الإسراء والمعراج .. دروس ودلالات وعبر (2)

عناصر الخطبة

  1. معجزة الإسراء والمعراج وتكريم الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-
  2. بعض مقامات تشريف الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-
  3. شرف العبودية وفضلها
اقتباس

أعظم لقب، وأشرف وصف اختاره الله -عز وجل- للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو: أنه عبد، ولو كان هناك وصف أشرف من هذا الوصف لسماه به في ذلك المقام العلي الذي لم يبلغه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل. وليس في هذا المقام الذي يصفه بهذا الوصف فحسب، بل…

الخطبة الأولى:

الحمد لله الكريم الودود، والملك المعبود، المعروف بالكرم والجود، أحمده سبحانه على ما اتصف به من صفات الجلال والإكرام، وأشكره على ما أسداه من جزيل الفضل والإنعام.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبوئ من حققها جنات النعيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل من دعا إلى الدين القويم، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم على النهج السليم.

ما زلنا -معاشر المؤمنين والمؤمنات- نعيش في رحاب الذكرى المباركة: "الإسراء والمعراج .. دروس ودلالات وعبر"، واليوم -بإذن الله- مع الدرس الثاني.

ولقد كان الحديث في الجمعة الماضية عن الأجواء والأحداث التي كانت قبل الإسراء والمعراج، حيث تكالبت قوى الشر والباطل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد تمثل ذلك بصب سيل كبير من الشبهات والدعاية المضللة والحصار والإيذاء، فجاءت رحلة التكريم ورحلةُ الإعجاز الإلهي العظيم: "رحلة الإسراء والمعراج".

وقد أراد الله لهذه الرحلة المباركة أن تكون منحة بعد محنة، ونصرا بعد صبر، وفرجا بعد كرب، ويسرا بعد عسر.

هذه المعجزة إن دلّت على شيء؛ فإنها تدل على تكريم الله -تبارك وتعالى- لهذا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وإظهار منزلتِه عند الله جلت قدرته، وعزت عظمته؛ حيث تبدأُ هذه الرحلة بالتسبيح، قال سبحانه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: 1]، فسبحان اسم مصدر من سبَّح يُسبِّح، والتسبيح هو التنزيه، أي أن الله -تعالى- ينزه نفسه عن كل نقص وعيب، فهو سبحانه مُنزه عن مماثلة المخلوقين والأنداد.

الله ?واحد متفرد في ?ذاته، و?احد في صفاته لا شبيه له، ?واحد في أفعاله لا شريك له، واحد في ألوهيته لا معبود بحق سواه، تفرد سبحانه بالكمال والمجد والجلال والجمال والحمد والحكمة والرحمة، وغيرها من الصفات، فليس له فيها مثيل ولا نظير ولا مناسب بوجه من الوجوه: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)﴾ [الإخلاص: 1 – 4]، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].

فالبداية تسبيح وتنزيه لله -سبحانه-، الله العلي الأعلى يُنزه نفسه ويمجد ويعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، قال ربنا: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: 1]، والمراد: ﴿بِعَبْدِهِ﴾ محمد -عليه الصلاة والسلام- بإجماع المفسرين.

ولنا أن نتساءل -معاشر العباد-: لماذا لم يقل ربنا -سبحانه-: "بمحمد" أو "برسوله" أو "بنبيه"؟ لأن معجزة الإسراء والمعراج العظيمة التي هي إرادة الله ومشيئته هي مقام تشريف وإكرامٍ لا يَعدِلها مقام.

ولشرف المقام وعلوه فأعظم تزكية وأعظم شهادة من الله: أن يختار لرسوله -صلى الله عليه وسلم- هذا الوصف: ﴿بِعَبْدِهِ﴾.

أعظم لقب، وأشرف وصف اختاره الله -عز وجل- للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو: أنه عبد، ولو كان هناك وصف أشرف من هذا الوصف لسماه به في ذلك المقام العلي الذي لم يبلغه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.

وليس في هذا المقام الذي يصفه بهذا الوصف فحسب، بل يصفه في مقامات أخرى هي كلها منازلُ تشريف وتفضيل وتكريم، ففي مقام العروج، وهو في أعلى المقامات وأشرفها، مقامِ القرب منه سبحانه، فيقول: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: 10].

ويصفه كذلك في مقام الدعوة إليه سبحانه، وفي مقام تبليغ الرسالة، وهي أشرف وظيفة، فيقول سبحانه: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن: 19].

وفي مقام الاصطفاء وإنزال الوحي عليه، يقول ربنا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾ [الكهف: 1].

وفي مقام التحدي يقول ربنا: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: 23].

فالله -سبحانه وتعالى- يريد أن يلفتَ أنظارَنا إلى أنّ العبودية له سبحانه هي أسمى وأشرفُ المراتب وأرفعُ المقامات، وما خاطب الله أحبَّاءَه من الأنبياء والرسل إلا بالعبودية؛ قال تعالى: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: 3].

وقال عن أيوب -عليه الصلاة والسلام-: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 44].

أما عيسى -عليه الصلاة السلام-، فقد قال فيه ربنا: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ [الزخرف: 59].

فالعبودية لله -تعالى- معاشر العباد- هي غاية الوجود الإنساني في الحياة الدنيا، وهي أحب شيء إلى الله، ولأجلها خَلقَ الجن والإنس، ولأجلها شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، قال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].

فأشرف أحوال الإنسان، وأسمى مقاماتِه وأرقاها وأعلاها، حين يكون عبدا لله، فرب العزة -جل جلاله- ما خلق الإنسان ليكون عبدا لغيره، بل خلقه ليكون عبدا له وحده، وذلك هو الشرف كله والعز بعينيه.

أما عبودية الإنسان لغير الله، أما عبودية الإنسان للأهواء والشهوات، فذلك عين المهانة والهوان والذل والاحتقار، والإسلام قد جاء ليخرج الناس من الذل والمهانة، إلى العز والشرف والكرامة، ومن ضيقِ الدنيا وأَسرِ شهواتِها وزينتِها إلى سَعَةِ الدنيا والآخرةِ، ومن عبادة المخلوقين والأهواء والشهوات، إلى عبادة رب العباد والأرض والسموات القائل سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70].

فكرامة الإنسان وعِزُّه وشرفه، حريته وسعادته؛ إنما يتحقق ذلك في أبهى صورة، إذا قرر هذا الإنسان أن يتحلى بثوب العبودية لله الواحد الأحد الكبير المتعال، لكن هذا التحقق يجب أن يُترجم أفعالا على أرض الواقع، لا أن يكون مجرد كلامٍ يلوكه اللسان، أو دعاوَى يُكذبها واقع الحال.

فالإنسان حين يتحقق بالتحلي بالعبودية لله على الوجه الذي يحب هو سبحانه ويرضى، سيعيش في دنياه حرا كريما عزيزا، وسيموت يوم يموت وهو في قمة السعادة.

أما الخروج عن تلكم العبوديةِ فهو امتهان لذات الإنسانِ، وإذلالٌ له بالعبودية لغير الله، وذلك هو الجهل والضلال والخزيُ والهوان والذل في الدنيا والآخرة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله.

معاشر العباد: ليس أشرف للإنسان العاقل من أن يعبد من خلقه فسواه فعدله، ويطرح عبادة كل ما سواه ومن سواه.

ليس أجلب لسعادة الإنسان وسلامة ضميره من توجيه همه إلى إله واحد يخصه بالخضوع والحب، يخصه بالطاعة والانقياد والاستسلام، فلا تتوزعُ قلبَه الآلهةُ والأرباب المُزيفون فيتنازعونه فيما بينهم.

وقد ضرب الله لذلك مثلا، فعبد يملكه سيد واحد، وهو يعلم ما يطلبه منه سيده وما يكلفه به، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح، إذ عرف هذا العبد ما يُرضي سيِده فأداه بارتياح وانشِراح، فهو ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين.

وعبدٌ له أرباب، فيه شركاء متنازعون ومختصمون، كل واحد يوجهه حسب ما يشتهي، يأمره أحدُهم بعكس ما يأمره غيره، فهو بينهم موزع وحائر لا يعرف الراحة والاستقرار، ولا يملك أن يُرضي أهواءهم المتنازعةِ المتعارضةِ التي تُمزق اتجاهاته وقواه! فما أتْعَسَ هذا العبدُ وما أشقاه؛ قال ربنا –سبحانه-: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 29].

فالعبودية الخالصة لله هي عين الحرية وسبيلُ السيادة الحقيقية، هي وحدها التي تُحرر الناسَ من كل عبوديّة أخرى شعروا بها أو لم يشعروا، تُحرر الناس من رِقِ الأهواء والشهوات، تُحررهم من الذُّل والخضوع لكل ما سِوى الله، تُحررهم وتُعتقهم من أنواع الآلهة المزيفة التي تَستعبِد الناس وتَسترِقُّهم أشدَّ ما يكون الاسترقاق والاستعباد، وقد قال الفاروق يوما: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"؟!

فخلاصة القول -معاشر العباد-: هما طريقان لا ثالث لها، فإما أن يكون المرء عبدا لله، وإما أن يكون عبدا لغيره.

إما أن يكون عبدا لله، فعبد الله عزيز، عبد الله، حر عبد الله شريف كريم.

وإما أن يكون عبدا لغيره أو عبدا للدنيا أو عبدا للمال وعبدا للشهوات والملذات.

وقد قال نبينا -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "تعس عبدُ الدينارِ، وعبدُ الدرهمِ، وعبدُ الخميصةِ".