نظرات في سورة البقرة (1)

عناصر الخطبة

  1. الفراق بين حفظ السلف للقرآن وحفظنا له
  2. سورة البقرة تدور كلها حول حقيقة التقوى
  3. استفاضة السورة في شرح معنى التقوى إجمالاً
  4. تفصيلات ومكونات التقوى من خلال السورة
  5. الحديث عن بني إسرائيل في السورة ومقارنته بالواقع
  6. شمولية التقوى لكل مناحي الحياة
  7. أهداف الاستعمار يحققها بطريقين
  8. تمزيق العقيدة هدف رئيس من أهداف اليهود
اقتباس

اجتهدت أن ألقي نظرات على التفسير الموضوعي للقرآن الكريم من فوق هذا المنبر، وتفسير سورة البقرة سنأخذ فيه هذا المنهج: أن السورة كلها وحدة مرتبطة متناسقة، لها محور تدور عليه، ولها أول يمهد للآخر، وآخِر يصدِّق الأول، ومهما… روي عن أنس -رضي الله عنه-: “كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا”، يعني عظم، أي عظمت منزلته وأصبحت له مكانة، وذلك…

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا اله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

فإن الله -جل شأنه- سمى خطبة الجمعة ذكرًا في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾.

والذين يسعون إلى هذا المسجد إنما يجيئون كي يكونوا من الحشود المائلة فيه بين يدي الله مجلس ذكر كبير لرب العالمين.

ثم إن الوقت الذي يقضونه هنا نحاسب عليه أمام الله، فلا يجوز أن يضيع إلا فيما هو جد ونافع وجامع لثواب الدنيا والآخرة.

وقد رأيت أن أبدأ تفسير السورة الكبرى في القرآن الكريم وأنا أتمثل هذين المعنيين: أننا جئنا هنا لنذكر الله -جل جلاله-، وأن أوقات الذين يجيئون هنا غالية لا يجوز أن تضيع إلا فيما هو خير.

السورة التي أردت أن ألقي نظرات عليها -هذا اليوم وأيامًا أخرى إن شاء الله- هي سورة البقرة، وهي أطول سور القرآن الكريم، وأملؤها بالأحكام، وأحفلها بالعبر والهدايات.

روي عن أنس -رضي الله عنه-: "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا"، يعني عظم، أي عظمت منزلته وأصبحت له مكانة، وذلك أن الحفظ قديمًا ليس كهيئتنا الآن، نحن أشرطة حية تحفظ القرآن الكريم أحرفًا وألفاظًا، أما الأولون فكانوا يحفظون القرآن الكريم على نحو آخر، كانوا يستعينون على حفظه بالعمل به، كانوا يستوعبون ما فيه من نور، يستبطنونه في سرائرهم فهي به مشرقة، وهم به على درجة من الإيمان والصلاح والاستقامة يشركون بها الملأ الأعلى.

أحب أن أوجه النظر إلى خطأ شائع بين المسلمين، إنهم يظنون أن الآيات تجمع في السورة من السور ويركم بعضها فوق بعض، وكما تنظر إلى دكان جُمعت فيه السلع ورمي بعضها فوق البعض الآخر دون ترتيب أو ضبط أو تنسيق، بعض الناس يظن سور القرآن تجمعت الآيات فيها على هذا النحو: ركام من الأحكام ليس هناك ضابط ولا رابط في حشده وسوقه، وهذا خطأ كبير.

ولذلك اجتهدت أن ألقي نظرات على التفسير الموضوعي للقرآن الكريم من فوق هذا المنبر، وتفسير سورة البقرة سنأخذ فيه هذا المنهج: أن السورة كلها وحدة مرتبطة متناسقة، لها محور تدور عليه، ولها أول يمهد للآخر، وآخِر يصدِّق الأول، ومهما طالت السورة فإن المعنى الذي نقرؤه الآن يطرد في سور القرآن، ومن أول هذه السور سورة البقرة، بيني وبين نفسي -وأنا أشرح القرآن الكريم وأفسره- سميتها -أي سورة البقرة- سورة (الأتقياء). وقد تسأل: لمَ سميت هذه السورة -بينك وبين نفسك- بهذه التسمية؟!

والجواب: لأني لاحظت فعلاً أن السورة كلها تدور حول حقيقة التقوى ومعالمها وما يوصل إليها وأقسام الناس منها ومواقف الأولين والآخرين من حقيقة التقوى. لابد من نظرة مجملة سريعة، ثم نظرة مفصلة قليلة، ثم نظرات جانبية مختلفة، فلننظر النظرة السريعة.

النظرة السريعة أن السورة بدأت تقول: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾. هذا القرآن بعيد عن الشبهات، لا تتسلل إليه ريبة، أما الكتب الأخرى فإن الريب تكتنفها. إن الله صان هذا الوحي الخاتم، وجعله منزهًا عن أي شك، فما فيه حقائق مقطوع بها، يستحيل أن تكون في هذا الكتاب عقائد أو عبادات أو معاملات: أو أخلاق أو أحكام جزئية أو كلية فيها شيء من الخلل: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾.

أوجِّه النظر إلى كلمة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ فإن مفتاح السورة إنما تمسك به عندما تقف هنا وقفة متدبرة.

أولاً: من هم المتقون؟! الجواب: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)﴾.

لكن ما التقوى بعد هذه الأوصاف المجملة للأتقياء؟! هنا أخذت السورة تفيض في شرح التقوى، وأوجّه النظر إلى أن السورة تقع في خمسين صفحة، وأنه ما من صفحة أو صفحتين إلا وكلمة "التقوى" ترد تقريبًا.

ولأضرب الأمثلة: في الصفحة الأولى ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، بعد صفحة واحدة تجد التقوى أساسًا في العقيدة، أن توحد الله وتعبده عبادة مبرأة عن كل شرك، شاعرًا بأنه الذي خلقك وخلق أجدادك من قبلك ويخلق أولادك من بعدك: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

ثم بيّن أن الجنة أعدت للمتقين، ثم بيّن أن الأمة التي حملت الوحي قديمًا -وهي أمة بني إسرائيل- سقطت عن مستوى التقوى، وبيّن الله -جل شأنه- لم سقطت عن هذا المستوى، وما الذي فعلته حتى فقدت خلق التقوى وأصبحت أمة فاجرة لا عهد لها ولا شرف، ثم بيّن للأمة التي استخلفت بعد ذلك وحملت مشعل الوحي كيف تتقي وما معالم التقوى في سلوكها، فوجدنا آية -وسط السورة- جامعة تبيّن كيف تبلغ الأمة حقيقة التقوى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾. وبهذا أكد المعنى الأول وهو الإيمان بالغيب، في أول السورة: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾، هنا يجئ نفس المعنى: ﴿وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ لأن السورة بدأت: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾! ألقوا معي بالكم فإن سورة من خمسين صفحة غاب عن كثير من الناس أنها تدور على محور واحد، وظنوها مجموعة من الآيات رُكم بعضها فوق بعض على غير نظام وإلى غير هدف، وهذا باطل.

أخذت السورة -بعد ذلك- تبيّن للأمة التي أنشئت بعد بني إسرائيل واؤتمنت على رسالات السماء كيف تتقي الله، وأوجه النظر هنا إلى أن أغلب آيات الأحكام في هذه السورة قُرن بالتقوى، خذ مثلاً قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

خذ مثلاً قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، خذ مثلاً قوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾. 

خذ مثلاً قوله تعالى -وهو ينظم العلاقة في البيت-: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، حتى عند تنظيم الطلاق يقول: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، ويظل الأمر بالتقوى ماشيًا في صفحات السورة حتى تصل إلى الصفحة الأخيرة وهو ينظم المعاملات بين الناس فيقول -بعد أكبر آية في القرآن وهي آية الدَّين-: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾، تكررت كلمة ﴿التَّقْوَى﴾ في السورة نحو أربعين مرة؛ لأن الدعامة التي نهضت عليها السورة هي: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، وعندما قلت: إنني -بيني وبين نفسي- رمزت للسورة في دماغي بأنها سورة (الأتقياء) إنما قصدت بذلك أن هذه السورة وضعت المواصفات لتقوى الله، ومعنى التقوى: أن تعرف الله، لكن أي معرفة؟! معرفة نظرية صورية؟! لا، التقوى: أن تعرف الله معرفة تتحول إلى خشية نفسية وخوف عاطفي وإجلال وجداني لله -جل شأنه-.

هل التقوى معرفة وخشية -وكلاهما داخل النفس البشرية فقط-؟! لا، لابد أن يظهر ذلك في السلوك: عبادةً، معاملةً، خلقًا؛ لأن هذه السورة تتناول المجتمع، ففي ميدان العبادة يقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾، وفي ميدان التشريع يقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾، وفي ميدان السياسة والدولة يقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾، اللفظ واحد، يشمل تشريعات عبادية واجتماعية وسياسية؛ لأن التقوى لا تنقسم ولا تنفك، فالضمير التقي هو الضمير الذي يكون الإنسان به مؤتمنًا على صلاته وصيامه، على قضائه بين الناس وحكمه في شؤونهم، على خصومته، فهو لا يخاصم إلا لله، ولا يحارب إلا لله، الكيان الإنساني كله لا ينضج ولا يعظم ولا يكرم إلا بمقدار ما تصقله التقوى.

هذه نظرة مجملة على السورة، كأني في طائرة أطوف بمدينة كبيرة، فأنا ألقي نظرة مجملة سريعة، لكن عندما أبدأ فأنظر نظرة متفحصة متأنية لكل جانب أجد أن السورة -وهي تتحدث عن الأتقياء- بيّنت أن الناس ثلاث فرق: مؤمنون أتقياء، وكفار ملحدون فجرة، ومنافقون هم في باطن أمرهم لا إيمان لهم، ولكنهم في ظاهر أمرهم -ورعاية لمصالحهم- يلتحقون بركب المؤمنين!! آيتان أو ثلاث في المتقين، آيتان في الكافرين، ثلاث عشرة آية في المنافقين!!

أغلغل البصر قليلاً مع أول السورة لأجد هذه الكلمة في وصف المتقين: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، ما هو الغيب؟! الغيب شيء وراء المحسوس.

من قديمٍ كان ناس يقولون: ما نؤمن إلا بالمادة، ما نؤمن إلا بالمحسوس، يجيء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي يده عظم وهو يفتته ويُذريه في الهواء وهو يقول: يا محمد: أتزعم أن الله يبعث هذا؟! فقال: "نعم، يميتك الله تعالى ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار". يستطيع الذي خلق أولاً أن يخلق أخيرًا. لكن ما هو منطق الجاهلي؟! هو ما يتردد الآن في بعض الصحف من أن الإيمان بالغيب ليس تفكيرًا عقليًا.

إننا نؤمن بأن الله موجود، ونحن لا نحس الوجود الإلهي بأصابعنا، نحن لا نحس عقولنا بأصابعنا، نحن لا نحس أرواحنا بأصابعنا، فكيف نتصور أن رب المادة والروح يمكن أن يدرك بالحس العادي؟! هذا مستحيل، ولذلك كان الإيمان بالغيب شيئًا مستهجنًا عند من عبدوا الحس: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ). أي خرافات الماضي، والماضي يجب أن يترك، الإيمان بالله والإيمان بالوحي أساطير الأولين؟!

هذا الكلام تكرر كثيرًا: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾، الكلام عن الماضي وأن الماضي خرافي، وأن ما نرثه عن الأوائل هو الخرافات، ليس كلامًا جديدًا من اختراع العصر الحاضر، لا، هذا كلام قديم، عندما كان الوحي الأعلى يُتلى على الناس كان الملحدون يقولون نفس الكلام الذي يقال الآن في بعض الصحف، الإيمان بالغيب شيء لابد منه؛ لأننا نحن البشر لا نستطيع أن نرى إلا أجسامًا معينة ووفق مسافات معينة، فإن طالت المسافة عجزنا عن الرؤية، وإذا دقت الأجساد أو صغرت عجزنا عن الرؤية، والله أكبر وأجل من أن يُرى أو يُلمس أو يُحس على هذا النحو الذي يفكر فيه الذين يصفون أنفسهم بالعلم ولا علم لهم.

هذه السورة بدأت تصف المتقين وتبين أن المتقين الذين يؤمنون بالغيب يضمون إلى ذلك أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤمنون بما نزل أولاً من كتب على أنبياء الله جميعًا، وأن هذا الإيمان الشامل لابد منه لكل من يريد استيعاب الإيمان والتصديق بما عند الله.

بدأت السورة بعد ذلك تتحدث عن بني إسرائيل، والحديث عن بني إسرائيل نوجه النظر إليه من وجوه: 

أول هذه الوجوه أن القوم كانوا فعلاً -كما ذكرت السورة- قومًا مفضَّلين: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، لكن إسرائيل الذي فُضِّل وفُضِّل أبناؤه على العالمين بمَ فُضل وفُضل أولاده؟! تقول السورة نفسها: إن إسرائيل -وهو يعقوب- كان نبيًّا يدعو إلى توحيد الله، وكانت دعوته امتدادًا لدعوة جده إبراهيم، وكان هذا النداء بتوحيد الله، والحرص على هداية الناس به كان ذلك المثل الأعلى الذي يتوارثون تبليغه والتجمع عليه: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، فهل أولاد إسرائيل الآن على مستوى الرسالة التي بلغها إسرائيل؟! لا ليسوا على المستوى، من الناحية النظرية الكتاب الذي بين أيديهم مشوه، مليء بالمفاسد الخلقية، إن الذي يقرأ سفر (نشيد الإنشاد) الذي لسليمان -وهو موجود في العهد القديم- يقرأ جملاً عاهرة، وعبارات سيئة رديئة مليئة بالانحلال، مليئة بالدعوة إلى الفسق والإثم، وما يتصور في كتاب مقدس أن ينطوي على هذه المآسي والمخازي.

وسفر (التكوين) -وهو حجر الزاوية في العهد القديم- سفر مليء بوصف الله بالجهل والندم والتجسد والأكل مع البشر والمصارعة لبعض الخلق وما إلى ذلك مما لا يمكن أن يكون كلامًا مقبولاً ولا معقولاً.

ثم إن فكرة إسرائيل التي قامت على أساسها الدولة فكرة مليئة بالشرور والغطرسة، وعندما كنت في المغرب نقل لي صديق -يعرف الفرنسية- تصريحا لـ"بن غوريون" -وهو شيخ مشلول الآن بين يدي ربه- يقول: إن الله خلق الكون في ستة أيام ولم يكن لديه وقت لإصلاحه فنحن الذين نتولى إصلاحه بدلاً عن الله!!

هذا الكلام سجله صديق لي في مجلة سويسرية معروفة الاسم ورقم العدد.

ماذا أثمر هذا الكلام؟! أثمر أن اليهود في العالم كله من وراء اضطرابه النفسي والخلقي والاجتماعي، ولذلك فإن القرآن عندما خاطب هؤلاء قال لهم: دعوا ما لديكم واتبعوا النبي الجديد الذي يعلمكم، إن كانت لكم مكانة فيستحيل أن تبلغوها إلا إذا تبعتم الصالحين وإمام الصالحين محمد بن عبد الله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ(41)﴾.

هذه المعاني كما ذكرت لبنى إسرائيل ذكرت كذلك بالنسبة للمسلمين، ما معنى هذا؟! من إنصاف القرآن أنه عندما يشرح كيان الأمم الهالكة يذكر محامدها ومعايبها على سواء، وعندما يذكر الأمة التي تحمله وتبلغه -وهي الأمة الإسلامية- يذكرها كذلك بأنها إن لم تؤدِّ ما عليها ضاعت، وإن لم تلتزم السَّنن المرسوم زاغت، ولذلك يقول للمسلمين: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ(152)﴾، ومعنى ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ أنكم إذا نسيتموني فسأنساكم، إذا لم تؤدوا حقي فلا عهد لكم عندي، إذا لم تلتزموا منهج التقوى الذي رسمته -في هذه السورة- فإنكم سينطبق عليكم ما ينطبق على الأمم قبلكم.

عندما نستعرض السورة تفصيلاً سنجد أن التقوى شملت نظام الأسرة، نظام البيع والشراء، نظام الزواج والطلاق، نظام الرضاعة، نظام اليمين، نظام الإيلاء -وهو الحلف على شيء معين بالنسبة للمرأة-.

السورة هنا شملت أغلب الأحكام التي ورد بها القرآن الكريم، وبينت أن إقامة هذه الأحكام في جملتها هي التي تجعل المجتمع الإسلامي تقيًّا، وتجعل الأمة الإسلامية جديرة برعاية الله. 

وكما بدأت السورة بالحديث عن الإيمان والتقوى وعن الإيمان بما ورد من كتب سابقة وبالمرسلين الذين جاءوا بهذه الكتب ختمت السورة بما بدئت به: (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ  لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)، ثم ختمت بهذه الأدعية: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، هذا الختام أعقب تفصيلات اتصلت بأول السورة، أول السورة تحدث عن الإيمان بالغيب، ومن الإيمان بالغيب الإيمان بالبعث، ولذلك تجد في أواخر السورة حديثًا عن الإيمان بالغيب وهو يشرح البعث: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

لكن الله -عز وجل- لا يطلب منه أن يرى كل إنسان معجزة مادية كي يعقل وكي يصدق وكي يؤمن، إنه يقول للإنسان: منحتك عقلاً وأدلك على ما تعرفني به: إنك عندما تأكل طعامًا ميتًا فاقد الحس طبخ في النار فإن هذا الطعام الميت -بعد عدة ساعات- يتحول في جسدك إلى كيان حي، يتحول الطعام في جسدك إلى خلايا حية، يتحول إلى عظم ولحم، ودم وأعصاب وشعر وأظافر.

كيف يتحول؟! لا ندري، لكن الذي ندريه أن هذا الإنسان يولد ووزنه رطلان -كيلو جرام تقريبًا- ثم يتحول إلى مائة كيلو جرام تقريبًا.

كيف تحول الجماد -الطعام- إلى حياة في كياننا؟! هذا ما تشير إليه السورة عندما تتحدث عن هذا الملكوت الضخم: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾. 

سورة البقرة، يمكن أن نقول بإجمال: إنها تحدثت عن التقوى في أول صفحة منها، ثم أخذت بعد ذلك تصف معالم التقوى، ووسائل بلوغ التقوى، ومن هم الأتقياء وغير الأتقياء، وأحوال الأمم القديمة، وأولها أمة بني إسرائيل، كيف سقطت عن مستوى التقوى، كيف جاءت الأمة الإسلامية بعد ذلك، وكيف ورثت الوحي الأعلى، وكيف تتقي الله، كي تؤدي رسالته، وكي تكون أهلاً للاستخلاف في الأرض، وكيف تعتمد على الله في إيمانها وعبادتها، وفي النهوض بالتكاليف التي حملتها.

إن الله -جل شأنه- عندما أمرنا أن نقوم بما أوجب علينا خلال هذه السورة المطولة من عبادات ومن أعمال ومن تكاليف فإنه كلفنا أن نبذل وسعنا، وطلب منا أن نستغفره فيما نخطئ فيه أو ننساه، وطلب منا كي نثبت على الدين وكي نتمكن من العيش به أن نستمد منه العون في الانتصار على الكافرين الذين يحاربون هذا الدين والمنتسبين إليه.

هذه صورة سريعة لسورة البقرة، يحتاج الأمر بعد ذلك -كما قلت لكم- إلى صورة مفصلة لبعض أركان هذه السورة الكبرى.

نرجو أن يوفقنا الله إلى تكوين هذه الصورة في خطب أخرى.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ﴿الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(26)﴾.

وأشهد أن محمدًا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

فأريد أن أوجه النظر إلى شيء يتصل بحياة العرب والمسلمين في عصرنا الحاضر، عندما اتجه الاستعمار العالمي إلى إقامة دولة لإسرائيل على أنقاض فلسطين كان يريد أن يبلغ هدفه عن طريقين:

أولاً: إرسال اليهود من نحو تسعين دولة إلى المقر الجديد الذي اختاره لهم.

ثانيًا: إشاعة الفوضى العقائدية والأخلاقية في الكيان القريب، وفي الكيان الإسلامي العام، حتى لا يستطع هذا الكيان العربي بعد تمزيق عقائده وأخلاقه أن يقاوم السرطان الذي غرس داخله.

صار الأمران معًا، عندما أوجد بني إسرائيل على أنقاض فلسطين كان في الوقت نفسه يُوجِد داخل أمتنا أشخاصًا وهيئات وحكومات، وظيفتها أن تحطم عقائد الإيمان ومعاقد الفضيلة وتجعل الأمة لا إيمان لها ولا صلة لها بالله.

وبذلك تعجز عن مقاومة اليهود الذين جاءوا متعصبين لدينهم متمسكين بتوراتهم، لاحظت أن الصراع بين الإيمان والكفر أخذ طريقًا طويلاً، لكن شاء الله -رحمة بنا ومنة علينا- أن يجعل هذه الأمة تثوب إلى رشدها وترجع إلى ربها وتستمسك بصيحة التوحيد التي انبعثت خلال صفوفها المقاتلة، وأدرك أهل الشرق والغرب جميعًا أن العرب في معركتهم الأخيرة كانوا جنسًا آخر؛ لأن الإيمان عاد إلى قلوبهم؛ لأن تكبير الله طهّر أفواههم، وجمع صفوفهم، ووحّد كلمتهم، وأزال ما بينهم من جفوة.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

أقم الصلاة.

نظرات في سورة البقرة (2)

نظرات في سورة البقرة (3)