الإصلاح بين الناس

عناصر الخطبة

  1. حثُّ الإسلام على الإصلاح بين الناس
  2. الهدي النبوي في الإصلاح بين الناس
  3. الآثار المحمودة لإصلاح ذات البين
  4. من ميادين الإصلاح بين الناس
  5. السلف الصالح وسخاوة الصدر
  6. من آثار الهجر والخصومات
اقتباس

والناس أثناء ذلك كله يتفرجون ويهمسون ويتغامزون، وللأخبار يتتبعون، وربما هم لنار الفتنة يوقدون، بالقيل والقال وكثرة السؤال، حتى كثر الإفساد بين الناس اليوم سواء بقصد أو بدون قصد؛ نميمة وغيبة وسوء ظن ونجوى، وحديث عن الخصومات في حياة الناس، ونشر ..

الهجر الخصومات الصلح خير

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل في هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد ان محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرا ونذيراً، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

اما بعد:

أيها المسلمون: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال:1].

وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"، أي: بالخصومات والشحناء والحروب والفتن.

ومَن تأمل في حال المسلمين أفراداً وجماعات وجد كثرة الخصومات والنزاعات والهجر والمقاطعات، حتى بين الأصحاب والجيران والأقارب والإخوان، نعم؛ بين الإخوان في البيت الواحد، وربما بين الوالد وولده والجار وجاره، وقد يكون من أجل الدنيا الدنية؛ ففي البيوت أسرار وخفيات، وفي المحاكم خصومات، وفي مراكز الأمن مشكلات، وفي السجون أزمات ومعضلات، وحوادث في المستشفات.

قضايا في المحاكم عالقاتٌ *** شكاوى أو خصوم أو منازعْ

طلاقٌ أو خصامٌ في عقارٍ *** وضربُ النار حينا أو مدافع

صراخٌ ذاك حقِّي ذاك مالي *** وردٌّ أنت كذاب وطامع

وغشٌّ واحتيال صار فنَّاً *** وتزوير ونهب في مصانع

وشرٌّ فوق شرٍّ مستطيرٌ *** عجائبُ أو غرائبُ أو فواجع

كأن قيامةً قامتْ عليهم *** وجرَّتْهُم إلى تلك المواجع

عباد الله: كم من الأسر تفرقت؟ وكم من النفوس أهلكت؟ وكم من الأموال أهدرت؟ وكم عمت الخلافات بين الأزواج واستفحلت لأتفه الأسباب، وربما وصلت للطلاق والفراق، وما أكثر الطلاق اليوم في بلادنا! وصلت حدا لم نكن نسمعه إلا بالدول المنهارة اجتماعيا!.

ففي منطقة الرياض مثلا خلال خمسة أشهر فقط من ذي القعدة إلى ربيع الأول من العام الثامن عشر بعد الأربع مئة والألف (1418هـ) وقعت ثلاث آلاف حالة طلاق (3000) مقابل ألف وأربع مائة والألف حالة زواج (1400)! أي أن حالات الطلاق أكثر من ضعفي حالات الزواج في هذه الفترة. وهذه كارثة بكل المقاييس!.

فما الذي حدثَ حتى أقضت مضاجع القضاة القضايا وامتلأت كثير من السجون بالبلايا وما الأسباب؟ وماذا عملنا لمواجهة هذا التنازع والتخاصم؟

لا أريد أن أجيب؛ فالحديث الآن ليس عن التنازع وأسبابه وعلاجه؛ لكن في وسط هذا الركام من المشاحنات، ومن بين أمواج هذا البحر المتلاطم من المشاكل والنزاعات يجمل الحديث ويحسن التذكير بشيء عظيم غفل عنه الكثير من المسلمين هو من مزايا هذا الدين العظيم، إنه الحديث عن إصلاح ذات البين، تلك العبادة العظيمة والتي غفل عنها الناس وخاصة الخيرين والمصلحين؛ لعل الشاردين من بني قومنا يرجعون.

اسمعوا للحبيب -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟"، قالوا: بلى، يارسول الله. قال: "إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة".

سبحان الله! لماذا احتل الصلح هذه المنزلة وهذا الأجر العظيم؟ لأنه بالصلح تستجلب المودات، وتعمر البيوتات، وتحفظ به المجتمعات ومن ثم يتفرغ الرجال للبناء والإعمار والإصلاحات، بدلا من إفناء السنوات في المنازعات والكيد والخصومات، وإزعاج الأهل والسلطات.

إن إصلاح ذات البين سببٌ لتوثيق عُرَى المودَّةِ بين المسلمين، وتصفية القلوب من الغل والحقدِ والحسد، وتجنب ما يوغر الصدور ويورث العداوة، وهذا واجبٌ تقتضيه الأخوة الإيمانية: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات:10].

وعن أبي إدريس الخولاني قال: سمعت أبا الدرداء يحلف-والله ما سمعته يحلف قبلها- "ما عمل آدمي عملا خيرا من مشْيٍ إلى صلاة، ومن خلق جائز، ومن صلاح ذات بين". وقال الأوزاعي -رحمه الله-: "ما خطوة أحب إلى الله -عز وجل- من خطوة في إصلاح ذات البين".

فأين الراغبون في الخير المحبون للسلام؟ أين الرجال النبلاء الحكماء العقلاء؟ ليت شعري! ألا يوجد مصلحون يسعون في الإصلاح وجمع القلوب؟ الله أكبر! يا مسلمون! لـ "كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين صدقة".

يا أهل الفضل والمروءات! ألم تسمعوا لقول الحق -عز وجل-: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء:114]، إنه أجر عظيم، من رب كريم، لمن أراد بإصلاحه وجه الله وابتغاء رضاه.

وروي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر: ما أضحكك -يا رسول الله- بأبي أنت وأمي؟ قال: "رجلان من أمتى جثيا بين يدى رب العزة، فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. فقال الله تبارك وتعالى للطالب: فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ قال: يا رب فليحمل من أوزاري"، قال: وفاضت عين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبكاء.

ثم قال: "إن ذلك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يُحمل عنهم من أوزارهم! فقال الله -تعالى- للطالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان، فرفع بصره فقال: يا رب، أرى مدائن من ذهب وقصوراً مكللة باللؤلؤ، لأيِّ نبىٍّ هذا؟ أو لأيِّ صديقٍ هذا؟ أو لأي شهيد هذا؟ قال: لمن أعطى الثمن. قال: يا رب ومَن يملك ذلك؟. قال: أنت تملكه. قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك. قال: يا رب إني قد عفوت عنه. قال الله: فخذ بيد أخيك وأدخله الجنة". فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المسلمين".

إخوة الإيمان: هذا هو إسلامنا، دين إخاء وسلام ومحبة ووئام، حث على صفاء القلوب وطهارة النفوس -أيها المسلم-.

إن ميزان التعامل مع الآخرين هو نفسك التي بين جنبيك: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، "مثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

ومع ذلك؛ فوقوع الخلاف والخصومة بين الناس غريزة فطرية أودعها الله النفس البشرية، إلا أننا نشكو إلى الله فقدان المصلح بين الناس، فقد انتشرت اليوم عبارات التنصل وعدم المبالاة، كقولهم: لا ولا علي، ومالي بالمشاكل؟! وغيرها من الألفاظ، فيترك المتخاصمين على حالهم من الغضب والهجر؛ بل قد يزيد إلى السب والشتم، ومنه إلى الضرب واللطم، ثم مراكز الأمن، ثم إلى المحاكم والسجون.

والناس أثناء ذلك كله يتفرجون ويهمسون ويتغامزون، وللأخبار يتتبعون، وربما هم لنار الفتنة يوقدون، بالقيل والقال وكثرة السؤال، حتى كثر الإفساد بين الناس اليوم سواء بقصد أو بدون قصد؛ نميمة وغيبة وسوء ظن ونجوى، وحديث عن الخصومات في حياة الناس، ونشر أسرارهم، ناهيك عن أصحاب المصالح والمنافع المتلبسين باسم الإصلاح وهم يندسون بين الصفوف ويظهرون عليك الخوف، وتحسبهم معك وهم عليك، يدسون السم بالعسل، والحق أنه لا همّ لهم إلا مصالحهم.

ويل لهؤلاء! فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم وسوءَ ذات البين! فإنها الحالقة"، وقال: "دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين"، وقال: "فإن فساد ذات البين هي الحالقة"، والحالقة، أي الماحية للمثوبات والخيرات، ومهما حاول هؤلاء التلون والتلبس بلباس أهل المروءات فإننا نقول كما قال الله في القرآن: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ [البقرة:220].

وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه! وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه!".

عباد الله: ليس أضر على الإنسان نفسيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا من وجود النزاع والشقاق والخصام والنفاق بين أفراد المجتمع، يقول تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال:46].

فإن كنا نجزع لحال المسلمين وما يجري بينهم من النزاع والشقاق على مستوى الدول، فلِم لا ننظر إلى أنفسنا أفرادا ونحاول إصلاح قلوبنا وجمع قلوب الناس؟ فبصلاح الأفراد تصلح المجتمعات: "المسلم إذا كان مخالطا الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" كما قال -صلى الله عليه وسلم-، فخالطوا الناس واصبروا وانزلوا الميدان.

وميادين الإصلاح كثيرة منها:

إصلاح ما بين العشائر والقبائل: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات:9]

ومنها إصلاح ما بين الأزواج والأسر: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ [النساء:35].

أذكر أن زوجين تخاصما وتفرقا لسنوات وبدون طلاق فتشتت الأولاد وكثر فيهم الفساد، ولم يسْع أحد من أهليهم للإصلاح وجمع الشتات، بل على العكس، بالتحريش والقيل أصبح الأمر كبيراً بعد أن كان يسيراً.

ومن ميادين الإصلاح -أيضا- الإصلاح بين الأفراد، فيجمع بين متهاجرَيْن، أتصدقون -إخوة الإيمان- أن رجلا هجر أمه نحو ثماني عشرة سنة حتى قطع قلبها وتفتت كبدها حسرة عليه! تسأل كل من تلاقي تلهفا لرؤيته! وإن أخوين مِن رحم واحدة تخاصما في المحاكم وتقاطعا وتهاجرا ولأكثر من عشر سنوات من أجل مال! لا كثّره الله من مال إن كان هذا هو المآل.

ومن ميادين الإصلاح: الإصلاح بين أصحاب الحقوق في الوصايا والمواريث والأوقاف: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة:182]

فكم بين الإخوة والأخوات من الورثة والأوصياء من الشقاق والفرق بسبب المواريث والوصايا؟! فيا ليت أن الآباء يكتبون ويوضحون قبل أن يبغتهم المنون!…

فميادين الإصلاح كثيرة، فكلما دب نزاع هب له رجال فبذلوا من الأفعال والأقوال والوسائل والأموال ما يحسن به الحال والمآل.

وأما وسائل وطرق الإصلاح فلا تعد ولا تحصى: أين المتصدقون بالكلمات؟ إن كلمة طيبة ولمسة حانية تطفئ نار الحق وتلم الشمل.

أين العقلاء من تصرف حكيم، وفعل جميل يعيد الوئام وينشر السلام؟ أين أهل البلاغة، والشعر والفصاحة والتورية والمعاريض والكتابات ليجمعوا بها القلوب بعد الشتات؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا او يقول خيرا".

أين أهل الجاه والمال ليصلحوا الحال ويطفئوا النار في نفوس على الشح جُبلت، وعلى البخل درجت؟ فالله تعالى يقول: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء:128].

أين أهل العقول والدهاء عن جمع المتخاصمين في مجلس واحد؟ ولو بدون أن يشعرا، ووساطة أهل الفضل والعلم فيدفنوا الشحناء، ويزيلوا البغضاء؟!.

أين أهل الحكمة والروية عن الهدية؟ فلها أثر في جمع القلوب، حتى ولو قيل إنها من خصمك فلان، فالمهم أن يعود الوئام، قال -صلى الله عليه وسلم-: "تهادوا تحابوا"، فقد أذن الشارع للمصلح بنوع من الكذب، فيروى عنه: "لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس". قال بعض أهل العلم: "المقصود بالكذب هنا التورية والمعاريض".

معاشر المؤمنين والمؤمنات: لنكثر الحديث في مجالسنا عن الإصلاح وفضله وعظيم أجره ولنقرأ كثيرا عن سلامة الصدر، وطهارة القلب، والعفو عن الآخرين؛ ففي ذلك راحة القلب وتوفيق الرب.

لنكثر التناصح والتغافر وليعتذر بعضنا لبعض ولننشر الحسنات للأشخاص ونكثر الحديث عنها ولنطو السيئات ونعفو عنها ونعتذر لأصحابها ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء:114].

ولنا في الرسول -صلى الله عليه وسلم- قدوة، فقد كان يحرص على جمع القلوب والإصلاح بينها مع كثرة أعماله، فهو النبي المعلم القائد المربي، ومع ذلك كان يحرص على الإصلاح، ومع الجميع، مع الموالي والعبيد والصغير والكبير؛ ففي قصة بريرة مولاة عائشة وفراقها لزوجها حيث قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو راجعتِه!"، قالت: يا رسول الله، تأمرني؟ قال: "إنما أنا شافع". قالت: لا حاجة لي فيه.

وفي قصة كعب بن مالك -رضي الله عنه- تقاضي ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى: "يا كعب" قال: لبيك يا رسول الله، قال "ضع مِن دينك هذا"، وأومأ إليه أي الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال "قم فاقضه".

وقد ترجم له البخاري بقوله: "باب الصلح بالدين والعين"، وجعل الإمام البخاري كتابا خاصا في صحيحه سماه "الصلح" وأول باب عقد فيه: "باب ما جاء في الإصلاح بين الناس" وقوله -عز وجل-: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء:114]، وخروج الإمام إلى المواضع ليصلح بين الناس بأصحابه.

ثم ذكر حديثا عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-: أن أناسا من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في أناس من أصحابه يصلح بينهم.

وفي رواية عن سهل -رضي الله عنه-: أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: "اذهبوا بنا نصلح بينهم".

أيها الإخوة: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، واعلموا أن الشر لا يطفأ بالشر ولكنه بالخير يطفأ، فلا تسكن الإساءة إلا بالإحسان فلابد من التنازل ولين الجانب: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت:34].

فالكريم وإن خاصم لا يحقد ولا يفجر؛ بل يقبل الصلح والعفو: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى:40].

وما أجمل أن نتمثل بقول الشاعر:

وإنَّ الذي بيني وبيَن بَني أبي *** وبين بني عمِّي لَمُخْتَلِفٌ جِدَّا

فإن أكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومهم *** وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا

وإن ضيعوا غيبي حفظتُ عيوبهم *** وإن همْ هَوُوا غيِّي هَوِيتُ لهم رشدا

ولا أحمل الحقدَ القديم عليهمو *** وليس كريمُ القوم مَن يحمل الحقدا

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمد من شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله سيد البشر، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه السادة الغرر، والتابعين لهم بإحسان ما طلعت الشمس واختفى القمر.

أما بعد:

عباد الله: فعلى كل مسلم أن يقبل الصلح، وأن يقدر ويشكر جهد المصلحين، وأن يكون هينا لينا سمحا يرجو الأجر والثواب بقبوله للصلح، وإن تعدى الخصم حدود الله فيه فهو يعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين فيأبى أن يكون عونا للشيطان على أخيه؛ لأن الله -تعالى- يدعوه فيقول: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة:13]، ويقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران:134].

فأحسِنْ -يا عبد الله- يحببك الله؛ بل ويغفر لك بعفوك، فلن تكون أكرم من الله، وهو القائل: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور:22].

يا عبد الله: ألا تحب أن يغفر لك الله ذنوبا تراكمت كأمثال الجبال؟ فيا من يسمع الآن هذا الكلام، وقد وقع في خصام، وامتلأ قلبه بالعتاب والملام – عاهد ربك ألا تخرج الآن من هذا المكان إلا وقد عقدت العزم على العفو والإحسان، أو على الصلح قدر الإمكان، لعلك أن تفوز بالجنان، من ذي الفضل والإحسان.

وإياك إياك أن يغرك الشيطان! فطهر قلبك من الآن، ونقِّ صدرك في هذا المكان، فأفضل الناس هو كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "كل مخموم القلب صدوق اللسان"، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو "التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد".

ولقد شهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل بالجنة وليس له كبير عمل، فلما سأله عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن السبب قال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، غير اني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد احداً على خير أعطاه الله إياه.

بل كانوا -رضوان الله عليهم- يتصدقون بأعراضهم لعلمهم بالفضل وعظيم الأجر من الله، وعن قتادة قال: "أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضيغم أو ضمضم؟ كان إذا أصبح قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك".

ومثل هذه القلوب هي التي تذوق طعم السعادة والراحة وصفاء الذهن والعقل وحلاوة الإيمان، كيف لا؛ وقد سلمت من معاداة الخلق ومن الحق والحسد والتشفي والانتقام؟!.

زاحَمَ رجل في منى سالم بن عبد الله بن عمر علّامة التابعين، فالتفت الرجل لسالم وقال له: إني لأظنك رجل سوء! هل تعلم -يا رعاك الله- بماذا أجاب سالم؟ قال له سالم: ما عرفني إلا أنت! سبحان الله! إنه الصبر وهضم حظوظ النفس.

إذا تشاجَرَ في فؤادك مرةً *** أمرانِ فاعمد للأعفِّ الأجملِ

وإذا هممْتَ بأمر سوءٍ فاتَّئِدْ *** وإذا هممت بأمر خيرٍ فافعل

وساق المقدسي بسنده إلى أبي علي الحسين بن عبد الله الخرقي قال: بتُّ مع أحمد بن حنبل ليلة فلم أره ينام إلا يبكي إلى أن أصبح، فقلت: يا أبا عبد الله! كثر بكاؤك الليلة؛ فما السبب؟ قال: ذكرت ضرب المعتصم إياي ومر بي في الدرس ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى:40] فسجدت وأحللته من ضربي في السجود. هكذا هو -رحمه الله- مع من ضربه وآذاه.

وإذا كانت النفوسُ كباراً *** تعبت في مرادها الأجسامُ

وتأملوا قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتنة التي سجن فيها وفسق وكفر، ومع ذلك اسمعوه يقول: "فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذب علي أو ظلمه وعدوانه فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا ظلموا فهم في حل من جهتي".

ويقول ابن القيم عن شيخه ابن تيمية: "وما رأيت أحدا قط أجمع لهذه الخصال -يعني سلامة الصدر والعفو عن الناس- من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه".

وما رأيته يدعو على أحد قط، وكان يدعو لهم، وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي، استرجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسروا به ودعوا له وعظموا هذا الحال منه، فرحمه الله ورضي الله عنه.

ردِّدْ عليَّ حديثَهم يا حادي *** فحديثُهم يجلو الفؤاد الصادي

رحم الله الفضيل بن عياض يوم قال: "ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام؛ وإنما أدرك بسخاء الأنفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة".

واعلم -أخي في الله- أن للهجر والخصومات آثارا في الحياة وبعد الممات، ألم تسمع لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لرجل ان يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" متفق عليه.

وهل تعلم -يا عبد الله- أن أعمالك لا تعرض على الله ما دمت في هجر وقطيعة؟ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا"، فلا تحرم نفسك الخير وأسرع وبادر ولا تتردد.

سامِحْ أخاك إذا خلَطْ *** منه الإصابةَ بالغلَطْ

وتجافَ عن تعنيفِهِ *** إن جار يوما أو قسط

واعلم بأنك إن طلبـ *** ـتَ مُهذَّباً رُمْتَ الشَّطَطَ

من ذا الذي ما ساء قطّْ؟ *** ومن له الحسنى فقط؟

عباد الله: اتركوا الإشاعات، واحذروا ناقلها، وذبوا عن الأعراض، فالله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور:19].

وقال الفضيل بن عياض: "مَن سمع بفاحشة فأفشاها كان كمن أتاها؛ فإن الفاحشة لَتَشيع في الذين آمنوا، حتى إذا بلغت إلى الصالحين كانوا خُزَّانها".

فأصلِحْ أخي، ولا تتبع سبيل المفسدين.

اللهم وفِّقْنا إلى ما فيه صلاحنا وسعادتنا ونجاحنا في الدنيا والآخرة.