الاستغفار (4) ثمرته وأسباب تحصيله

عناصر الخطبة

  1. أمر الله الأنبياء والمؤمنين بالاستغفار
  2. أهمية الاستغفار وثمراته
  3. أسباب تحصيل المغفرة
  4. كثرة استغفار النبي صلى الله عليه وسلم
اقتباس

إن الاستغفار من أجلّ العبادات، وبوابة من أعظم بوابات الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومع سهولة هذه العبادة ويُسْرها إلا أنَّ المستغفرين قليل! وليس في ذلك زيادة عبء، ولا دفع مال، ولا جهد يبذله الإنسان، إنما هي كلمات يتمتم بها العبد مع قلب خاشع منيب لله -عز وجل-، ورحمة الله…

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:

أيها المسلمون: إن ربنا -عز وجل- كامل الصفات، عظيم الذات، لا يشبهه أحد من خلقه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾[الشورى: 11]، ومن أجلّ صفاته وأعظمها: صفة المغفرة؛ فهو غفور رحيم، وقد وصَف نفسه بالغفَّار، وهو كثير المغفرة، ووصف نفسه بأنه يحب المغفرة، والعفو عنده أحب من العقوبة، ورحمته سبقت غضبه، وهو يحب التوابين.

ولهذا طلب الله من أنبيائه وصفوة رسله أن يستغفروا من ذنوبهم، وأن يستغفروا لعباده المؤمنين، كما قال لرسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾[محمد: 19]، ووصف المؤمنين بأنهم في دعائهم يطلبون المغفرة لهم ولإخوانهم: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾[الحشر:10].

عباد الله: إن الاستغفار من أجلّ العبادات، وبوابة من أعظم بوابات الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومع سهولة هذه العبادة ويسرها إلا أن المستغفرين قليل! وليس في ذلك زيادة عبء، ولا دفع مال، ولا جهد يبذله الإنسان، إنما هي كلمات يتمتم بها العبد مع قلب خاشع منيب لله -عز وجل-، ورحمة الله قريبة من عباده المخبتين المستغفرين الذين لا تفتر ألسنتهم بطلب المغفرة من ربهم.

والاستغفار -عباد الله- له ثمرات كثيرة يجدُر بنا أن نقف مع بعضها، ومنها:

أن الله يحب المستغفرين، وإذا أحبَّك الله فنمْ قرير العين! من ذا الذي يبأس ويشقى إذا كان الله يحبه؟! قال الله في الحديث القدسي: “فإذا أحبَبْتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعـطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه“(رواه البخاري).

ومن ثمار الاستغفار: أن فيه راحة للقلب، وتسهيلاً للصعب، وتفريجاً للكرب، وما منا من أحد إلا وهو ينشد راحة البال، ويسعى لانشراح الصدر، وطمأنينة القلب، يقول -جل وعلا-: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد: 28]، وما الاستغفار إلا واحد من أنواع الذكر لله -جل وعلا-، قال سبحانه: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾[هود: 3]، وجاء عند أبي داود عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: “من لَزِم الاستغفار جعل اللهُ له من كلّ همّ فرجاً، ومن كلّ ضيقٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب“.

عباد الله: ومن ثمار الاستغفار أيضًا: نزول الغيث، وسعة في الرزق من الذرية، والولد الصالح، والمال الحلال، والخير الواسع، كل هذا بسبب الاستغفار، قال الله -جل وعلا-: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10-12].

جاء رجل إلى الحسن البصري -رحمه الله-، وكان يشكو الفقر، قال له الحسن: “استغفر الله”. ثم جاء آخر يشكو جدب الأرض فأوصاه الحسن بالاستغفار، ثم جاء ثالث يشكو العقم فدلَّه الحَسَن على الاستغفار، فعجب من حوله، وقالوا: ألا تجيد غيرها؟ فقال: “أما سمعتم الله في كتابه يقول: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10-12]”.

ومن ثماره: إيجاد ارتباط قوي بالله -عز وجل-، ومتى ما لُذتَ بالقوي العزيز الجبار؛ فلا تخف من أحد.

من يتق الله يحمد في عواقبه *** ويكفه شر من عزوا ومن هانوا

فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركانُ

فلو اجتمع أهل الأرض جميعاً على أن يضروك، وربنا -جل وعلا- لم يرد ذلك، والله لن يضروك؛ لأن معك القوي الذي لا يقف أمام قوته شيء.

ومن ثماره: صقل القلب وتنظيفه، والتمتع بقلب صافٍ نظيف، يقول -صلى الله عليه وسلم-: “إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكِتَت في قَلْبه نُكْتة، فإذا هو نزع واستغفر صُقِل قلبه، فإن عاد زِيدَ فيها حتى تعلو قلبه، وهو ‏الرَّان الذي ذكره الله -تعالى-: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[المطففين: 14]”(رواه الترمذي).

يقول ابن تيمية -رحمه الله- وقد سُئل: أيهما أنفع للعبد الاستغفار أم التسبيح؟ فقال: “إذا كان الثوب نقياً؛ فالبخور وماء الورد أنفع، وإذا كان وسِخاً؛ فالصابون والماء أنفع، فالتسبيح بخور الأصفياء، والاستغفار صابون العصاة“.

فمن يرى من نفسه كثرة ذنوب ومعاصٍ فليكثر الاستغفار؛ فهو أولى في حقه من التسبيح، ومن كان يظن أن ذنوبه أقل من صالحات أعماله؛ فعليه بكثرة التسبيح والتحميد.

ومن ثمار الاستغفار أيضاً: تكفير السيئات، وزيادة الحسنات، ورفعة الدرجات في الجنة؛ فعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: “كان الرجل يحدثني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأستحلفه، وإنه حدثني أبو بكر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهّر فيحسن الوضوء، ثم يقوم يصلّى ركعتين، ثم يستغفر الله -عز وجل- إلا غفر الله له. ثم تلا قوله -عز وجل-: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[آلعمران:135]”(رواه الترمذي).

وجاء في حديث أبي سعيد: يقول -صلى الله عليه وسلم-: “إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك، لا أبرح أُغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال له الله -عز وجل-: وعزتي وجلالي، لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني“(رواه أحمد).

وقد جاء في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكيه عن ربه -عز وجل-: “أذنب عبد ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له ربّاً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له ربّاً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له ربّاً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب؛ اعمل ما شئت فقد غفرت لك“(رواه البخاري ومسلم).

وقد رُويَ عن ابن عمر مرفوعاً: “يأتي الله -تعالى- بالمؤمن يوم القيامة، فيقربه حتى يجعله في حجابه من جميع الخلق، فيقول له: اقرأ صحيفتك، فيعرفه ذنباً ذنباً: أتعرف أتعرف؟ فيقول: نعم نعم، ثم يلتفت العبد يمنة ويسرة، فيقول الله -تعالى-: لا بأس عليك، يا عبدي أنت في ستري من جميع خلقي، ليس بيني وبينك اليوم أحد يطّلع على ذنوبك غيري، اذهب فقد غفرتها لك بحرف واحد من جميع ما أتيتني به، قال: ما هو يا رب؟ قال: كنتَ لا ترجو العفو من أحد غيري“(أورده ابن رجب في جامع العلوم والحكم).

إذاً: فأبواب الخير للمستغفرين مفتوحة، ونوالاته لهم ممنوحة، وهي حقائق لا جدال فيها، ولا ينبغي أن نجعل عباداتنا محطاً لتجاربنا، بل المؤمن يفعل العبادة بثقة ويقين كامل بأنَّ الله -عز وجل- سيستجيب له.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول عن نفسه: “إنه ليقف خاطري في المسألة، أو الشيء، أو الحالة التي تشكل عليَّ؛ فأستغفر الله -تعالى- ألف مرة، أو أكثر، أو أقل؛ حتى ينشرح الصدر، وينحلّ إشكال ما أشكل، وأكون إذ ذاك في السوق أو المسجد، أو الدرب أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي!”.

فاللهم اغفر لنا ذنوبنا أجمعين، ومُنَّ علينا بسترك ورحمتك ومغفرتك، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:

أيها المؤمنون: فإن المؤمن الحق حين يعلم ما أعده الله للمستغفرين؛ فلن يتوانى عن البحث عن أسباب نيل المغفرة وسبلها ولعلنا في هذا المقام نذكر شيئا منها:

توحيد الله -رب العالمين-، يقول الله في الحديث القدسي: “يا ابن آدم، لو أتيتني بقُرَاب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة“(رواه الترمذي).

يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: “إن إبليس قال: أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار، وبلا إله إلا الله“.

ومن أسباب تحصيل المغفرة؛ العفو والصفح عن الناس، يقول الله -عز وجل-: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[النور: 22].

ومن أبواب المغفرة -أيضاً-: غسل الميت؛ فقد أخرج الحاكم والبيهقي من حديث أبي رافع قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: “من غسل مسلماً فكتَم عليه غفر الله له أربعين مرة“.

ومن أبواب المغفرة: أعمال يوم الجمعة، قال -صلى الله عليه وسلم-: “لا يغتسل رجل يوم الجعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدَّهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرِّق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى“(رواه البخاري).

عباد الله: ابذلوا أسباب المغفرة وتأسوا بنبيكم -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد ثبت عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: “كنا نعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة: “رب اغفر لي، وتب عليَّ؛ إنك أنت التواب الرحيم“(رواه أبو داود).

فاستغفروا ربكم واعلموا أن رحمته قريبة من المستغفرين، وعفوه أقرب مما يتخيله العبد، فمتى ما كان العبد صادقاً في لجوئه إلى الله؛ فسيجد من ربه خير الدنيا والآخرة.

يا كثير العفو عمن *** كثر الذنب لديهِ

جاءك المذنب يرجو *** الصفح عن جرم يديهِ

أنا ضيف وجزاء الضـ *** ـيف إحسان إليهِ

ومَن أكرم من ربنا -عز وجل-! وهو رجاؤنا وأملنا، وعسى ألا يخيبنا، يقول حذيفة -رضي الله عنه-: “كنت رجلاً ذرِب اللسان على أهلي فقلت: يا رسول الله، قد خشيت أن يدخلني لساني النار، فقال -صلى الله عليه وسلم-: “فأين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة“(رواه أحمد).

فعوِّد نفسك -يا عبدالله- على الاستغفار؛ فواللهِ لتجدن أثره في الدنيا قبل الآخرة، وستجد أبواب الخير مفتحة لك الأبواب، وستذوق بذلك جنة الدنيا قبل الآخرة.

أسأل الله أن يجمع لي ولكم بين جنة الدنيا ونعيم الآخرة، وأن يمتعني وإياكم متاعاً حسناً.

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه…

————-

المصدر: خطبة استغفروا ربكم؛ د. عبدالله العسكر