الإيمان باليوم الآخر

عناصر الخطبة

  1. الإيمان بيوم الحساب والجزاء
  2. غفلة الناس عن حقيقة الإيمان بهذا اليوم
  3. أسماء يوم القيامة
  4. أثر الإيمان باليوم الآخر
اقتباس

إننا نعيش اليوم في عالم مادي غريب يلهث وراء الدنيا ويركض في طلبها ركض الوحوش في البراري والقفار، وصناع الحضارة المادية المعاصرة وأربابها وأساطينها لا يكترثون للآخرة، ولا يستعدون لحساب يوم الدين الرهيب الثقيل، إنهم مشدودون إلى الأرض وحدها، مشغولون بمتعها ومغانمها. الحضارة الحديثة حضارة أرضية بشرية، تقوم على فلسفة إلحادية ..

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جزى نبيًا عن أمته.

وبعد: في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".

إن من معاني هذه السورة العظيمة سورة الفاتحة التي يتلوها المسلم ويكررها في كل ركعة من ركعات صلاته، الإيمان باليوم الآخر يوم الدين، يوم الجزاء والحساب، فحين يتلو المسلم هذه الآية: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4]، فواجب عليه أن يتذكر ذلك اليوم، الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين من الجن والإنس والحيوانات والملائكة وسائر المخلوقات، ليجزي الله كلاً بما عمل ويقيم الحق بين عباده. فيوم الدين هو يوم الجزاء والحساب، وإن الإيمان بيوم الدين من أهم قضايا الإيمان التي أبدى فيها القرآن، وأعاد وأوضح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر غاية الإيضاح وبينه غاية البيان.

والإيمان باليوم الآخر حقيقة يغفل عنها الإنسان، وواجب على المرء أن يكون على تذكر دائم بلقاء ربه ليتذكر أنه سيقف بين يدي ربه ليس بينه وبين الله ترجمان.

وقد سمى الله تعالى اليوم الآخر بأسماء كثيرة، سمَّاه يوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين عباده، وسماه يوم التغابن لكثرة المغبونين يومئذ ممن كانوا يكذبون ويجحدون في الدنيا، ففي ذلك اليوم يغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، ويغبن فيه أهل الإيمان أهل الكفر، وأهل الطاعة أهل المعصية، ولا غبن أعظم من غبن أهل الجنة أهل النار.

وسمَّاه يوم الجمع لأنه يجمع فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي ونفذهم البصر. وسماه يوم التلاق لأنه يلقى فيه العبد ربه، ويلقى فيه العامل عمله، ويلتقي فيه الأولون والآخرون، ويلتقي فيه أهل السماوات والأرضين.

وسماه الله يوم القيامة لأن فيه قيام الخلائق من القبور، وسمّاه يوم التناد، لتنادي العباد بعضهم بعضًا، ولمناداة الله -عز وجل- عباده فيه، قال -عز وجل-: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [النساء: 87]، وقال سبحانه: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ [التغابن: 9]، وقال: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾ [المائدة: 109]، وقال: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً﴾ [الكهف: 99]، وقال: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ﴾ [هود: 103]، وقال: (لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات: 12 – 15]، وقال: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِي * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) [غافر: 15، 16].

وقال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾؛ إذ لا يملك أحد في ذلك اليوم حكمًا ولا سلطانًا، كل امرئ بما كسب رهين، قال تعالى: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾، وقال: ﴿يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: 19]، وقال: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً﴾ [الفرقان: 26]، ذكر الله أسماء يوم القيامة وعظمه وحذّر عباده من الغفلة والنسيان وأمرهم بالاستعداد له، وفي الصحيحين وغيرها عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟!"، وفي لفظ: "أين الجبارون المتكبرون؟! فلا يجيبه أحد، فيجيب تعالى نفسه بقوله: ﴿للَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾".

قال الحسن البصري: "هو السائل تعالى وهو المجيب حين لا أحد يجيب".

إن يوم القيامة يوم الدين، يوم عظيم شديد، يوم مقداره خمسون ألف سنة، فيه مواقف ومشاهد كثيرة تحصل في عرصات القيامة مذكورة في القرآن الكريم وفي السنة، نذكر مشهدًا واحدًا من تلك المشاهد والمواقف، حدثنا عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قالوا: يا رسول الله: هل ترى ربنا يوم القيامة؟! فقال: "هل تضارون من رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة؟!"، قالوا : لا، قال: "فهل تضارون من رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟!"، قالوا: لا، قال: "فوالذي نفسي بيده لا تضارون من رؤية ربكم إلا كما تضارون من رؤية أحدهما، فيلقى العبد ربه، فيقول: أي قُل: ألم أكرمك وأسودك وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟! فيقول: بلى يا رب، فيقول أظننت أنك ملاقيّ؟! فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني، فيقول: أي قل: ألم أكرمك وأسودك وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟! فيقول: بلى يا رب، فيقول: أظننت أنك ملاقي؟! فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث، فيقول: أي قل: ألم أكرمك وأسودك وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟! فيقول: بلى يا رب، فيقول: أظننت أنك ملاقيّ؟! فيقول: أي رب: آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ها هنا إذًا، ثم يقول: الآن نبعث شاهدًا عليك، فيتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد عليه؟! فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه".

الخطبة الثانية:

أيها المؤمنون: إن الإيمان بيوم الدين من أمهات العقيدة وهي مفرق الطرق بين المؤمنين والكافرين، إنها قضية من أعظم القضايا التي جاءت بها الرسل ونزلت بشأنها الكتب، ومع ذلك فما أكثر التكذيب بالآخرة والشك في شأنها والغفلة عنها، فيا ويح الكافرين والغافلين بماذا يكفرون ولماذا يغفلون عن الجنة والنار.

لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتعهد أصحابه بذكر الجنة والنار، فخطبهم يومًا فقال لهم -بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم-: "عرضت عليّ الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر -أي لم أر خيرًا أكثر مما رأيته اليوم في الجنة، ولم أر شرًّا أكثر مما رأيته في النار-، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا". فما أتى على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أشد منه، غطوا رؤوسهم ولهم حنين.

أيها المؤمنون: إننا نعيش اليوم في عالم مادي غريب يلهث وراء الدنيا ويركض في طلبها ركض الوحوش في البراري والقفار، وصناع الحضارة المادية المعاصرة وأربابها وأساطينها لا يكترثون للآخرة، ولا يستعدون لحساب يوم الدين الرهيب الثقيل، إنهم مشدودون إلى الأرض وحدها، مشغولون بمتعها ومغانمها.

الحضارة الحديثة حضارة أرضية بشرية، تقوم على فلسفة إلحادية مفادها: أن شيئًا لم ينزل من السماء، وأن الإنسان وحده سيد الكون ولا سيما الأوروبي ذا البشرة البيضاء والعيون الزرقاء، يرى أن الساعة الحاضرة هي الجديرة بالعناية، وأن الموت شيء مؤسف لكن ماذا نصنع له؟! فلنستفد مما قبله فما بعده لا يعنينا، ولقد طبعت الحياة بهذا الطابع المليء بالجحود والغفلة حتى عصف هذا التيار المادي الجارف بكثير منا -نحن المسلمين- حتى كدنا أن ننسى يوم الدين.

إننا نرى في حياتنا أمورًا كثيرة تدل على غفلتنا وانصرافنا عن الله ولقائه.

قد يضمك مجلس فيه شباب، وشيوخ، وتجار وساسة، وخاصة وعامة، وتسمع ما يدور فيه من أحاديث، فلا تسمع إلا استغراقًا في المستقبل القريب واللذة العاجلة. الحديث يكاد ينحصر في الأسعار والسلع والغلاء والرخص، أو الحديث عن الرواتب والدرجات والترقيات، الكل مشدود بحبال وثيقة إلى شواغل الدنيا، لا يتعداها إلى ما بعدها، ولا ترقى الاهتمامات إلى مصرف أمورها وأحوالها.

لا تكاد تجد من يستعد للقاء الله أو يهتم بالدار الآخرة إلا القليل النادر، الناس محبوسون في مآربهم القريبة وحدها، لا يحبون أن تفتح لهم نافذة ينظرون من خلالها إلى يوم الدين، فاليقظة اليقظة -عباد الله-، والتنبه التنبه قبل فوات الأوان، وقبل أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله.