صور من الإسراف والتبذير

عناصر الخطبة

  1. حفظ الضروريات من أصول الشريعة
  2. الإسراف فعل يبغضه الله ورسوله
  3. مجالات يدخلها الإسراف المحرم
  4. ضرورة الحفاظ على المال العام للمسلمين
  5. المحافظة على المال وعدم الإسراف فيه
اقتباس

ذكر العلماء أنَّ الإفراط في تناول المُباحات، والتَّوسُّع العظيم فيها، وبذل الأموال الكثيرة فوق قدْر الحاجة، بما فيه زيادةُ تَرَفُّه وتَنَعُّم مبالَغ فيه، كلُّ ذلك من الإسراف الذي لا ينبغي. قال الزَّجَّاجُ -رحمه الله- في تفسير الإسراف: “لا تأكلوا من الحلال فوق الحاجة”، ويقول أحد المحقِّقين: “الإسراف: هو الزِّيادة في صرف الأموال على مقدار الحاجة، والتَّبذير: صرفها في غير وجهها”.

الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله النَّبيُّ المصطفى، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِكْ عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء. 

أمَّا بعد:

فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -جلَّ وعلا-؛ فهي سبب النجاح ومَدْرَج الفلاح.

إخوة الإسلام: إنَّ الأصول التَّشريعية، والقواعد القرآنية، والمبادئ النبوية، أصلُ التوسُّط والاعتدال في جميع الأمور وفي كلِّ الأحوال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ [البقرة: 143].

ومن أصول الشَّريعة أيضًا: حفظ الأمور الضرورية للنَّاس، وهي: الدِّين، والنَّفس، والمال، والعِرْض، والعقل، ومن هذا المنطلق جاءت النُّصوص الشَّرعية تحذِّر من الإسراف والتَّبذير، وتنْهى عن البخل والتَّقتير.

إخوة الإسلام: الإسراف فعلٌ يبغضه الرَّب -جلَّ وعلا-، وتصرُّفٌ يذمُّه المولى العظيم؛ يقول -جلَّ وعلا-: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]، ويقول -سبحانه وتعالى- في وصف عباده الأتقياء: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67]، ورسولنُا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كُلوا واشربوا وتصدَّقوا، من غير إسرافٍ ولا مَخِيلَةٍ". حديثٌ رواه أحمدُ والنَّسائيُّ وابن ماجه، وسنَدُه صحيحٌ.

ويقول -صلى الله عليه وسلَّم- في الحديث المتَّفق عليه: "إنَّ الله حرَّم عليكم عُقوقَ الأُمَّهات، ومنعًا وهات، ووأد البنات، وكَرِه لكم قِيلَ وقالَ، وكَثْرةَ السُّؤال، وإضاعةَ المال". يقول النَّوويُّ -رحمه الله- ومعنى قوله: "إضاعة المال"؛ أي: تبديده وصرفه في غير الوجوه المأذون فيها من مقاصد الآخرة والدُّنيا، وتركُ شبه ما أمكن فعله.

إخوة الإسلام: من المجالات التي يدخلها الإسراف المنهيُّ عنه: التَّجاوُز في الزِّيادة على القدر الكافي من المأكل والمَشرب والملبس: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]، والمراد بأَخْذ الزِّينة: ستر العورة في الصلاة، وسترها باللباس النَّظيف الحسن الجميل، من غير إسرافٍ ولا مَخِيلَةٍ؛ يقول -صلى الله عليه وسلَّم-: "ما مَلأَ آدَمِيٌّ وِعاءً شرًّا من بطنه، بحسْبِ ابنِ آدَمَ أكلات يُقِمْنَ صُلْبَه، فإن كان ولا محالةَ؛ فَثُلُثٌ لطعامه، وثُلثٌ لشرابه، وثُلثٌ لنَفَسه". والحديث حسنٌ كما قاله التِّرمذيُّ.

معاشر المسلمين: ذكر العلماء أنَّ الإفراط في تناول المُباحات، والتَّوسُّع العظيم فيها، وبذل الأموال الكثيرة فوق قدْر الحاجة، بما فيه زيادةُ تَرَفُّه وتَنَعُّم مبالَغ فيه، كلُّ ذلك من الإسراف الذي لا ينبغي.

قال الزَّجَّاجُ -رحمه الله- في تفسير الإسراف: "لا تأكلوا من الحلال فوق الحاجة"، ويقول أحد المحقِّقين: "الإسراف: هو الزِّيادة في صرف الأموال على مقدار الحاجة، والتَّبذير: صرفها في غير وجهها".

وقد وَرَدَ في الهدي النبوي ما يُرشد إلى هذا التأصيل، ويبيِّن صحة هذا التقرير، وأنَّ ما دَرَجَ عليه بعضُ النَّاس من الإسراف في الأمور التَّحسينية، والمباهاة في الشؤون التكميلية، أمرٌ لا يُحمَد شرعًا.

عن عُروة -رضي الله عنه- عن عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها- قال: "دخلتُ عليها فقالت لي: والله -يا ابن أختي- إنْ كنَّا لننتظر الهلالَ، ثم إلى الهلال، ثم إلى الهلال؛ ثلاثةَ أَهِلَّةٍ في شهرين، وما أُوقِدَ في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نارٌ!! فقلتُ: يا خالة: فما كان يُعيّشُكُم؟! قالت: الأَسْوَدان -التَّمر والماء-، إلا أنه كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيرانٌ من الأنصار، وكانت لهم منائح -أي من الإبل- وكانوا يرسلون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ألبانها فيسقينا". متفقٌ عليه.

وعن عائشة -رضي الله عنها- أيضًا قالت: "ما شبع آل محمدٍ من خبز شعيرٍ يومين متتالين حتى قُُبض".

وفي البخاريِّ عنها -رضي الله عنها- قالت: "كان فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أَدَمٍ -أي جِلْدٍ-، وكان حَشْوَهُ الليفُ".

أيها المسلمون: ليس من شأن المسلم المبالغةُ في التنعُّم، والاسترسال في الملذَّات بما يبعده عن الكمال في أمور الدِّين، وبما يوقعه في ركونه إلى هذه الدُّنيا الفانية.

عن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الأنصاريِّ -رضي الله عنه- قال: ذكر أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا عنده الدُّنيا فقال -أي: فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم-: "ألا تَسْمعون، أَلا تَسْمعون، إنَّ البَذاذَةَ من الإيمان، إنَّ البَذاذَةَ من الإيمان".

ولكنْ -عباد الله- هذا لا يعني أنَّ الإسلام يحرِّم التَّنعُّم بما خلق الله من الطيبات، وإنما المراد أن يوطن المسلم نفسه على الاعتدال وعدم الإسراف في المباحات، وعدم الإسراف في المشتَهَيات فوق الحاجة؛ حتى لا تقع النَّفس الأمَّارة بالسُّوء في المأثم وأكل الحرام؛ فعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنَّ الله يحبُّ أن يرى أثر نعمه على عبده". والحديث إسناده صحيحٌ بشواهده.

إخوة الإسلام: ومن الإسراف المحرَّم: الإسراف الواقع من بعض المسلمين في حفلات الزواج، من التنافس في البذخ وإنفاق الأموال الطَّائلة؛ فذلكم خطرٌ عظيمٌ على مستقبل الزوجين؛ بل وعلى المجتمع ككلٍّ، والله -جلَّ وعلا- سائلٌ كل عبدٍ عن ماله فيما أنفقه؟! فليُعدَّ للسؤال جوابًا، وليُعدَّ للجواب صوابًا.

ويبلغ الخطر شأنًا عظيمًا حينما يقع النَّاس في إلقاء المأكولات في المَوَاطن المُمْتَهَنَة -لا قدَّر الله- وهذا كفرٌ بالنِّعم، وسببٌ في تحوُّلها وزوَالها، وربُّنا -جلَّ وعلا- يقول: ﴿وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً(27)﴾ [الإسراء: 26 – 27].

ذكر الماوردي عن بعض أهل العلم قوله: "إن التَّبذير هو الإسراف المتلف للمال"، وقال أبو عُبَيد: "المبذِّر: هو المسرف المفسد الآيس".

يقول ربنُّا -جلَّ وعلا- محذِّرًا من الإنفاق فيما لا ينبغي، أو الزيادة على ما ينبغي: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً﴾ [الإسراء: 29].

أيها المسلمون: من أخطر أنواع الإسراف: إنفاق الأموال في الباطل وصرفها بالمحرَّمات، وأخبث هذا النوع: أن يوجِّه الإنسان أمواله بإفساد المسلمين وإغواء شبابهم، كمَنْ يوجِّه أمواله لبثِّ الهجوم أو لمحاربة الدِّين، كما يحدث في بعض وسائل الإعلام اليوم.

يقول ابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهم-: "التبذير إنفاق الأموال في غير حق"، ويقول مجاهد: "لو أنفق الرجل مُدًّا في غير حقٍّ؛ كان مبذِّرًا"، ويقول الزهري: "الإسراف -مبيِّنًا الإسراف الأعظم- بأنه إنفاق المال في المعاصي".

بل -يا عباد الله- الإنفاق في معصية الله -جلَّ وعلا- هو حقيقة التبذير التي يتصف الإنسان معه بخُلُق الشيطان، ويكون بهذا المعنى من إخوانهم، وبالتالي يبوء بالخذلان والخسران.

أيها المؤمنون: إن المال العام -أي مال الدولة- أمانة عظيمة على جميع الأمة، واجبٌ الحفاظ عليه، فرضٌ على كل مؤمن صيانته وعدم التعدي عليه؛ لأنه مال للمسلمين جميعًا، وإن على كل جهة ولاَّها ولي أمر المسلمين مسؤوليةً ما أن تحفظ أموال هذه الجهة، وأن لا تندبها إلا في مصارفها المشروعة شرعًا، المأذون فيها من قِبَل ولي الأمر، وإنَّ من الذنب العظيم والإثم المبين أن يولِّيَك الله -أيها المسلم- أمانة المسؤولية في المال العام ثم تبذره سُدًى، أو تصرفه في غير نفعٍ مهمٍّ للبلاد والعباد؛ فرسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول مخاطبًا أفراد الأمة: "إن رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حقٍّ؛ فلهم النار يوم القيامة". رواه البخاري.

فالحذر الحذر يا مَنْ تولَّيْت للمسلمين منصبًا وظيفيًّا، أن تزلَّ بك القَدَم ويضلَّ بك الصراط؛ فتهمل في واجبك، أو أن تَحيد بِمسؤوليَّاتك؛ فتقع في الإسراف والمبالغة في الإنفاق على المشاريع العامة بأموالٍ مُبالَغٍ فيها، وأسعارٍ زائدةٍ عن مَثيلاتِها، فالله -جلَّ وعلا- هو المتولِّي لحسابك وعقابك.

يقول أحدُ الولاة لولاته -وهو أحد ولاة المسلمين-: "ولا تصرف أموال الدولة في ترفٍ أو لهوٍ، أو في أكثر من قَدْر اللُّزوم؛ فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك".

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونَفَعَنا بسُنَّة سيد ولد عدنان -عليه أفضل الصلاة والسلام-.

أقول هذا القول، وأستغْفِرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ سيِّدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بوصية الله -جل وعلا- للأوَّلين والآخرين، وهي لزوم تقوى الله -جل وعلا- ولزوم طاعته سرًّا وجهرًا، ليلاً ونهارًا.

عباد الله: الماء نعمةٌ عظمى، وهبةٌ ومنحةٌ كبرى، وإن الواجب على المسلم أن يعلم أن الماء نعمةٌ واجبٌ حفظها، محرَّمٌ الإسراف فيها، فلقد وجَّه رسول الله -صلى الله وسلم عليه- أمته إلى هذا المغزى، وضرب لهم المثل الأروع في المحافظة على هذه النعمة العظمى.

عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، إلى خمسة أمداد". رواه مسلم.

ولقد حرص الإسلام على مصادر المياه، ووجه إلى ترشيد استعمال الماء، وعدم إهداره وتلويثه بأي سبب كان؛ فعن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نهى أن يُبال في الماء الراكد". رواه مسلم.

أيها المسلمون: إن من أفضل الأعمال وأزكاها عند ربِّنا -جلَّ وعلا- الإكثارُ من الصلاة والتَّسليم على النبي الكريم؛ اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.