فضل العفو والإصلاح بين الناس

عناصر الخطبة

  1. التجاوز عن هفوات وزلات الصديق
  2. خطر القطيعة والتفرق
  3. الأسباب المؤدية للهجر والخلاف بين الناس
  4. فضل الإصلاح بين الناس
  5. نماذج رائعة في التحلي بخلق العفو
  6. العفو عن الناس في شهر العفو
اقتباس

عباد الله: الناس في الفرقة والقطيعة بين اثنين ظالمٍ معتدي، ومظلومٍ معتدى عليه، ويعظم الاعتداء والظلم من شخص لآخر، فيبدأ بكلمة لا تليق، وينتهي بالقتل، فإذا دبت الفرقة بين الطرفين دخل الشيطان بينهما، فإن كان سبب الخلاف من أمور الدين، فلا صلح بين الطرفين إلا بالدين، بـ…

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله…

أما بعد:

فيا أيها الناس: نحن في هذه الدنيا نعيش بعفو الله، وننعم بنعمه، ويكمل بعضنا بعضا، ومن لم نحتج إليه، فهو من المسلمين الذين يدعون لنا في كل صلاة، وندعو لهم، وتربطنا بهم رابطة الإخوة في الدين، ولولاها ما صحب بعضنا بعضا.

معاشر المسلمين:

من ذا الذي ترضى سجاياه كلها *** كفى المرء نبلا أن تعد معايبه

فمهما بلغ الإنسان من الكمال، لابد أن توجد له خلة تعيبها عليه، أو صفة لا ترتضيها منه، ولو أنك عاتبت كل من أخطأ عليك لم تجد في الناس لك صاحباً؛ كما قال الأول:

إذا كنت في كل الأمور معاتبا *** أخا لك لم تلق الذي لا تعاتبه

ولربما تكون نقمت على أخيك أمرا من الأمور، وهو من الصغائر لو صدرت من غيره، أو أنك تظن أن فعله خطاء وهو صواب، ولكن النظرة السوداوية التي تنظر بها تجاهه، هي التي أبدت لك ما تظنه عيبا؛ كما قيل:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** كما أن عين السخط تبدي المساوي

أيها المؤمنون: سنتطرق في هذه الخطبة -بإذن الله- إلى موضوع مهم نحتاجه جميعا بلا استثناء، وما ذاك إلا لأنه انتشر بين الناس، وعمت الفرقة بينهم، حتى دب الأمر إلى الأسرة الواحدة، بل إلى الولد مع أبويه فضلا عن الجيران والأقارب، إنها النفرة، وفساد ذات البين بين الناس، ولو فتشت عن سبب القطيعة والنفرة لوجدته هينا، ولكن الشيطان نفخ فيه وفخمه، وباعد بين الطرفين، ولضعف الإيمان وجد الشيطان قابليةً له بين الناس فأصبح يحرش بينهم، ويفرق الأواصر، ويقطعها.

أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم".

يعني قدر على التحريش، ونجح فيه.

عباد الله: الناس في الفرقة والقطيعة بين اثنين ظالمٍ معتدي، ومظلومٍ معتدى عليه، ويعظم الاعتداء والظلم من شخص لآخر، فيبدأ بكلمة لا تليق، وينتهي بالقتل، فإذا دبت الفرقة بين الطرفين دخل الشيطان بينهما؛ فإن كان سبب الخلاف من أمور الدين، فلا صلح بين الطرفين إلا بالدين، بأن ينزع العاصي، ويزول المنكر، وأما إن كان السبب من أمور الدنيا، فالهجر بينهما محرم لا يجوز وخيرهما الذي يعفو ويصفح، ويبدأ بالسلام.

أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أبي أيوب قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".

معاشر المؤمنين: لنتعرض لأسباب الهجر ووقوع الخلاف بين الناس في مجتمعنا؛ فمن أهمها: اللسان، فإطلاقه بالكلام على عواهنه بلا تروٍ يفسد بين الناس؛ كما قال تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾ [الإسراء: 53].

فمن لم يتكلم بالتي هي أحسن فإن الشيطان ينزغ بينهم بالإفساد والقطيعة، حتى ولو لم يكن المتكلم يقصد ما وقع في قلب الآخر.

بل إن مجرد كثرة الكلام مع الآخرين خصوصا إذا مزجت بالمزاح يدس فيها الشيطان ما يفسد العلاقة، ويوغر الصدور.

ومن ذلك: العتاب بالكلام الذي يقع بين المسلمين أمام الناس، فإنه يوغر الصدور، ويطيل زمن الفرقة، وللشيطان فيه نصيب كبير.

ومنها: كذلك سوء الظن بالآخرين، فتجد المرء يحمل كلام أخيه على أسوء المحامل، مع أنه يجد لها في الخير محملا.

ومنها كذلك: ضيق النفس، وعدم التحمل، والواجب على الجميع أن يعفوَ ويصفح? عن زلات أخيه، ولو أخطأ عليه، وعليه أن يجعل مناصحته له تكون سرا، فكما أنك قد تزل أحيانا بما لا يليق، فالناس كذلك يزلون، فلتتسع صدورنا للآخرين، ولنمح زلاتهم، فعما قليل يراجعون.

ومنها كذلك: سوء الخلق من البعض، فبعض الناس يعيش بأخلاق سيئة، فلا يحتمله الناس ولا يقبلونه، وتجده في عداء مع الكثير من الناس، فمن أحب أن يقل شانؤوه، ويكثرَ محبوه، فليحسن خلقه، وليبدأ بالكلمة الطيبة، وليتجنب ألفاظ السوء، فضلا عن أفعاله.

فإن المسلم مطالب أن يحسّن معاملته في كل شيء، بدأ بمعاملته مع الله -سبحانه- في أدائه لعباداته، ونهاية بالحيوانات، قال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].

ومنها كذلك: نقل الكلام بين الناس، ألا وهي النميمة، فالنمام يفسد في ساعة مالا يفسده الساحر في سنة، ولهذا حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- منها، وسماها العَضْه، أخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود مرفوعا: "ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس".

ألا فل نتجنب نقل الكلام بين الناس إلا فيما ينفع ويصلح، قال تعالى: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: 114].

ومن أعظم ما يوقع الخلاف بين الناس: مخالفةُ الهدي النبوي في المعاملة بين الناس، وذلك كمناجاة الرجلين دون الثالث، وعدم إجابة الدعوة، وعدم إفشاء السلام، وعدم التواصل والزيارة، خصوصا للمرضى والمحاويج.

اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك.

أقول قولي وأستغفر الله…

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي يحلم ويعفو عن عبيده، ويحب العفو وهو العفو القدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أحلمَ الخلق وأرأفَهم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله وراقبوه في معاملتكم لإخوانكم، فالمسلم يصحبُ أخاه ويعاملُه بحبه له في الله رجاء ثواب الله، ولذا فإنه يحتمل منه الكثير؛ لأنه سبب في نيل الثواب من الله، وأما من يحب الناس لمصالحه وشهواته فلن تنفعه صحبته في القيامة ولو نفعته في الدنيا: ﴿الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67].

أيها المؤمنون: إن من عباد الله من هو مفتاح لكل خير، مغلاق لكل شر، فلنكن منهم، فلنسعى للإصلاح بين الناس، فإن ذلك من أعظم الطاعات، فلقد كان من شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- الإصلاح بين الناس.

ومن عظيم فضل الإصلاح بين الناس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أباح الكذب فيه، أخرج البخاري ومسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة مرفوعا: "ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا ويقول خيرا".

عباد الله: وفي الجهة المقابلة يجب علينا عندما يخطئُ علينا أحدٌ من الناس أن نسعى إلى العفو والصفح؛ لأننا نرجو ثواب الله، ونغلب جانب الخير فيمن أخطأ علينا، ونتذكر حسناته الكثيرات، ونسمح عن السيئات القليلات في حقنا، ولنعلم أن من صفات الله أنه العفو؛ كما قال تعالى: ﴿إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء: 149].

ولهذا كان من أعلى خصال النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يعفو عمن ظلمه، وهكذا الصحابة من بعده فمن القصص التي سطرها التاريخ وكتب أهل العلم عن عفو النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس قال: كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: "مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء".

أخرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم حنين آثر النبي -صلى الله عليه وسلم- أناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتيته فأخبرته، فقال: "فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".

وإن ننسى من المواقف الكثيرة، فلا ننسَ عفوه عن أهل مكة عندما فتحها، فهؤلاء القوم هم الذين طردوه من بلده، وسبوه، وسبوا ربه، وصدوا عن سبيل الله، ووصفوه بكل وصف قبيح، فلما قدر عليهم، قال: "أذهبوا فانتم الطلقاء".

ومن عفو أصحابه من بعده: قصة أبي بكر مع مسطح بن أثاثة الذي خاض في عرض عائشة، وقذفها بالزنا، وكان أبو بكر ينفق عليه، فلما فعل ما فعل قطع النفقة عنه وحلف أن لا يعطيه بعدها شيئا، فأنزل الله: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النــور: 22] فلما سمعها أبو بكر رد النفقة عليه، وكفر عن يمينه، وقال: "بلى، والله إني أحب أن يغفر الله لي"[والحديث في البخاري].

ومن فوائده: أن من أراد أن يعفو عنه الله فليعف عن الناس، فالجزاء من جنس العمل.

ومن ذلك: قصة عمر مع الذي دخل عليه، وقال له: أعطني من بيت المال، فإنك لم تعدل في العطية فغضب عليه عمر، وهم به، فقال أحد الجالسين: يا أمير المؤمنين إن الله يقول: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين، فما تجاوزها رضى الله عنه، وسكن غضبه.

أيها الناس: إن الذي يصدر منه الخطأ تجاهنا لا يخلو من أن يكون عاقلا، فهذا نحتمل خطأه لعقله، أو حاسدا، فهذا نعرض عنه ليحرق قلبه، أو جاهلا، فهذا نعرض عنه لنسلم من شره؛ كما قال الأول:

يزيد سفاهة فأزيد حلما *** كعود زاده الإحراق طيبا

وقال الآخر:

إذا نطق السفيه فلا تجبه *** فخير من إجابته السكوت

معاشر المسلمين: إن الذين يصرون على هجران إخوانهم بسبب ملاحاة بينهم، أو سوءِ عشرة، هم يطيعون الشيطان، ويعصون الرحمن، فضلا على أنهم يحرمون أنفسهم من خير عظيم، وهبه الله للناس في كل أسبوع؛ أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا: "تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا".

عباد الله: نحن في شهر الصوم، في شهر العفو والغفران: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ﴾[النــور: 22].

لنراجع أنفسنا، ولنواصل كل من قاطعناه من أجل الدنيا، فالدنيا فانية، وليست بأهل أن يتشاجر عليها المسلمان.

اللهم حسن أخلاقنا باتباع سنة نبيك…

اللهم اهدنا على أحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها…

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات…

اللهم اهد شباب المسلمين…

اللهم فرج عن المستضعفين من المسلمين…

ربنا آتنا في الدنيا حسنة…

ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا…

بطاقة المادة

المؤلف خالد بن عبدالله الشايع
القسم خطب الجمعة
النوع مقروء
اللغة العربية