التحذير من الإسراف والتبذير

عناصر الخطبة

  1. شكر النعم سببٌ لبقائها
  2. إحصاءات مرعبة عن الإسراف والتبذير
  3. ذم الإسراف والتبذير
  4. صور مذمومة من الإسراف والتبذير في المجتمع
  5. الحث على شكر النعم والاقتصاد في المعيشة.
اقتباس

ليس بيننا وبين الله نسبٌ، وإنما عبودية واستقامة وطاعة، أفلا نخشى أن تتحول حالنا بسبب سوء تصرفات شياطين المسرفين في النعم، فهؤلاء يغسلون أيديهم بالطيب ودهن العود، وذاك يتصنع ذبح ولده وإنهار دمه ضيافة كما يزعم، وفئة ليست بالقليل تتباهى بعدد الذبائح من الإبل والغنم وطريقة عرضها وتقديمها، وأطنان من الأرز تُرمَى بالصحاري كفائض للولائم والمناسبات، ومسابقاتٍ لأنواع الأطعمة كأكبر طبق ليدخل موسوعة جينس تكلفًا مذمومًا، وتنافسًا محمومًا ليقال ويُشهر ويُبث.

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم  وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 أمَّا بعد: عباد الله! أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله -عز وجل-، فالسعيد من راقب الله  -سبحانه وتعالى-  وأحسن تعامله مع ربه  -عز وجل-، واتبع هدي نبيه  -صلى الله عليه وسلم-، فسلامةُ المنهج في اتباع هدي القرآن والسنة.

 ثم اعلموا -رحمكم الله- أن الله قد تفضل عليكم وأنعم عليكم بنعم ظاهرة وباطنة، وكما أمر بالبذل والعطاء، والجود والكرم، وأن نتذكر إخوة لنا في الإسلام في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي لا يجدون كسرة الخبز ولا شربة الماء إلا بالجهد الجهيد.

 ومنهم محاصرون في قراهم ومدنهم التي حولت إلى سجن كبير؛ من شهور، يتضورون جوعًا، ويموت العشرات منهم يوميًّا بسبب الجوع وقلة الطعام، أمرنا ديننا بتذكرهم وإطعامهم وعدم نسيانهم، وفي الوقت نفسه نهانا ديننا عن الإسراف والتبذير، بل ذكر أن المسرفين إخوان للشياطين، وتوعدهم بقوله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم:7].

فالله لا يحب المسرفين، فالسرف سفه في العقل، وخلل في التفكير والتقدير، وكفران للنعمة، ومؤذن بزوالها، فمن ذا الذي يسمح لنفسه بعد كل هذا بالإسراف والتبذير؟! 

سبحان الله! من ذا الذي يُفكر مجرد تفكير بالإسراف وهو يرى ويسمع كل لحظة الحال المأساوية من الجوع الذي يضرب أطنابه هنا وهناك، نشاهد كيف فتك بأنيابه العجزة والضعفاء، والصغار والنساء، أوجاع وآلام تجعلنا نبكي الدم قبل الدمع؛ طفل يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو في حضن أمه بسبب نضوب حليبها، لأنها لم تذق طعامًا ولم تر الخبز من شهور، ليس بيدها حيلة، عضها الجوع فالتصقت الجلود بالعظام، هياكل عظمية لا تتحمل عيون العقلاء مجرد النظر إليها.

 فكيف لو شعرت بشعورها، كيف لو كانت مكانها، هل تصورت حال هذه الأم، أليست أختك في الإسلام، هب أنها زوجتك أو بنتك أو إحدى قريباتك كيف يكون حالك وجزعك وألمك؟!

ما عساك تقول ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) تؤكد أن عدد الجياع في العالم سيصل إلى رقم قياسي مقداره يزيد عن مليار نسمة! فمن ذا الذي يجرأ والحال هذه على الإسراف لمجرد التفاخر والتباهي؟! حقًّا المسرفون إخوان الشياطين! فعلاً يستحق المسرف أن يُذكر اسمه مع اسم الشيطان الرجيم، فضلاً عن أن يُعذب ويُطرد من رحمة رب العالمين لكفرانه النعم!

والعاقل الشهم من يأبى الرذائل بل *** يختار من كل شيء أطيب الخبر

بالعقل تدرك غايات الكمال كما *** به تميز بين النفع والضرر

أيها المؤمنون: ليس بيننا وبين الله نسبٌ، وإنما عبودية واستقامة وطاعة، أفلا نخشى أن تتحول حالنا بسبب سوء تصرفات شياطين المسرفين في النعم، فهؤلاء يغسلون أيديهم بالطيب ودهن العود، وذاك يتصنع ذبح ولده وإنهار دمه ضيافة كما يزعم، وفئة ليست بالقليل تتباهى بعدد الذبائح من الإبل والغنم وطريقة عرضها وتقديمها، وأطنان من الأرز تُرمَى بالصحاري كفائض للولائم والمناسبات، ومسابقاتٍ لأنواع الأطعمة كأكبر طبق ليدخل موسوعة جينس تكلفًا مذمومًا، وتنافسًا محمومًا ليقال ويُشهر ويُبث.

 هل تصدقون أن الأرقام والإحصائيات تذكر أن الفاقد والهدر الغذائي يبلغ 250 كيلو للفرد الواحد سنويًّا، يُهدر معظمها في المناطق الحضرية! وتؤكد أن نسبة الهدر الغذائي في المملكة بلغت 30%، مقابل هدر عالمي بمليار طن!

كما طالبت شركة الكهرباء السعودية باتخاذ عدة إجراءات فعلية للحدِّ من الهدر في استهلاك الكهرباء للجهات الحكومية الذي بلغ قرابة الثلاثة بلايين ريال! وعليك أن تتصور بأن العالم يهدر 30% من الغذاء! وأن هذه الكمية تكفي لـ800 مليون جائع, والـ30% من الهدر يساوي (1.3مليار) أكثر من مليار طن من الغذاء يهدر سنويًّا. 

أيها المؤمنون: أرقام وإحصاءات، وشواهد وصور ميدانية، لا يملك معها المسلم العاقل إلا أن يُراجع نفسه وتصرفاته، وصدق حبيبنا وقدوتنا -صلى الله عليه وسلم- : «فَوَاللَّهِ لاَ الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» (رواه البخاري).

 فإن لم يُؤخذ على أيدي هؤلاء السفهاء، ويعم الإنكار المجتمعي على مثل هذه التصرفات الرعناء، فإننا والله نخشى الوعيد، وانقلاب الحال مما بدأت علاماته من ارتفاع الأسعار ونزول قيمة النفط، وتراجع الميزانيات وغير ذلك من النذر التي تقرع أجراس الخطر لعلها توقظ الغافلين واللاهين، وتهز الغيورين والناصحين.

فهذه النعمة التي نعيش فيها -ولله الحمد والمنة- إن لم نقم بشكرها حقًّا، والحفاظ عليها فإنها توشك أن تزول، وإن من شكر النعمة عدم الإسراف فيها، والأخذ على أيدي العابثين من السفهاء المسرفين إخوان الشياطين، فقد تعدد النهي عن "التبذير والإسراف" في الكتاب والسنة، وأكدت النصوص على التوسط والاعتدال في كل شيء في تعبير قرآني بليغ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67].

وثناء الحق  -سبحانه وتعالى-  على هؤلاء الخلق لنعم التحفيز للعقلاء بأن يبذلوا قصارى جهدهم في تحصيل لك الثناء الرباني، بل أرشدنا للقاعدة المثلى في النفقة فقال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29].

 بل اسمع للتوجيه الرائع يوم قال: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: 26]، ثم بعده التحذير مباشرة: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 27].

 تدبر قوله  -سبحانه وتعالى- : ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: 141]، يوم حصاد الزروع، يوم يكثر فيه الخير كثرة واضحة قد تُغْرِي بعض السفهاء بالتبذير والإسراف.

 فاحذر أن يحملك كثرة الحصاد على الإسراف والتبذير؛ بل تذكر ما جعله الله فيه من حق الفقير، والمسكين، وابن السبيل. وفي نقلة أخرى في سورة الأعراف يقول الحق -عز وجل-: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].

 إنه الإسراف صفة الجبابرة المتكبرين ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ [يونس: 83]. نعوذ بالله من حال هؤلاء فمصيرهم الهلاك لا محالة كما قال الحق: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾[الأنبياء: 9].

فيا أيها الخائفون من الهلاك! إياكم والإسراف!فقد أكد -سبحانه وتعالى- أن النار مصير المسرفين، فقال: ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر:43]، بل حذر -سبحانه وتعالى- من طاعة المسرفين،ووصفهم بالإفساد في الأرض. فقال: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ(152)﴾ [الشعراء: 151 – 152].

إخوة الإيمان: "لقد كان النَّبِيَّ  -صلى الله عليه وسلم-  يَتَوَضَّأُ بِالمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ" (حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجه). يفعل ذلك مع ترغيبه الشديد  -صلى الله عليه وسلم-  في إسباغ الوضوء.

 لكن الإسباغ لا يجوز أن يحمل صاحبه على الإسراف في الماء! فالماء من أشد الأمور المشاع بين الناس في الانتفاع، ومثله الكهرباء، فالإسراف في الممتلكات العامة أشد خطرًا من الإسراف في الممتلكات الخاصة، فضرره يتعدى إلى الغير؛ وفيه إثم الخيانة، وإثم الظلم للآخرين ممن يحتاجون لهذه المنافع، لقد كان -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ، وَقَالَ: "إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الْأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ"، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ، قَالَ: "فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ" (رواه مسلم: 2034).

هكذا شكر النعم يلعق يده، ويلعق الصحفة؛ فقارنوا رحمكم الله بين هذه التوجيهات النبوية، وبين الواقع الذي يجري اليوم بين الناس، ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]، فالإسراف زوال للنعمة ويفسد الدنيا قبل الآخرة، كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-؛ قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللهِ  -صلى الله عليه وسلم-  عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ؛ فَقَالَ: "إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي، مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا"إلى أن قال: "وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ لِمَنْ أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ، وَالْيَتِيمَ، وَابْنَ السَّبِيلَ- أَوْ كَمَا قَالَ -صلى الله عليه وسلم- وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (رواه البخاري ومسلم).

فاللهم ارحمنا ولا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا، اللهم أعنا على شكر نعمك على الوجه الذي يرضيك عنا، وبارك لنا فيما رزقتنا.

اللهم اجعلنا ممن ينفقون قصدًا، ويحكمون عدلاً، ويقولون فصلاً، ويخلصون عملاً آمين. أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ فاستغفروهُ؛ إنه الغفور الرحيم.