال: يَصُكُّ أحدكم صاحبه بأشد من الجندل، ويُنشقه أحرق من الخردل، ويُفرغ عليه أحرَّ من المرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحك! وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-: إياك والمزاح؛ فإنه يجر القبيح ويورث الضغينة. وقال ميمون بن مهران -رحمه الله تعالى-: إذا كان المزاح أمام الكلام كان آخره اللطم والشتام.

رابعًا: بذاءة اللسان وفحشه: بشتم أو سب أو تعيير، ما يوغل الصدور، ويثير الغضب، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يبغض الفاحش البذيء".

أيها المسلمون: الغضب أنواع:

الأول: الغضب المحمود: وهو ما كان لله تعالى عندما تنتهك محارمه، وهذا النوع ثمرة من ثمرات الإيمان؛ إذ إن الذي لا يغضب في هذا المحل ضعيف الإيمان؛ قال الله تعالى عن موسى -عليه السلام- بعد عِلمه باتخاذ قومه العجل: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾ [الأعراف: 150].

أما غضب النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يُعرف إلا أن تنتهك محارم الله تعالى؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهَك شيء من محارم الله فينتقم لله -عز وجل-. ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: "بهذا أمرتم؟! أو لهذا خلقتم؟! تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم". فقال عبد الله بن عمرو: "ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه".

وما أكثر ما تنتهك محارم الله تعالى في هذا الزمان علنًا وسرًّا، فكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لا همَّ لها سوى نشر الرذيلة، ومحاربة الفضيلة، وإشاعة الفاحشة، وبث الشبهات، وتزيين المنكر، وإنكار المعروف، والاستهزاء بالدين وشعائره، فهذا كله مما يوجب الغضب لله تعالى وهو من الغضب المحمود، وعلامة على قوة الإيمان، وهو ثمرة لحفظ الأوطان، وسلامة الأبدان، وتظهر ثمرة الغضب هنا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرد على الشبهات، أما السكوت المطبق مع القدرة على التغيير فسبب للهلاك؛ فعن زينب بنت جحش -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استيقظ من نومه وهو يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب! فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه". وحلَّق بأصبعه وبالتي تليها. قلت: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: "نعم! إذا كثر الخبث".

وكذلك من الغضب المحمود: الغضب لما يحدث للمسلمين من سفك للدماء، وانتهاك للأعراض، واستباحة للأموال، وتدمير للبلدان بلا حق، وفي مقدمة ذلك هذه الأيام ما يحصل للمسلمين في فلسطين على أيدي اليهود الغاصبين، وما يحصل للسنة في العراق على أيدي التعاون المشترك بين الصليبيين والصفويين العلاقمة، فإنه أمر أصبح مكشوفًا لكل أحد، بل تصريحاتهم الجريئة المعلنة تثبت ذلك. والله المستعان. ولاشك أن غضب المسلم لهذا لأمر من الغضب المحمود، بل من الغضب الواجب نصرة لإخوانه المستضعفين هناك:

من قال إن العار يمحوه الغضـب *** وأمامنا عرض الصبايا يغتصب صور الصبايا العاريات تفجـرت *** بين العيون نزيف دم من لهب عار على التاريخ كيـف تخونـه *** همم الرجال ويستباح لمن سلب عار على الأوطان كيف يسودها *** خزي الرجال وبطش جلادٍ كذب الخيل ماتت‏‏ والذئاب توحشـت *** تيجاننا عار‏ وسيف من خشب العار أن يقع الرجال فريسـة *** للعجز‏ من خان الشعوب‏‏ ومن نهب لا تسألوا الأيام عن ماضٍ ذهب *** فالأمس ولى‏ والبقاء لمن غلـب ما عاد يجدي أن نقـول بأننـا‏‏ *** أهل المروءة‏‏ والشهامة‏‏ والحسب ولتنظروا ماذا يـراد لأرضنـا *** صارت كغانية تضاجع من رغب حتى رعاع الأرض فوق ترابنـا *** والكل في صمت تواطأ‏‏ أو شجب الناس تسأل‏‏: أين كهان العرب‏ *** ماتوا‏‏ تلاشوا‏‏ لا نري غير العجب ولتركعوا خزيًا أمام نسائكـم *** لا تسألوا الأطفال عن نسب‏‏ وأب هذا هو التاريخ‏ شعب جائـع *** وفحيح عاهرة‏‏ وقصر من ذهب ما بين خنزير يضاجع قدسنـا *** ومغامر يحصي غنائم ما سلـب يهود تقتحم الخليل ورأسهـا *** تلقي على بغداد سيلاً من لهـب ويطل هولاكو على أطلالهـا *** ينعي المساجد‏‏ والمآذن‏‏ والكتـب كبر المزاد‏‏ وفي المزاد قوافـل *** للرقص حينًا‏‏ للبغايـا‏‏ للطـرب ينهار تاريخ‏‏ وتسقـط أمـة *** وبكل قافلـة عميـل‏‏ أو ذنـب جاؤوا إلى بغداد‏‏ قالوا أجدبت *** أشجارها شاخت‏ ومات بها العنب قد زيفوا تاجًا رخيصًا مبهـرًا *** حرية الإنسان‏‏ أغلـى ما أحـب خرجت ثعابين‏‏ وفاحت جيفة *** عهر قديم في الحضـارة يحتجـب وأفاقت الدنيا على وجه الردى *** ونهاية الحلم المضـيء المرتقـب صلبوا الحضارة فوق نعش شذوذهم *** يا ليت شيئًا غير هذا قد صلب هي خدعة سقطت‏‏ وفي أشلائها *** سرقت سنين العمر زهوًا‏ أو صخب بغداد تسأل‏‏ والذئاب تحيطهـا *** من كل فج‏‏ أين كهـان العـرب وهناك طفل في ثراها ساجد *** مازال يسأل كيف مات بلا سبب فوق الفرات يطل فجر قـادم *** وأمام دجلة طيف حلم يقتـرب وعلى المشارف سرب نخل صامد *** يروي الحكاية من تَأَمْرَكَ‏‏ أو هرب هذي البلاد بلادنا مهما نـأت *** وتغربت فينا دمـاء‏‏ أو نسـب هذي الذئاب تبول فوق ترابنـا *** ونخيلنا المقهور في حزن صلـب موتوا فداء الأرض إن نخيلهـا *** فوق الشواطئ كالأرامل ينتحـب ولتجعلوا سعف النخيل قنابـلاً *** وثمارها الثكلى عناقيد اللهـب فغدًا سيهدأ كل شيء بعدمـا *** يروي لنا التاريخ قصة ما كتـب ما عاد يكفي أن تثور شعوبنا *** غضبًا‏‏ فلن يجدي مع العجز الغضب لن ترجع الأيام تاريخًا ذهـب *** ومن المهانة أن نقاتل بالخطـب هذي خنادقنا‏‏ وتلك خيولنـا *** عودوا إليها فالأمـان لمن غلـب ما عـاد يكفينـا الغضـب *** مـا عـاد يكفينـا الغضـب

الثاني: الغضب المذموم: وهو ما كان في سبيل الباطل والشيطان، كالحميَّة الجاهلية، والغضب بسبب تطبيق الأحكام الشرعية وانتشار حِلَق تحفيظ القرآن الكريم، ومعاداة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بسبب محاربتهم للرذيلة، وكذا الدفاع عن المنكرات كالتبرج والسفور، وسفر المرأة بلا محرم، ويظهر ذلك جليًّا في كتابة بعض كُتَّاب الصحف، فتجد أحدهم يغضب بسبب ذلك ولا همَّ له سوى مسايرة العصر، سواء وافق الشرع المطهر أم خالفه؛ فالحق عندهم ما وافق هواهم، والباطل ما حدَّ من مبتغاهم؛ قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين (47) وَإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُون (48) وَإن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِين (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون (50) إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون(52)﴾ [النور: 46-52].

الثالث: الغضب المباح: وهو الغضب في غير معصية الله تعالى دون أن يتجاوز حدَّه، كأن يجهل عليه أحد، وكظمه هنا خير وأبقى، قال الله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾ [آل عمران: 134]. ومما يُذكر هنا أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء، فتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله -عز وجل- يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظ﴾، فقال لها: قد كظمت غيظي. قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس﴾، فقال لها: قد عفا الله عنك. قالت: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾، قال: اذهبي فأنت حرة.

وقال نوح بن حبيب: كنت عند ابن المبارك فألحوا عليه، فقال: هاتوا كتبكم حتى أقرأ. فجعلوا يرمون إليه الكتب من قريب ومن بعيد، وكان رجل من أهل الري يسمع كتاب الاستئذان، فرمى بكتابه فأصاب صلعةَ ابن المبارك حرفُ كتابه فانشق، وسال الدم، فجعل ابن المبارك يعالج الدم حتى سكن، ثم قال: سبحان الله! كاد أن يكون قتال، ثم بدأ بكتاب الرجل فقرأه.

أيها المسلمون: يحتاج المسلم أن يعالج الغضب في نفسه، وما أنزل الله داءً إلا وأنزل له شفاءً، فمن الأدوية الشرعية لعلاج داء الغضب:

أولاً: الاستعاذة بالله من الشيطان: قال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم﴾ [فصلت: 36].

عن سليمان بن صرد -رضي الله عنه- قال: كنت جالسًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ورجلان يستبان، فأحدهما احمرَّ وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان، ذهب عنه ما يجد"، فقالوا له: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعوَّذْ بالله من الشيطان"، فقال: وهل بي جنون؟! قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وأما الغضب فهو غول العقل يغتاله كما يغتال الذئب الشاة، وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته.

ثانيًا: تغيير الحال: عن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع".

ثالثًا: ترك المخاصمة والسكوت: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى-: ومن الأمور النافعة أن تعلم أن أذية الناس لك -وخصوصًا في الأقوال السيئة- لا تضرك، بل تضرهم، إلا إن أشغلت نفسك في الاهتمام بها، وسوّغت لها أن تملك مشاعرك، فعند ذلك تضرك كما ضرتهم، فإن أنت لم تصنع لها بالاً، لم تضرك شيئًا.

يخاطبني السفيه بكل قبح *** فأكره أن أكون له مجيبًا يزيد سفاهة وأزيد حلمًا *** كعود زاده الإحراق طيبًا

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "علِّموا وبشِّروا ولا تعسروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت".

إذا نطق السفيه فلا تجبـه *** فخيرٌ من إجابتـه السكـوتُ سكتُّ عن السفيه فظن أني *** عييتُ عن الجواب وما عييتُ شرار الناس لو كانوا جميعًا *** قذى في جوف عيني ما قذيتُ فلستُ مجاوبًا أبدًا سفيهـاً *** خزيتُ لمن يجافيـه خزيـتُ

رابعًا: الوضوء: عن عطية السعدي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تُطْفَأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ".

خامسًا: استحضار الأجر العظيم لكظم الغيظ: فمن استحضر الثواب الكبير الذي أعده الله تعالى لمن كتم غيظه وغضبه كان سببًا في ترك الغضب والانتقام للذات. وبتتبع بعض الأدلة من الكتاب والسنة نجد جملة من الفضائل لمن ترك الغضب، منها:

– الظفر بمحبة الله تعالى والفوز بما عنده: قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾ [آل عمران: 134]، ومرتبة الإحسان هي أعلى مراتب الدين؛ قال تعالى: ﴿فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهمْ يَتَوَكَّلونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون(37)﴾ [الشورى: 36، 37].

– وأيضًا ترك الغضب سبب لدخول الجنة: عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-، قال: قلت: يا رسول الله: دلني على عمل يدخلني الجنة. قال: "لا تغضب! ولك الجنة".

– وأيضًا المباهاة به على رؤوس الخلائق: عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن كظم غيظًا وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيِّره في أي الحور شاء".

– وأيضًا من فضائل ترك الغضب: النجاة من غضب الله تعالى: عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قلت: يا رسول الله! ما يمنعني من غضب الله قال: "لا تغضب"؛ فالجزاء من جنس العمل، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله تعالى خيرًا منه.

وقال أبو مسعود البدري -رضي الله عنه-: كنت أضرب غلامًا لي بالسوط، فسمعت صوتًا من خلفي: "اعلم أبا مسعود!"، فلم أفهم الصوت من الغضب. قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا هو يقول: "اعلم أبا مسعود! اعلم أبا مسعود!"، قال: فألقيت السوط من يدي. فقال: "اعلم أبا مسعود! أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام". قال: فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا.

– ومن الفضائل أيضًا: زيادة الإيمان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وما من جرعة أحب إليَّ من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانًا".

– ومن أعظم فضائل ترك الغضب: العمل بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أوصني! قال: "لا تغضب!"، فردد مرارًا، قال: "لا تغضب!".

وهنيئًا لمن امتثل هذه الوصية وعمل بها، ولا شك أنها وصية جامعة مانعة لجميع المسلمين؛ قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى-: "هذا الرجل ظن أنها وصية بأمر جزئي، وهو يريد أن يوصيه النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلام كلي، ولهذا ردد، فلما أعاد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- عرف أن هذا كلام جامع، وهو كذلك؛ فإن قوله: "لا تغضب" يتضمن أمرين عظيمين: أحدهما: الأمر بفعل الأسباب والتمرن على حسن الخلق والحلم والصبر، وتوطين النفس على ما يصيب الإنسان من الخَلْق، من الأذى القولي والفعلي، فإذا وفق لها العبد، وورد عليه وارد الغضب، احتمله بحسن خلقه، وتلقَّاه بحلمه وصبره، ومعرفته بحسن عواقبه، فإن الأمر بالشيء أمر به، وبما لا يتم إلا به، والنهي عن الشيء أمر بضده، وأمر بفعل الأسباب التي تعين العبد على اجتناب المنهي عنه، وهذا منه. الثاني: الأمر بعد الغضب أن لا ينفذ غضبه: فإن الغضب غالبًا لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده، ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه. فعليه إذا غضب أن يمنع نفسه من الأقوال والأفعال المحرمة التي يقتضيها الغضب، فمتى منع نفسه من فعل آثار الغضب الضارة، فكأنه في الحقيقة لم يغضب. وبهذا يكون العبد كامل القوة العقلية، والقوة القلبية". اهـ.

نفعني الله وإياكم بهدي…

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه…

أما بعد:

أيها المسلمون: قال الشاعر:

ولم أرَ في الأعداء حين اختبرتهم *** عدوًّا لعقل المرء أعدى من الغضب

كثيرًا ما نسمع أن والدًا قتل ولده، أو ولدًا قتل والده، فضلاً عن غيرهم بسبب الغضب، وكم ضاع من خير وأجر وفضل بسبب الغضب، وكم حلت من مصيبة ودمار وهلاك بسبب الغضب، وبسبب ساعة غضب قطعت الأرحام، ووقع الطلاق، وتهاجر الجيران، وتعادى الإخوان؛ عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: إني لقاعد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة، فقال: يا رسول الله: هذا قتل أخي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أقتلته؟"، فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة. قال: نعم قتلته! قال: "كيف قتلته؟"، قال: كنت أنا وهو نحتطب من شجرة، فسبني فأغضبني، فضربته بالفأس على قرنه فقتلته.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح، أَوْثِقْ غضبك بسلسلة الحلم، فإنه كلب إن أُفلت أَتلف.

فكثير الغضب تجده مصابًا بأمراض كثيرة كالسكري والضغط والقولون العصبي وغيرها مما يعرفها أهل الاختصاص، كما أنه بسببه تصدر من الغاضب تصرفات قولية أو فعلية يندم عليها بعد ذهاب الغضب.

ولو استحضر كل واحد منا قبل أن يُنفذ غضبه الحاضر ثمرةَ غضبٍ سابقٍ ندم عليه بعد إنفاذه لما أقدم على ما تمليه عليه نفسه الأمارة بالسوء مرة ثانية، فمنع الغضب أسهل من إصلاح ما يفسده.

أيها المسلمون: إليكم بعض الصور من هدي السلف عند الغضب:

– سب رجلٌ ابنَ عباس -رضي الله عنهما-، فلما فرغ قال: يا عكرمُ: هل للرجل حاجة فنقضيها؟! فنكس الرجل رأسه واستحيى.

– وقال أبو ذر -رضي الله عنه- لغلامه: لِمَ أرسلتَ الشاةَ على علف الفرس؟! قال: أردت أن أغيظك. قال: لأجمعن مع الغيظ أجرًا، أنت حر لوجه الله تعالى.

– وأسمعَ رجلٌ أبا الدرداء -رضي الله عنه- كلامًا، فقال: يا هذا: لا تغرقن في سبنا، ودع للصلح موضعًا، فإنَّا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.

وقال الأحنف بن قيس -رحمه الله تعالى- لابنه: يا بنيَّ: إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه؛ فإن أنصفك وإلا فاحذره.

وأختم بما رواه عطاء بن السائب عن أبيه قال: صلى بنا عمار بن ياسر -رضي الله عنه- صلاة فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خففت أو أوجزت الصلاة، فقال: أما على ذلك، فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فلما قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعاء، ثم جاء فأخبر به القوم: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمتَ الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمتَ الوفاة خيرًا لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين".

اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمتَ الحياة خيرًا لنا، وتوفنا إذا علمتَ الوفاة خيرًا لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيمًا لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضاء بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين…