من أسباب الانحراف (2) حسن الظن بالنفس

عناصر الخطبة

  1. الدنيا دار ممر لا دار مقر
  2. كثرة الأعداء والأخطار
  3. خطر حسن الظن بالنّفس
  4. أسباب حسن الظن بالنّفس
  5. بعض الوسائل المعينة على التخلص من حسن الظن بالنفس
اقتباس

من أعظم أسلحة الشّيطان الرّجيم: حسن الظّنّ بالنّفس، فإذا أوقعه الشّيطان في ذلك أورده المهالك”؛ لأنّ حسن الظنّ بالنّفس يجعلك تقع في مصيبتين: الأولى: الغفلة عن عيوبها، فترى المساوئ محاسن، وترى السّيئات قربات، وترى العيوب كمالا، والذّنوب جمالا.

الخطبة الأولى:

بعد الحمد والثّناء.

أمّا بعد:

فإنّ من الأمور التي يوافقك عليها جميع المؤمنين، ولا يخالفك فيها أحد من المسلمين: أنّ هذه الدّنيا إنّما هي جسر يعبره العابرون، وقنطرة يجتازها المارّون، وسمع الجميع قول الحبيب الشّفيع -صلّى الله عليه وسلّم-: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ"، "كن كأنّك غريب" ولكنّ الغريب قد يتّخذ مسكناً وينوي إقامةً، فاستدرك صلّى الله عليه وسلّم قائلا: "أو عابِرُ سَبِيلٍ" أي بل عابرُ سبيل.

وكان النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يذكّر أصحابه كلّ جمعة بهذا السّفر من دار العدم إلى دار الشّقاء اللاّزم، إلى دار الخلود الدّائم، فكان يقرأ على أصحابه صبيحة كلّ جمعة سورتين تشتملان بداية الخلق ونهايتَه: كان يقرأ بسورة الدّهر سورة الإنسان، وسورة السّجدة.

أمّا سورة الدّهر ففيها قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾ [الإنسان: 1] فتنتهي إلى وصف حال أهل الجنّة وحال أهل النّار: ﴿يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الإنسان: 31].

أمّا سورة السّجدة ففيها قوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ(9)﴾ [السجدة: 7 – 9] إلى أن قال: ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ(20)﴾ [السجدة: 19 – 20] إلى أن قال: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ﴾ [السجدة: 30]. الشّاهد: أنّهم في هذه الدّنيا في سفر دائم، لا يدري الواحد منّا متى يقال له: حطّ رحالك، وودّع أهلك ومالك، وأعرض علينا أعمالك! عندئذ ينتهي السّفر: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النّحل: 61].

هم إمّا إلى نعيم مقيم، أو جحيم أليم، كما قال العليّ الخبير: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشّورى: 7].

ولئن كان السّفر الذي نسافره هذه الأيّام قطعة من العذاب، فكيف بالسّفر لملاقاة العزيز الوهّاب؟

فالسّفر شاقّ وطويل، والزّاد ضئيل وقليل.

فيا قرّة عيون الأبرار بالنّظر إلى وجه الكريم في الدّار الآخرة، ويا ذلّة الرّاجعين بالصّفقة الخاسرة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ(25)﴾ [القيامة: 22 – 25].

فحـيّ على جنّات عـدن فإنّها *** منازلك الأولـى وفيها المخيّم

ولكنّنا سبي العدوّ فهـل تـرى *** نعـود إلى أوطـانـنا فنسلم

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة *** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

وما يزيد الهمّ همّا، ويُضيف إلى الغمّ غمّا، كثرة قطّاع الطّرق الّذين تصادفهم، وكثرة الأعداء الّذين تجاهدهم، وقد أصبح جلّ النّاس اليوم، إذا حذّرتهم من العدوّ، انصرف ذهنه إلى البيت الأسود الغربيّ، أو العدوّ الصّهيوني اليهوديّ، أو المنصّر الصّليبيّ، أو العلمانيّ الإرهابيّ، وكلّ هؤلاء لا ريب أنّهم من الأعداء الّذين ﴿لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التّوبة: 8]، ولكنّني أقصد أوّل أعدائك وهو نـفـسـك، نفسك الّتي بين جنباتك وتحملها في طيّاتك، لذلك كان موضوع هذه الخطبة: التّحذير من حسن الظنّ بالنّفس، وينحصر موضوعنا هذا في نقاط ثلاث مهمّات:

الأولى: في بيان خطر حسن الظنّ بالنّفس.

الثّانية: ما أسباب حسن الظنّ بالنّفس.

الثّالثة: كيف السّبيل إلى الحذر من هذا العيب الشّنيع.

النّقطة الأولى: في بيان خطر حسن الظنّ بالنّفس، فإنّ أَمْرَ هذه النّفس أمر عظيم، وخطرها خطر جسيم؛ لأنّها أفتك سلاح يستعمله ضدّك الشّيطان الرّجيم، ومتى كانت النّفس مشتاقة إلى المعاصي والشّهوات، تواقة إلى المجون والنّزوات، كانت من أعظم خطوات الشّيطان، وأكبر أسباب الخسران.

تلك الخطوات الّتي نهانا الله -عزّ وجلّ- عن اتّباعها، والوقوع في حبالها قائلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 21].

وكيف يحسن العبد الظنّ بنفسه وقد قال عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ﴾ [يوسف: 53]؟ فبدلا من أن يحذرها ويتّقي ملذّاتها، تجد ابن آدم اليوم يزكّيها ويبرّئها، ويثني عليها ويمدحها، وكأنّ نفسه لم تدخل في الخطاب.

وما أحسن تفسير الفضيل بن عياض لقوله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم﴾ [النساء: 29]، قال: "لا تغفلوا عنها فمن غفل عن نفسه فقد قتلها"، قال أهل العلم: "من أعظم أسلحة الشّيطان الرّجيم: حسن الظّنّ بالنّفس، فإذا أوقعه الشّيطان في ذلك أورده المهالك"؛ لأنّ حسن الظنّ بالنّفس يجعلك تقع في مصيبتين:

الأولى: الغفلة عن عيوبها، فترى المساوئ محاسن، وترى السّيئات قربات، وترى العيوب كمالا، والذّنوب جمالا.

وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة *** كما أنّ عين السّخط تُبدي المساويا

قال بعض الصّالحين: "متى رضيت عن نفسك فاعلم أنّ الله غير راض عنها"، وروى ابن أبي الدّنيا في محاسبة النّفس، عن أبي الدّرداء -رضي َالله عنه- أنّه قال: "لا يفقه الرّجل كلّ الفقه حتّى يمقت النّاس في جنب الله، ثمّ يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدّ مقتا"، وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك -رضي َالله عنه- قال: سمعت عمر بن الخطّاب -رَضي الله عنه- يوما وبيني وبينه جدار يقول: "عمر بن الخطّاب أمير المؤمنين؟! بخٍ! والله لتتّقينّ الله يا ابن الخطّاب أو ليُعذّبنّك"، وذكر ابن الجوزي في صفة الصّفوة: أنّ الأحنف بن قيس كان عند الانتهاء من الصّلاة والدّعاء يأتي بالمصباح، فيضع أصبعه فيه ثمّ يقول: يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا ؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ هذا الأحنف الذي قالوا فيه: ما رأينا أحدا أعظم سلطانا على نفسه منه. وهذا بكر بن عبد الله المزني -رحمه الله- يقول وهو في جمع يوم عرفة: "ما أحلى هذا الجمع لولا أنّي فيهم"، وقال غيره: "لولا أنّي معهم لقلت إنّه مغفور لهم"، وقال مطرّف بن عبد الله في وقفة عرفة: "اللهمّ لا تردّ هذا الجمع من أجلي"، وقال مالك بن دينار: "إذا ذكر الصّالحون فأفّ لي وتفّ".

المصيبة الثّانية النّاتجة عن حسن الظّن بالنّفس:

الاهتمام والانشغال بعيوب النّاس، وهذا ما منه مفرّ إذا كان العبد يحسن الظنّ بنفسه، فقد روى ابن حبّان بسند صحيح عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ القَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَنْسَى الجِذْعَ فِي عَيْنِهِ".

والله لو علموا قُبـح سريرتي *** لأبـى السّلام عليّ من يلقاني

ولأعرضوا عنّي وملّوا صحبتي *** ولبُؤْت بعد كـرامة بهـوان

لا تشغلنّ بعيب غيرك غافلا *** عن عيب نفسك إنّـه عيبان

كان أبو بكر الصدّيق يكثر من أن يقول: "اللهمّ اجعلني عندك من أحسن خلقك، وعند النّاس من أوسط خلقك، وعند نفسي من أحقر خلقك".

فبعد الاغترار بالنّفس، يبدأ المرء في التّفتيش والتّنقيب عن عيوب النّاس، يعيش ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النور: 39]، وبعد أيّام يصبح هذا الانشغال بعيوب النّاس سجيّة وخصلة لا تنفكّ عنه، فيستعظم وقوع الصّغائر من النّاس ويغفل عن الكبائر من نفسه، وإن تفطّن لعيبه وجد له ألف عذر وعذر، أمّا أن يجد عذرا واحدا لمن معه فذاك فيه نظر، قال تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً﴾ [النساء: 120]، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 112]، وبعدها بأيّام يصبح هذا الانشغال بعيوب النّاس قربة من القرب، وعبادة من العبادات، ويسمّيه نقدا، وتقويما، وبيانا، وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وهو في الحقيقة غيبة ومصيبة، ولكن كما قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 12]، وقال جلّ ذكره: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [فاطر: 8]، وقال عزّ وجلّ: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد: 14].

الخطبة الثّانية:

الحمد لله على إحسانه، وعلى جزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه.

أمّا بعد:

فاعلموا -معاشر المؤمنين- أنّه ما من داء إلاّ وله أسباب ودواء، فينبغي للعاقل أن يضع يده على مواطن الدّاء، ويسأل الله التّوفيق إلى الشّفاء، ويباشر في استعمال الدّواء، لذلك كانت النّقطة الثّانية: أسباب حسن الظنّ.

فأسباب حسن الظنّ بالنّفس كثيرة؛ منها:

– الجهل.

– داء العصر، وهو الغفلة.

– داء انتشر في وسط المتديّنين، ألا وهو الأقدميّة، فحال أكثرنا اليوم كما قال ربّنا -تعالى-: ﴿كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 16].

– انفتاح الدّنيا وانبساطها: فيوم كان الرّجل يعمل في أرضه بيديه، فيختلط الزّرع بدمه، والشّوك بشحمه، فقد كان يحمد الله على نعمه ويطيعه في أوامره، ويوم كانت المرأة يذوب جسدها لكثرة تعبها كانت مثال المرأة المسلمة، واليوم اغترّ المسلمون بهذا النّعيم الزّائل والمتاع الحائل، صار الواحد منّا يقول: لو لم يكن الله راضيا عنّي ما أنعم عليّ بهذا الخير، ويجعل هذه النّعم دليلا على رضا الله عنه، ونسي المسكين أنّ الابتلاء بالنّعم أشدّ فتكا من الابتلاء بالنّقم، قال تعالى في النّقم: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: 42]، وقال في النِّعم: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 44]، وقد روى الإمام أحمد عن عُقْبَةَ بنِ عامرٍ -رضي َالله عنه- قال: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ"، والاستدراج: أن يأخذه شيئا فشيئا، كما يفعل بالطّائر تريد أن تصيده، تضع له الطّعام للفتك به، وهذا هو كيد الله بالظّالمين.

﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ أي أعرضوا عن أوامرنا وتكالبوا على معصيتنا، ماذا؟ خسفنا بهم الأرض؟ أغرقناهم؟ أرسلنا عليهم حاصبا؟ أخذتهم الصّيحة؟ ماذا إذًا؟ ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 44].

ومن أسباب حسن الظنّ بالنّفس: الأمن من مكر الله، فكم منّا من هو مقيم على معصية الله وسخطه، والله يستره بمنّه ورحمته لا يفضحه ولا يهتك ستره، فبدلا من أن يحمد الله -تعالى- على ستره، ويقلع عن ذنبه، يظنّ الجاهل أنّ المعصية هينة حقيرة، ولو كانت كبيرة أو خطيرة لعجّل الله العقوبة في الدّنيا ولفضحه على رؤوس الأشهاد، ونسي المسكين أنّ الله -تعالى- يستدرجه ويمهله حتّى يظنّ ما يظنّ، روى البخاري عن أبِي موسَى -رضي َالله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102].

النّقطة الأخيرة: كيف السّبيل إلى الحذر من النّفس، فإنّ حسن الظنّ بالنّفس مدخل عظيم وعظيم من مداخل الشّيطان الرّجيم، به استطاع أن يجعلنا أسارى ذنوبنا، وعواني عيوبنا، فما السّبيل إلى الاهتمام بعيوب النّفس، وترك الانشغال بعيوب النّاس؟

أوّلا: سل ربّك -تعالى- تزكية نفسك.

ثانيا: لا يعينك شيء أبدا على الاهتمام بالنّفس من أن تجعلها أبغض شيء إليك، كما سبق بيانه في كثير من أقوال السلف.

ثالثا: لا تغترّ بطاعتك، بل سل الله التّوفيق والقبول، فقد ذكر الله لنا عن أرباب العزائم وهو يثني عليهم قائلا: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: 17]، فبعد صبرهم وصدقهم وقنوتهم وإنفاقهم استيقظوا يستغفرون بالأسحار، لعلمهم أنّهم عاجزون كلّ العجز عن شكر نعمة الله -تعالى- عليهم.

وبعد انقضاء صلواتهم استغفار، فقد روى مسلم عن ثوبانَ -رضي َالله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله -صلّى الله عليه وسلّم- إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ".

وبعد إفاضتهم من عرفات، بعد تضرّع وذكر وتهليل وتحميد وتسبيح لربّ الأرض والسّموات هناك استغفار، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 199].

وخاتمة الوضوء استغفار، وخاتمة مجالس العلم استغفار، فقد روى أبو داود وغيره عن عبدِ اللهِ بنِ عمْرِو -رضي َالله عنه- عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "كَلِمَاتٌ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِنَّ أَحَدٌ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ قِيَامِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَّا كُفِّرَ بِهِنَّ عَنْهُ، وَلَا يَقُولُهُنَّ فِي مَجْلِسِ خَيْرٍ وَمَجْلِسِ ذِكْرٍ إِلَّا خُتِمَ لَهُ بِهِنَّ عَلَيْهِ كَمَا يُخْتَمُ بِالْخَاتَمِ عَلَى الصَّحِيفَةِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ".

وبعد أداء الرّسالة وتبليغ الأمانة أمر الله رسوله بالاستغفار: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ [النصر: 3]، فهذا الأمر بالاستغفار جاء بعد أعظم العبادات للعليّ الغفّار، موجّها للصّالحين والأبرار، فكيف يغترّ بعد ذلك أحد؟!

رابعا: تذكّر أنّ قلبك بين أصبعين من أصابع الرّحمن يقلّبه كيف يشاء، ولن يُوفّق إلى الثّبات إلاّ من احتقر نفسه، واهتمّ بعيوبها، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].

أمّا لو عكست الأمر، وصرت متصيّدا لعيوب النّاس دون عيبك فاعلم أنّ الدّائرة تكون عليك، وقد قال الحُكماء: "لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ".

إذا تذكّرت ذلك كلّه فإنّ الشّيطان سيرجع ويخنس؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201].

ونختم لقاءنا هذا، بما ذكره سفيان بن عُيينة قال: قال إبراهيم التّيمي -رحمه الله-: "مَثَّلْت نفسي في الجنّة، آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثمّ مثّلت نفسي في النّار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أيْ نفسُ! أيّ شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أُرَدّ إلى الدّنيا فأعمل صالحا، قال: فقلت لها: فأنت في الأمنية فاعملي".

سبحانك اللهمّ وبحمدك، لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.