الحدود والعقوبات الشرعية

عناصر الخطبة

  1. حفظ الإسلام للضروريات العامة
  2. فوائد وثمرات العقوبات والحدود الشرعية
  3. كراهية بعض الناس للحدود الشرعية
  4. مفاسد عدم إقامة العقوبات والحدود الشرعية
اقتباس

أيها الناس: حفظ الضروريات فيه حياة الناس وأمنهم وسعادتهم واطمئنانهم، فلا جرم أن جاءت التشريعات الحكيمة بالعقوبات التي تحفظ على الناس هذه الضروريات، ففي إيجاب حد الردة حفظ الدين، وفي حد الزنا حفظ الأنساب، وفي حد الخمر حفظ العقول، وفي حد القذف حفظ الأعراض، وفي حد السرقة حفظ الأموال، وفي القصاص حفظ النفوس والأعضاء، وفي…

الخطبة الأولى:

أيها الناس: حفظ الضروريات فيه حياة الناس وأمنهم وسعادتهم واطمئنانهم، فلا جرم أن جاءت التشريعات الحكيمة بالعقوبات التي تحفظ على الناس هذه الضروريات، ففي إيجاب حد الردة حفظ الدين، وفي حد الزنا حفظ الأنساب، وفي حد الخمر حفظ العقول، وفي حد القذف حفظ الأعراض، وفي حد السرقة حفظ الأموال، وفي القصاص حفظ النفوس والأعضاء، وفي التعزيرات والعقوبات الشرعية ما يمنع النفوس الضعيفة من استمراء العدوان، واحتراف الجريمة، وإهانة كرامة الإنسان الذي كرّمه الله، كما أن فيها إنصاف المظلوم من ظالمه، وشفاء لما يجده المعتدى عليه في صدره من الغيظ والغضب، ومنع استطارة الانتصاف من الظالم بما يؤول إلى الظلم أو الفتنة، كما كان سائدا في الجاهلية: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179].

﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [الإسراء: 33].

﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].

إن هذه التشريعات المحكمة في قدرها وصفتها وشرائطها أمان للمجتمعات والأفراد؛ لأن من الناس من يكون ضعيف الإيمان، لا يحجزه عن الجريمة والعدوان، والاستهانة بالدماء والأموال والأعراض، ولا يكفه عن إشاعة الفاحشة وممارستها، إلا العقوبة التي تردعه عن ذلك قبل الوقوع فيها، وتزجره عن معاودتها، كما تزجر غيره عن إتيانها، فلله الحمد على ما شرعه من هذا الشرع الحكيم.

كما أن هذه الحدود رحمة للمعتدي لكونها كفارات لما أصابه من الحدود؛ ففي الصحيحين عن عبادة بن الصامت: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: "بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ" فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.

كما أنها رحمة للمجتمع لما فيها من القضاء على أسباب الانحراف والجريمة، وتحقيق الأمن لأفراده، الذي هو حق مكفول لهم بموجب الدلائل الشرعية.

والعجب من قوم ينظرون إلى الجاني دون المجني عليه، فينتصرون لمنع الحدود والقصاص رأفة بالظالم، وحفظا لإنسانيته، زعموا، ولكنهم يجهلون أو يتجاهلون أن إهدار حق المجني عليه أو وليه قسوة وظلم وإهانة له، وتجريد له من إنسانيته،  كما أن نظرهم القاصر فيه تشجيع على ممارسة الجريمة إذا لم يكن ثمة عقوبة رادعة، ولا أكمل ولا أعدل من حكم الله؛ كما قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].

إن الذي يقتل وهو ضامن أنه لا يقتل، ليس كمن يعلم أنه إذا قتل قُتل، والذي يسرق وهو يعلم أنه لا تقطع يده، ليس كمن يعلم أنه يقطع، والذي يعتدي على أعراض الناس فيقذف المؤمنين والمؤمنات بالفاحشة وهو يعلم أنه لا يحدّ بثمانين جلدة، ليس كمن يعلم ذلك، والذي يقطع الطريق ويحارب الله ورسوله وهو يعلم أنه لن يعاقب بما قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ [المائدة: 33] فسيسعى في الأرض فسادا، وسيصيب الناسَ منه العنتُ والمشقة.

إنها تشريعات من لدن حكيم خبير، تضع الأمور في نصابها، وتؤمّن الناس، وتردع الظالمين، وتقيم العدل، وتنشر السلام، وتهذّب الأخلاق، واستمعوا إلى قول الله -تعالى-: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 2].

واستمعوا إلى ما رواه الشيخان عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: "إنَّ قُرَيشا أَهَمَّهُمْ شَأنُ المرأَةِ المَخزوميَّةِ التي سَرَقَتْ، فقالوا: مَنْ يُكلّمُ فيها رسولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- ؟ فقالوا: ومَنْ يَجتريءُ عليه إلا أُسامَةُ بن زَيدٍ، حِبُّ رسولِ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، فَكلَّمَهُ أُسَامَةُ، فقال رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "أتَشفَعُ في حدٍ مِنْ حُدودِ اللَّه؟" ثم قام فَاخْتطَبَ، ثم قال: "إنَّما أَهلك الذين قبلكم أنَّهمْ كانوا إذا سَرقَ فيهم الشَّريفُ تَرَكُوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أنَّ فاطمةَ بنْتَ محمدٍ سَرَقَت لقطعتُ يَدَهَا".

صدق وبرّ وبلّغ صلوات ربي وسلامه عليه، في تقرير هذا المنهج في إقامة حدود الله، تعظيما لله، وإذعانا لأمره، وإقامة لشرعه، لا يمنعه من ذلك غنى غني، ولا قرابة قريب، ولا شفاعة ذي جاه، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولا تمنعه رحمة من إقامة عدل، بل الرحمة كلها في إقامة حدود الله، والاستجابة له.

ألا وإن إنكار هذه التشريعات، أو عدمَ الرضا به، أو استهجانَها، أو القدحَ فيها والحطَّ من شأنها، ضلال عن الحق، وردّة عن الإسلام، كما أنها قصور في الإدراك، وسفه في العقل؛ وحِكَم هذه الحدود والعقوبات الشرعية الظاهرةُ برهان على ذلك، وقد استجلاها علماء الأمة الراسخون، وأذعنوا لها، وما زادهم ذلك إلا إيمانا وتسليما، وقد قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36].