أبواب التوكل

عناصر الخطبة

  1. أهمية التوكل
  2. حقيقة التوكل
  3. مجالات التوكل وميادينه
  4. علامات صحة التوكل
  5. الثقة الكاملة بأن سينصر دينه وأوليائه
اقتباس

المؤمن يتوكل الله في ترك ما حرَّم الله عليه، علم أنَّ لله حدوداً فلم يتعدَّها، فهو في جهادٍ مع نفسه، استفرغ طاقته، وبذل جهده، أبعد عن مواطن الزلل، وهجر أسباب المعاصي، متوكلاً على الله في العصمة من أسباب سخطه، ومتوكلاً على الله في أن الله يغنيه بطاعته عن معصية، ومن ترك …

الخطبة الأولى:

الحمد لله كفى من توكل عليه وهدى، وأغنى من استغنى به واتقى، وأشهد أن لا إله الله، أعظم جزاء المتوكلين، وتوعد من ركن إلى غيره من العالمين.

وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه حقَّق توكلَه للربِّ الرحمن الرحيم، صلى الله عليه وعلى آله والتابعين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

حديث إليكم -أيها الإخوة- عن مقامٍ عظيمٍ، وعمل قلبي كريم، وهو مركبُ السائرين، وعمدة السالكين، أمر الله به في كتابه: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23].

فالتوكل شعارُ أهلِ الإيمان، وتعظمُ بسببه صلتهم بالرحمن، وبه يتميزون: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2].

ولقد ضمن الله لمن توكل عليه القيام بأمره، وكفاية همه، فقال: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[الطلاق: 3].

وبالتوكل ينال العبد محبة الله -تعالى-: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[آل عمران 159].

أما حقيقة التوكل: فأن يعلم العبدُ أنَّ الأمرَ كلَّه لله، وأنَّ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه هو النافع الضار المعطي المانع، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فبعد هذا العلم يعتمدُ بقلبه على ربه في جلب مصالح دينه ودنياه، وفي دفع المضارِ، ويثق غاية الوثوقِ بربه في حصول مطلوبه، وهو مع هذا باذلٌ جهده في فعلِ الأسبابِ النافعة.

فالتوكل اعتماد وعمل، فلا مجال للبَطَّالين، وإن ادعوا التوكل بألسنتهم فهم متواكلون؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قال جاء رجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: أعقل ناقتي وأتوكلُ، أو أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- : "اعقلها وتوكل"[إسناده حسن].

إنَّ التوكل على الله مطلب يشغل به الإنسانُ قلبه في كلِّ وقتٍ، فهو باذل قدرته، مقدم ما يستطيعه من أسباب مادية ثم بعد ذلك يكل أمره إلى ربِّه: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ﴾[القصص: 68].

فإن تم ما خطط له، ووافق رغبته فهذا تيسير الله وفضله، وإن كان غيرُ ذلك علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 51].

ومع كون التوكل مطلباً لا يفارق الإنسان إلا أنه يظهر في مجالاتٍ كثيرة، وميادين واسعة.

فالمؤمن يتوكل الله في جانب الطاعة، فهو مجتهد في طاعة الله متوكل على الله في إعانته على فعلها: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5].

ثم هو متوكل على الله في تسديدها، وتكميل نقصها، وسدِّ خللها، ثم في قبولها، وادخار أجرها؛ فهو عابد متوكل: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ [النمل: 79].

﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾[إبراهيم: 12].

والمؤمن يتوكل الله في ترك ما حرَّم الله عليه، علم أنَّ لله حدوداً فلم يتعدَّها، فهو في جهادٍ مع نفسه، استفرغ طاقته، وبذل جهده، أبعد عن مواطن الزلل، وهجر أسباب المعاصي، متوكلاً على الله في العصمة من أسباب سخطه، ومتوكلاً على الله في أن الله يغنيه بطاعته عن معصية، ومن ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه.

ومن مجالات التوكل: طلبُ الرزق والبحثُ -كما يقال- عن لقمة العيش التي أشغلت عقولا، وأنْهَكت أبداناً، لا بدَّ مع بذل سببها من التوكل على الله؛ لأنَّ الله يقول: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6].

﴿وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾[العنكبوت: 60].

﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾[الأنعام: 151].

فرزقك ورزق أولادك، ومن تحت يدك كله في قبضة الله، ويد الله ملئ، لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار.

فحينما تطلب تجارة، أو تسابق على وظيفة، أو تفتش عن عمل فلا تنس أن تشفع هذا كله بصدق التوكل على الله.

وإياك أن تلج باباً محرماً، فتستبيح رباً، أو تأخذ رشوةً، أو تتساهل في مالٍ لا يحلُّ؛ فلقد لعن النبي –صلى الله عليه وسلم- : "آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه"، "ولعن الراشي والمرتشي".

فإنَّما الأرزاق تطلب بطاعة الله، وصدق التوكل عليه، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ جبريل نفث في روعي: أنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب".

قيل لأحد السلف: علام بنيت أمرك في التوكل؟

قال: "على أربع خصال: علمتُ أنَّ رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغولٌ به، وعلمت أنَّ الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من نظر الله فأنا مستحي منه".

إن من صحة التوكل: بذلَ الأسباب الصحيحة في مجالها الصحيح فلا إفراط ولا تفريط، فمن أفرط فقد تجاوز الحدَّ وربَّما وصلت به الحالُ إلى سوء الظنِّ بالله، والتشاؤمِ من كلِّ شيء، وبكل شيء، فهو لا يأنس بمجالسة الناس، ولا يتبسط إليهم لضعف توكله على الله فهو يخشى أذيتهم، أو أن يحسدوه على ما آتاه الله من فضله.

وهو كذلك لا يهنأ بأكله ولا شربه يخشى أن يلحقه ضرر من طعامٍ أو شرابٍ يتناوله.

فعاد ضعفُ توكله قلقاً في حياته، وحَيْرة في أفعاله فهو خائف من لا شيء، يحذر من كل شيء.

ولأجل ما للتوكل على الله من أهمية في حياة الإنسان، صار مما يشرع للإنسان أن يقولَ عند خروجه من منْزله: "بسم الله توكلت على الله، لا حول، ولا قوة إلا بَالله".

قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قال -يعني إذا خرج من بيته-: بسم الله توكلت على الله، لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله يقال له: هديت وكفيت، ووقيت، وتَنَحَّى عنْه الشيطان".

وإن الشيطانَ أبعدُ ما يكون من المتوكلين، فلا سلطانَ له عليهم: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: 99].

رزقنا الله وإياكم التوكل عليه، والثقة بما عنده…

أقول قولي هذا …

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى.

أما بعد:

إن من التوكل على الله أن تثق بالله -عز وجل-، وتجزم أن الله ناصر دينه، ومعز أولياءه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾[الحـج: 38].

﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160].

فالتوكل على الله في كون الدائرة للمسلمين بأسباب ظاهرة أو خفية لا يحققه إلا بعيد النظر، يعلم أن لله أسراراً في كونه قد لا ترى من ظاهرها، ولا يستبينها الناس إلا بعد انكشافها: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ(174)﴾ [آل عمران: 174- 173].

وإن هذا الدين لم يقم على فرش الحرير قد أحيطت بالورود، وإنما قام على بذل وتضحية، ولا يزال أعداء الدين يخلقون العوائق دونه، ويصدون الناس عن سبيله.

والبلاء قرين الإيمان، ويبتلى المؤمن على قدر إيمانه.

وإن المؤمنين أمة واحدة فإن نجح المستعمر في تفريقهم جغرافياً، ووضع الحدود المكانية، فلن ينجح في تفريقهم وجهة ومنهجاً -بإذن الله-: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ﴾[البقرة: 143].

﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92].

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾[الحجرات: 10].

وقد تابع العالم أجمع أحداث بلاد الإسلام مصر، ووقف على جرائم الظالمين لحظة بلحظة: ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ [البقرة: 156].

ولا نكدر خواطركم في استرجاع الصورة الوحشية التي انتهت بمئات القتلى، وآلاف المجروحين، وعشرات آلاف المروعين.

ولا أظننا بحاجة أن نذكر بنصوص تحريم الدم المعصوم، وبيان إثم ترويع الآمنين: "وأن المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً".

ولا نقول إلا: أحسن الله عزاء الأمة الإسلامية بهؤلاء القتلى، ونسأل الله أن يكتبهم في الشهداء، وقد مات بعضهم حرقاً، والحريق شهيد، وأحسن الله عزاء إخواننا المصريين، وأحسن الله عزاء ذويهم المقربين.

فاللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وتجاوز عن سيئاتهم.

اللهم اجبر كل مصاب بهم، واربط على قلوبهم، وأنزل سكينة في دورهم.

اللهم إنا نسأل أن تحفظ بلاد مصر من كيد الكائدين، وأن تلهمهم رشدهم، وصواباً في رأيهم ووحدة في صفهم، وأن لا تفرح عليهم عدوهم، وأن تقيهم شرور أنفسهم، وأن تولي عليهم خيارهم، وتقيهم شرور أشرارهم، وأن تقيهم سوء ما يستقبلون، وأن تؤمنهم مما يحذرون.

وأما الظالمون، فاللهم لا تجعل لهم يداً على المسلمين، اللهم أبطل سعيهم، واجعل دائر السوء عليهم يا قوي يا عزيز.

على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.

أيها الإخوة: في ظل هذه المآسي والتمحيصات للأمة ينتعش من قال الله فيهم: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 47].

فلا تكونوا أبواقاً ترددون كل ما تسمعون، وأذناباً للمتشفين من الكتاب والإعلاميين.

ومن لم يستوعب الحدث، فليطهر لسانه بعد أن طهره الله من تلك الدماء المراقة، وليسأل الله العفو والعافية.