فضل يوم عرفة ويوم النحر

عناصر الخطبة

  1. فضائل عشر ذي الحجة
  2. فضل يوم النحر
  3. من آداب العيد
  4. الحذر من المعاصي في هذه الأيام المباركة
  5. من أحكام وآداب النسك والأضاحي
اقتباس

لقد خصت هذه العشر بفضائل عظيمة منها: أن فيها يوم عرفة، فالدعاء فيه حري أن يستجاب، وهذا يشترك فيه الحجاج وغيرهم، وهو يوم تسكب فيه العبرات، وتقال فيه العثرات، وتضاعف فيه الحسنات، وما رؤي الشيطان أحقر ولا أصغر منه في يوم عرفة، إلا ما كان من يوم بدر. وفي…

الخطبة الأولى:

الحمد لله…

أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله وعظموا أمره، خصوصًا في هذه الأيام التي يذكر فيها اسم الله تعالى، وتعظم شعائره، ويفد الحجيج إلى بيته، ابتغاء مرضاته.

معاشر المسلمين: كم من وقت يمر علينا ضائعًا هدرًا، وهو عند الله من مواسم الخيرات، وسيندم أهل التفريط والأماني، يوم العرض على العزيز الحكيم.

أيها الناس: ليسأل كل رجل منا نفسه: ماذا قدم لربه في هذه الأيام الفاضلة؟! وهل خصها بمزيد من الأعمال الصالحة؟! إن من أعجب الأشياء: تصديق العبد بالمعاد والمجازاة، ثم يترك الاستعداد لذلك اليوم.

أيها المؤمنون: لقد خصت هذه العشر بفضائل عظيمة منها: أن فيها يوم عرفة، فالدعاء فيه حري أن يستجاب، وهذا يشترك فيه الحجاج وغيرهم، وهو يوم تسكب فيه العبرات، وتقال فيه العثرات، وتضاعف فيه الحسنات، وما رؤي الشيطان أحقر ولا أصغر منه في يوم عرفة، إلا ما كان من يوم بدر.

وفي ذلك اليوم يكثر العتقاء من النار، أخرج مسلم في صحيحه من حديث عائشة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا أو أمة من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء".

قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "وهذا يدل على أنهم مغفور لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبة والغفران".

ومن فضائل هذا اليوم أنه يوم أكمل الله فيه الدين، وأتم النعمة على المسلمين؛ حيث أنزل الله فيه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3].

فالحرص الحرص -عباد الله- على الإكثار من الطاعات في هذا اليوم، وإياك أن تكون من المحرومين.

ومن الأيام الفاضلة التي يغفل الناس فيها عن العبادة، يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر، وهو أفضل أيام السنة على الإطلاق، أخرج أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن قرط قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر ثم يوم القر".

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن يوم الجمعة ويوم النحر، أيهما أفضل؟! فقال: "يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام".

وكذا قال ابن القيم -رحمه الله-.

عباد الله: إذا كان كذلك فهل يسوغ للمسلم التكاسل فيه عن الطاعات أم هل يسوغ فيه اللهو بالمباحات والمحرمات!! بل إن بعض الناس ليفتتح هذا اليوم العظيم بمعصية، ألا وهي ترك صلاة العيد مع المسلمين، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله- بوجوبها على الأعيان من الرجال، وأنها سنة مؤكدة في حق النساء.

وبهذا أفتى الإمامان ابن باز وابن عثيمين -رحمهما الله-، أخرج البخاري ومسلم من حديث أم عطية -رضي الله عنها- قالت: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- النساء أن يخرجن لصلاة العيد؛ حتى إنه أمر الحيض وذوات الخدور أن يخرجن يشهدن الخير ودعوة المسلمين، وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى.

أخي المسلم: إذا كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أمر النساء والعواتق وذوات الخدور والحيض بالخروج إلى المصلى، أفيليق بك أن تتخلف عنها.

إن صلاة العيد من الشعائر الظاهرة، التي ترتسم الوحدة الإسلامية فيها عمليًا، وإن تعددت لغاتهم وتباينت ألوانهم، وكم في إقامة صلاة الأعياد خصوصًا عند ضعف المسلمين من الغيظ للأعداء والإرهاب لهم.

معاشر المسلمين: كما يحرص المسلم على استثمار الخيرات في الأيام الفاضلات، كذلك ينبغي له أن يحذر من المعاصي كلها دقها وجلها، فإن كان صاحب العقل والدين ينفر من المعاصي، ففي أيام المواسم والخيرات ينبغي أن تكون نفرته أشد، فنحن في أشهر الله الحرم، وقد قال الله فيها: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وقد سئل عن إثم المعصية وحد الزنا: هل تزداد في الأيام المباركة أم لا؟! فأجاب: "نعم، المعاصي في الأيام المفضلة والأمكنة المفضلة تغلظ، وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان".

عباد الله: اغتنموا فرص الخير قبل فوات الأوان، وشمروا عن ساعد الجد، فإن الأمر جد، واحذروا المعاصي فإنها تحرم المغفرة في مواسم الرحمة.

إن المعاصي سبب للبعد والطرد، كما أن الطاعات سبب للقرب والود.

اللهم وفقنا للخيرات، وجنبنا المعاصي والمنكرات، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعملوا بسنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- تفلحوا، وإن مما سن لكم نبيكم -صلى الله عليه وسلم- أن تخرجوا في صبيحة يوم العيد مكبرين، مبكرين، لابسين لأحسن ثيابكم لأداء صلاة العيد مع المسلمين، كما كان من هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن لا يأكل شيئًا قبل الصلاة، حتى يصلي فيرجع فيأكل من أضحيته.

وإن من سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ذبح الأضحية في أيام العيد، وهي سنة مؤكدة على القادر من المسلمين، وحكى بعض أهل العلم وجوبها على القادر.

فلا ينبغي للمسلم أن يفرط في فعل هذا النسك ليشارك الحجاج في مناسكهم، علّه أن يفوز ببعض جوائزهم، وسئل ابن تيمية -رحمه الله-: هل يستدين من لم يستطع الأضحية؟! فقال: "إن كان يرجو سدادًا فليستدن، وكان بعض السلف يستدين ليضحي، يقول الله -عز وجل-: ﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ [الحج: 36].

والأضحية لا تكون إلا من بهيمة الأنعام، وهي الإبل، والبقر، والغنم، قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ [الحج: 34].

قال ابن كثير -رحمه الله-: يخبر الله تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعًا في جميع الملل.

عباد الله: اختاروا أضاحيكم وطيبوا بها نفسًا، وكلما كانت أغلى وأكمل فهي أحب إلى الله تعالى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والأجر في الأضحية على قدر القيمة مطلقًا".

كما ينبغي  للمسلم أن يتحقق من خلوها من العيوب المانعة عن الإجزاء، فأولاً: لا بد أن تكون الأضحية في السن المجزئ شرعًا، فلا يجزئ في الإبل إلا ما كان له خمس سنين، ومن البقر سنتان، ومن المعز سنة، ومن الضأن ستة أشهر، فما فوق ذلك.

كما يجب أن يتجنب المضحي من الأضاحي ما كان فيه إحدى هذه العيوب الأربعة، فلا تجزئ العوراء البين عورها، ولا المريضة البين مرضها، ولا العرجاء البين ظلعها، ولا العجفاء التي لا تنقي، ويقاس على هذه العيوب ما كان مثلها أو أشد منها، قال النووي -رحمه الله-: "أجمعوا على أن العيوب الأربعة المذكورة لا تجزئ التضحية بها، وكذا ما كان في معناها أو أقبح، كالعمى، وقطع الرجل، وشبهه".

أيها المؤمنون: الأضحية في الأصل هي للأحياء دون الأموات، إلا أن تكون وصية فيجب تنفيذها، قال تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 181].

أما أن يضحى عن الميت استقلالاً من غير وصية فلم يرد ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد مات للنبي -صلى الله عليه وسلم- أولاد من بنين وبنات في حياته ولم يضحّ عن أحد منهم، كما ماتت زوجه خديجة، وعمه حمزة، وهما من أحب الناس إليه، ولم ينقل أنه ضحى عنهما، إنما ضحى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عن نفسه وأهل بيته، وضحى عمن لم يضحِّ من أمته.

والأولى أن يشرك الميت في الأضحية، كما صحت به السنة.

أيها المسلمون: إن العمل بما دلّ عليه الدليل نجاة وهدى، والعمل العاري عن الدليل مهلكة ومزلة، فالحذر الحذر.

والسنة أن المسلم يضحّي في بلده الذي يعيش فيه، وأن يذبحها بيده، وأن يأكل منها ويهدي ويتصدق، ومن لم يستطع التضحية هنا لغلاء الأسعار، فليضحِّ خارج البلاد في أي بلاد المسلمين شاء، فهذا خير من عدم التضحية بالكلية.

وإن مما يخطئ فيه بعض المسلمين أنه لا يعلم من الذي يلزمه الإمساك عن شعره وظفره وبشرته، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بين ذلك، فالإمساك عن هذه الأمور ممن أراد أن يضحي عن نفسه، أما من يدخلون معه بالاشتراك كالأولاد ووالديه ونحوهم فلا يلزمهم ذلك.

وأما المضحي فيلزمه الإمساك، ولو وكل غيره في شراء الأضحية وذبحها، فالوكالة لا تغير من الحكم شيئًا.

أيها المسلمون: إن الاجتهاد على غير دليل يؤدي إلى الإحداث في الدين، فمما أحدث الناس أن المضحي لا بد أن يمسح على ظهر أضحيته ليلة العيد، وينوي، ومن ذلك اعتقاد بعض النساء أنه لا يجوز لها الاغتسال ولا الامتشاط إذا  دخلت العشر، وهي تريد الأضحية، وهذا غلو في الدين، وإنما المنهي عنه أن تأخذ من شعرها أو ظفرها أو جلدها شيئًا عمدًا من غير ضرورة، ولا بأس أن ترجّل شعرها وأن تحك رأسها بلين ورفق.

عباد الله: إن الأضحية لها وقت لا يجوز أن تتقدمه، فيبدأ وقت الأضحية من صلاة العيد، ومن ذبحها قبل ذلك فإنما هي شاة لحم مقدمة لأهله، ويمتد الوقت إلى غروب شمس اليوم الثالث عشر من أيام التشريق.

أخرج البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء".

وإن مما ينبغي التنبه عليه، الحث على صيام يوم عرفة، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة قال -صلى الله عليه وسلم-: "صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة".

أيها المسلمون: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ…﴾ [الحديد: 21]، وتعرضوا لنفحات الله في هذه الأيام الفاضلة، فإن المقام قليل، والرحيل قريب، والطريق محفوفة، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والناقد بصير، ولا يظلم ربك أحدًا.

اللهم اسلك بنا طريق المتقين الأبرار، وأعذنا من خزي الدنيا وعذاب النار، وتقبل منا واغفر لنا يا عزيز يا غفار.