عائشة رضي الله عنها (19) أسرار تفوقها وتكامل شخصيتها

عناصر الخطبة

  1. أهمية معرفة أسرار تفوق عائشة أم المؤمنين
  2. حرصها على بناء شخصيتها الإيمانية
  3. طهارة قلبها
  4. علو همتها
  5. تفانيها في إراحة زوجها
اقتباس

لقد كانت عائشة على درجة كبيرة في النبل وفي الطموحات والتطلعات قلما تجد لها نظيرًا في مثيلاتها من النساء، وبهذه الهمة العالية صارت عائشة -رضي الله عنها- أيضًا من أعلم النساء على الإطلاق، ومن العجيب أنها بلغت هذه الدرجة الرفيعة، وحازت على هذه الفضائل والمكارم من بين النساء وهي لم تتعدَّ الثامنة عشرة من عمرها ..

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى صحابته الكرام الذين اهتدوا بهديه، واقتدوا بسنته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فبعد ثماني عشرة خطبة مضت قلَّبنا فيها صفحاتٍ عطرةً لسيرة أمنا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- كقدوة للأجيال، وكبطلة من أبطال تاريخنا المجيد، طرحناها كمشروع تربوي، ومنهج عملي تطبيقي للفتاة المسلمة المعاصرة.

فعائشة -رضي الله عنها- شخصية نسائية فذة جمعت خصالاً كثيرة، حتى استحقت أن تكون قدوة للرجال والأجيال، وتحدثنا في الخطبتين الماضيتين عن كرم أم المؤمنين عائشة، وعظيم إنفاقها، وبيان سياستها الناجحة في الإنفاق والصدقة، ولعلكم -معاشر المؤمنين والمؤمنات- خلال هذه الرحلة الطويلة العجيبة من حياة أم المؤمنين رغم صغر سنها تتساءلون عن الأسباب في عبقريتها وتفوقها في مجالات الحياة كلها؟ يا ترى ما هي تلك الأسباب التي أهَّلَت عائشة لنيل هذه المزايا وبجدارة؟!.

لا شك أن الوقوف على هذه الأسباب وإبرازها هو منارةُ طريقٍ لحياتنا، ومشعل يُضيء دروبنا، فهذه المواقف في حياتها تجارب ودروس لكل من أراد التفوق في جميع مناحي الحياة ومجالاتها، خاصة الفتيات اللائي يسألن وبإلحاح عن أمثل الطرق وأفضلها لنجاح الحياة الزوجية والأسرية، ولكسب الحظوة لدى أزواجهن، فعائشة بحق أنموذج رائع للزوجة الناجحة.

وأسباب النجاح ليست بعيدة التحقيق والمنال، بل هي متوافرة لكل أحد ما دامت النيةُ صادقةً، والقصدُ نبيلاً، ومن أبرز هذه الأسباب حُسْنُ علاقة عائشة بربها، وحرصها على بناء شخصيتها الإيمانية من فرائض ونوافل، ومداومتها على ذلك، "فخير الأعمال أدومها وإن قلّ"، وكما جاء عنها في صحيح مسلم أنها -رضي الله عنها- قالت: "وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا عَمِلُوا عَمَلاً أَثْبَتُوهُ".

وهكذا كانت كما سبق أن بيَّنَّا في الخطبة التي خصصناها ببيان علاقتها بربها وخالقها، وكما قيل: فمن أصلح "جوَّانيه" مع ربه أصلح الله له "برانيه" مع خلقه، كما أكده الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ".

وقد علق الذهبي في سير أعلام النبلاء على قوله -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة: "يَا أُمَّ سَلَمَةَ! لاَ تُؤْذِيْنِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ -وَاللهِ!- مَا نَزَلَ عَلَيَّ الوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا"، قال الذهبي: وَهَذَا الجَوَابُ مِنْهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى سَائِرِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ بِأَمْرٍ إِلَهِيٍّ وَرَاءَ حُبِّهِ لَهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ الأَمْرَ مِنْ أَسْبَابِ حُبِّهِ لَهَا.

لَم يكُن حبُّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه المرأة الطاهرة المبرأة حُبًّا طبيعِيًّا محضًا تُمليه العلاقة الزوجية، أو تقف خلفه الصفات الخَلْقِية ونحوها من تَمتُّع عائشة بالجمال، أو كونها البكر الوحيدة، التي بنى بها دون سائر أزواجه؛ بل كان للنَّصيب الإيماني، والرصيد الخلقي، وحسن العلاقة بمن بيده قلوب العباد ونواصيهم قصب السبق، فكان هذا السبب الأول والرئيس في حب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة هذا الحب الجم، فكسبت قلبه إلى درجة أنه -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ" قال البغوي: أَرَادَ بِهِ الحبَّ، وميل الْقلب.

ويقول ابن حزم: أخبر -صلى الله عليه وسلم- بِأَن عَائِشَة أحب النَّاس إِلَيْهِ ثمَّ أَبوهَا، وَقد قَالَ الله عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)﴾ [النجم:3-4]، فصح أَن كَلَامه -عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَام- بأحب النَّاس إِلَيْهِ وَحي أوحاه الله تَعَالَى إِلَيْهِ ليَكُون كَذَلِك، ويخبر بذلك، لَا عَن هوى لَهُ، بل لاستحقاقها ذَلِك الْفضل فِي الدّين، والتقديم فِيهِ على جَمِيع النَّاس الْمُوجب لِأَن يُحِبهَا رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- أَكثر من محبته لجَمِيع النَّاس.

ثم سبب آخر ورئيس وهو من أبرز أسباب تكامل شخصية هذه المرأة العجيبة، وهو طهارة قلبها وسلامته من الأمراض الفتاكة، كالغل والحقد والحسد والنميمة والغيبة…، وكما قال حسان في شأنها وحفظها للسانها:

حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ *** وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافِلِ

ومما يبين طهارة قلب عائشة ما روى اللالكائي عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ أَعْلَمَ النَّاسِ، وَأَفْقَهَ النَّاسِ، وَأَحْسَنَ النَّاسِ رَأْيًا فِي الْعَامَّةِ؛ أي: أنها تُحسن الظن بهم، وهكذا دائمًا أصحاب النفوس الكبيرة، والأهداف العالية النبيلة ينظرون للآخرين بعين الرضا، وبنظرة الإيجاب، والأصل عندهم حسن الظن بالآخرين، وليس سوء الظن، ولذا هم دائمًا في تعب ونصب:

وَلِكُلِّ جِسْمٍ فِي النُّحُولِ بَلِيَّةٌ *** وَبَلَاءُ جِسْمِي مِنْ تَفَاوُتِ هِمَّتِي

ومن الأسباب في بروز وتكامل شخصية عائشة علو همتها والتي تطاول الثريا، وتناطح السحاب، وتعانق السماء؛ ليس لهمتها حدود، ولا تقف في سبيلها ضعف بِنيتها، ولا قلة حيلتها، فمثلاً: عندما سمعت عن فضائل الجهاد العظيمة، وأنها أفضل الأعمال، وذروة سنام الإسلام، استأذنت رسول الله في الجهاد حتى تدرك ذلك الفضل، ففي صحيح البخاري وغيره عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: "لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ: حَجٌّ مَبْرُورٌ".

وفي رواية عند البخاري أيضًا عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَلَا نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ؟ فَقَالَ: "لَكِنَّ (وفي لفظ: لَكُنَّ) أَحْسَنَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ: الْحَجُّ حَجٌّ مَبْرُورٌ"، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَا أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.

وَفِي صَحِيح ابْن حبَان قالت -رضي الله عنها-: يَا رَسُول الله! أَلا نخرج ونجاهد مَعَك؟ فَإِنِّي لَا أرَى عملاً فِي الْقُرْآن أفضل من الْجِهَاد؟" فبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- لها أن هذا العمل للرجال، وأرشدها أن أفضل الجهاد في حقها وحق النساء، وهو الحج المبرور: "لَكُنَّ افْضَلُ الْجِهَادِ حجَ مَبْرُور" حينها قَالَتْ كلمتها التي تدل على همتها العالية: فَلَا أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.

هكذا كانت عزيمتها وهمتها في العلم والعمل، والعبادة والمبادرة، لقد كانت عائشة تكثر من الحج والعمرة أملاً للحصول على هذا الفضل العظيم،

فلَوْ كانَ النساءُ كَمَنْ ذَكَرْناَ *** لَفُضِّلَتِ النساءُ علَى الرجالِ وما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عَيْبٌ *** وما التَذْكِيرُ فَخْرٌ للهِلالِ

لقد كانت عائشة على درجة كبيرة في النبل وفي الطموحات والتطلعات قلما تجد لها نظيرًا في مثيلاتها من النساء، وبهذه الهمة العالية صارت عائشة -رضي الله عنها- أيضًا من أعلم النساء على الإطلاق، ومن العجيب أنها بلغت هذه الدرجة الرفيعة، وحازت على هذه الفضائل والمكارم من بين النساء وهي لم تتعدَّ الثامنة عشرة من عمرها! حيث توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي في هذه السن، وقد كان مرد الفضل -بعد الله تعالى- لجهدها ودأبها وسعيها الحثيث في طلب العلم والثقافات، فقد كسبت ثقافة لا نظير لها في عصرها، وبوأتها أن تكون أعلم امرأة في الأمة.

فهي، فضلاً عن أنها عالمة وفقيهة ومفسرة للقرآن الكريم وراوية ومكثرة من الحديث، ومتضلعة من كل ما يتصل بالدين من بيوع وفقه وفرائض وأحكام وأخلاق وآداب…، فهي خطيبة مفوهة، وأديبة فاضلة، ومتحدثة بارعة، نسَّابة لا يشق لها غبار، تحفظ الآلاف من أشعار العرب التي هي ديوانهم، وتحفظ الآلاف من الحكم والقصص المنثورة في شتى المجالات، قال عروة: ما رأيت أحدًا من الناس أعلم بالقرآن، ولا بفريضة، ولا بحلال ولا بحرام، ولا بشعر، ولا بحديث العرب، ولا بنسب، من عائشة -رضي الله تعالى عنها-.

فالشعر ديوان العرب، وإنَّ حفظ هذا الديوان من الأشياء التي يتشوق إليها العرب رجالا ونساءً، ليس كذلك فحسب، بل إن الحافظ لذلك، والمطلع العالم يعظم في قومه، ويُجعل من السادة المتقدمين، وقد نالت عائشة من حفظ الشعر ومنثور العرب قسطًا كبيرًا، فكانت راوية وحافظة وعالمة بهما، وتتذوق الشعر جيدًا، وتستشهد به في المناسبات، وتوظفه في حواراتها ومخاطباتها:

والحُرُّ لا يكتفي منْ نيلِ مَكْرمةٍ *** حتَّى يرومَ التي مِنْ دونها العَطَبُ يَسْعَى بِهِ أَمَلٌ مِنْ دُونهِ أجَلٌ *** إنْ كفَّهُ رَهَبٌ يَسْتَدْعِهِ رَغَبُ

فأيُّ مجد حَقَّقته عائشة؟ إنها بحق أنموذج للفتاة ذات الهمة العالية، فأين فتياتنا وبناتنا ونساؤنا اليوم من هذه القامة السامقة، والهمة العالية؟ أين هن من الاهتمام بالعلم والمعرفة، وتطوير الذات، وتنمية القدرات؟ إن عائشة -كأية امرأة- مع كل هذه الصفات تحب الجمال، وتدعو النساء إلى التجمل والتزين، وتعيب عليهن إهماله، بل هي مهتمة كل الاهتمام بهذا الجانب، فتلبس المعصفر للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وتتزين له بأحسن الزينة، حتى في الأسفار، وتتطيب له.

ولكنْ، لم تكن هذه الأمور لتشغلها عن رسالتها في الحياة، فقد كان لها أهداف وغايات، وهكذا أصحاب الهمم يستعذبون العذاب، ويجدون فيه لذتهم ما دام يحقق لهم غاياتهم، ويوصلهم إلى أهدافهم، فعند ذلك يهون على صاحب الهمة العالية تحمل كل الصعاب والمشقة، ما دامت تأتي بنتيجة، وما مثل التعب في سبيل الوصول إلى النهاية من معالي الأمور إلا كمثل الدواء المر فيسيغه المريض كما يسيغ الشراب عذبًا باردًا.

وعظيم الهمة قد يشتد حرصه على معالي الأمور حتى لا يكاد يشعر بما يلاقيه في سبيلها من أنكاد وأكدار، وبهذه الهمة والعزيمة، بلغت عائشة ما بلغت بعد فضل الله، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ؛ وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ" رواه البخاري وغيره.

ولذا كانت الجوائز السماوية تتوالى عليها، فمرة قال لها رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا عَائِشُ! هَذَا جِبْرِيْلُ، وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ". فقَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ، تَرَى مَا لاَ نَرَى يَا رَسُوْلَ اللهِ". رواه البخاري.

ومن الأسباب وأسرار تفوقها عظيم صبر عائشة على شظف العيش في بيت زوجها ومشاطرتها له في السراء والضراء، بعد أن كانت تعيش حياة رغيدة في بيت والدها، وتتقلب في رفاهية ونعمة.

ومن الأسباب أيضًا عظيمُ حُبِّ عائشة لزوجها الحبيب، ووفائِها وبِرِّها به، إلى درجة أنها كانت تغار عليه أعظم غيرة، وتفصح له كل لحظة عن مكنون حبها له، وتقول له بكلمات معبرة: ما لي لا يغار مثلي على مثلك؟!.

وكانت تحرص كل الحرص على أداء حقوقه الزوجية، وتبذل ما بوسعها لإسعاده، فتتجمل وتتزين وتتعطر حتى ولو كانت في سفر؛ فقد عاشت عائشة أفضل وأحلى لحظات حياتها مع حبيبها محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولم تمتزج حياتها معه طوال السنين التسع بكدر أو مساءة، ولم تسمح لأي منغِّص أن يعكر صفاء علاقتها بالنبي -صلى الله عليه وسلم- طيلة حياتها في كنفه، فكانت الحياة يسودها أسمى معاني الحب، ويلفها جو المودة والرحمة واللطف والمؤانسة.

ومن أسباب تفوقها تفانيها في راحة زوجها -صلى الله عليه وسلم- إلى أقصى ما يمكن، وأبعد ما يتصور، وقد ذكرنا قصة طعن أبيها في خاصرتها ومعاتبته لها عندما حبس رسول الله الجيش بسبب البحث عن عقد عائشة، ومع كل هذا لم تتحرك عائشة أدنى حركة حتى لا يستيقظ رسول الله الذي كان رأسه في حجرها، والخلاصة أنها حرصت أن تكون زوجة مثالية لزوج مثالي بكل ما تحمله كلمة (المثالية) من معنى.

أيتها الزوجات! هذه جملة أسباب كانت وراء تفوق عائشة، وبروزها: عبادة وحسن علاقة بربها، وهمة وعزيمة، وتكامل علمي وثقافي، ذكاء لماح، وخلق رفيع، وعبقرية فذة، أنتجت هذه الشخصية العجيبة، وحب ووفاء، ومودة رحمة، واحترام للحقوق، وأداء للواجبات، وتحمل للمسؤوليات، وتفان في توفير الراحة النفسية والبدنية، فتأملن -أيتها الفتيات المباركات، ويا أيتها النساء الكريمات-.

وإياكن الاعتقاد بأن عائشة وصلت إلى ما وصلت إليه من تكامل في شخصيتها وتنوعها لاعتبار كونها زوجًا للنبي الكريم فقط! أو بنتًا لثاني رجل في الأمة أبي بكر فقط! أو أن الأمر كان محض صدقة وضربة حظ! كلا :

بِجِدِّي لا بِجَدي كُلُّ مَجدي *** وما الْجَدُّ بلا جِدٍّ بمُجْدي

فإن سنة الله في الخلق واحدة لا تتغير، ومن طلب العلا سهر الليالي، فالوصول إلى معالي الأمور، ونيل المكارم، وإحراز الفضائل، لا يُعْبَر إليه إلا على جسر من التعب والنصب، فكل مهمة لها ضرائب، وكل إنجاز لا يأتي إلا على عرق الجبين، وكد اليمين، فمن لم يكن مستعدًّا لدفع الضريبة فلا يطمعن في الحصول على مبتغاه.

فهيا -معاشر الإخوة والأخوات!- لِنتعلم سيرة عائشة، ولْننظر بأسباب وجوانب نبوغها، ثم لنستفد منها، ولنُعَلّم سيرتها للتلميذات والبنات لشحذ همتهن، وحثهن على الاقتداء بها، ولجعلها كقدوة ومعلمة يتعلمن من حياتها الدروس والعبر.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.