الشرك الأصغر (الرياء)

عناصر الخطبة

  1. درجات الرياء
  2. مراتب المرائين
  3. طرق علاج الرياء
اقتباس

إن الله تعالى وحده هو الذي ينفع ويضر من شاء، فاطرح عن نفسك الاعتقاد الفاسد بأن الناس ينفعونك ويضرونك متى شاؤوا ومتى أرادوا، وإنما يدخل الشيطان عليك ليجعلك تزين العبادة أمام الناس لظنك أنهم قادرون على النفع والضر، فانظر ماذا يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: “يا غلام: إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله ..

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه". 

اعلم -يا عبد الله أصلحك الله- أن العمل الذي لا يقصد فاعله وجه الله أقسام: فتارة يكون رياءً خالصًا، كحال المنافقين، كما قال عنهم -جل وعلا-: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142]، وهذا الرياء المحض هو أخطر وأغلظ أقسام الرياء؛ لأنه يقدح في أصل الإيمان، وهو لا يكاد يصدر من مؤمن في غرض الصلاة والصيام، وقد يكون كثيرًا في الصدقة أو الحج أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز.

ولا يشك مسلم في أن هذا القسم من الرياء محبط للعمل، وأن صاحبه يستحق المقت والعقوبة من الله، وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، هذا القسم دون الأول بكثير، كمن يحضر الجمعة أو الصلاة، ولولا خوف مذمة الناس له ما حضرها، أو يصل رحمه أو يحسن إلى والديه لا عن رغبة وحب، ولكن خوفًا من كلام الناس، أو يزكي أو يحج، فيكون خوفه من مذمة الناس أعظم من خوفه من عقاب الله، وهذا غاية الجهل، وما أجدر صاحبه بالمقت.

وقسم يرائي بالنوافل يكسل عنها إذا كان خاليًا ثم يبعثه الرياء على فعلها، كحضور الجماعة وعيادة المريض واتباع الجنائز وصوم عرفة وعاشوراء طلبًا للمدح والثناء، ويعلم الله تعالى أنه لو خلا بنفسه لما زاد على أداء الفرائض، وهذا القسم عظيم الخطورة كالذي قبله؛ فقد روى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله –رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سمّع سمّع الله به، ومن راءى راءى الله به"، أي من أظهر عمله الصالح للناس من أجل أن تعظم مكانته عندهم أظهر الله سريرته وفضحه على رؤوس الخلائق يوم القيامة.

وعند أبي داود عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من تعلّم علمًا يبتغي به وجه الله -عز وجل- لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا -أي متاعًا وحطامًا من الدنيا- لم يجد عرف الجنة يوم القيامة"، أي لم يجد ريحها، ليعلم أيضًا أن الله راءٍ مقصوده لا محالة.

وإنما يرائي المرء حين يرائي ليدرك مالاً أو منزلة أو غرضًا من أغراض الدنيا، وله درجات:

أشدها خطرًا أن يكون مقصوده من إظهار العبادة التوصل إلى معصية الله، كالذي يظهر للناس التقوى والصلاح، لكن غرضه أن يُعرف بالأمانة فيتولى منصبًا أو يسلم إليه مال، فيأخذ منه ما قدر عليه، أو تترك عنده الودائع فيأخذها، أو يتوصل إلى التحبب بامرأة لفجور ونحوه، فهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى؛ لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلمًا إلى معصيته.

وأما الدرجة الثانية: أن يكون غرض المرائي نيل حظ من حظوظ الدنيا من مال أو زواج بامرأة شريفة، كالذي يُظهر العلم والعبادة ليرغب الناس في تزويجه أو إعطائه، فهذا رياء ممقوت صاحبه؛ لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا.

وأما الدرجة الثالثة: أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال، ولكن يظهر عبادته خوفًا من أن ينظر إليه الناس بعين النقص، فلا يعدونه من الزهاد والعباد، كالذي يكثر من الضحك والمزاح، فإذا رأى الناس أظهر الحزن وأكثر الاستغفار، ولربما قال: ما أعظم غفلة بني آدم عن نفسه، ويكثر هذا النوع في التطوع في الصيام؛ فإنه قد يعطش يوم عرفة أو عاشوراء، فلا يشرب خوفًا من أن يعلم الناس أنه غير صائم، أو يُدْعى إلى طعام فيمتنع ليظن أنه صائم، وقد لا يصرح بقوله: إني صائم ولكن يقول: لي عذر، فإنه يري أنه صائم، ثم يري أنه مخلص، وأنه يحترز من أن يذكر عبادته للناس فيكون مرائيًا، فيريد بذلك أن يقال عنه: إنه ساتر لعبادته مخلص فيها، فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء.

أما المخلص فإنه لا يبالي كيف نظر الخلق إليه، فإن لم يكن له رغبة في الصوم -وقد علم الله ذلك منه- فلا يريد أن يلبس شيئًا على الخلق مما فيه خلاف علم الله، وإن كانت له رغبة في الصوم لله قنع بعلم الله تعالى ولم يشرك فيه غيره، وقد يلبس الشيطان على المخلص في أن يعمل عملاً صالحًا يظهره ليقتدي غيره به، فيحرك فيه رغبة الناس فيه، فليحذر الإنسان من مكايد الشيطان وغروره.

فهذه درجات الرياء ومراتب المرائين، وجميعهم تحت مقت الله وغضبه، ومن أشد المهلكات، عافاني الله وإياكم من الرياء، وجعلني وإياكم من المخلصين. آمين، والحمد الله رب العالمين.

الخطبة الثانية:  

اعلم -أخي المسلم- يا من تريد إخلاص عملك لله وقبوله عنده أن من أسباب الرياء تعظيم الناس ونقصان تعظيم الله في النفس، فمن أحسن أنواع العلاج لهذا الداء القاتل معرفتك لأنواع التوحيد معرفة كاملة، أورد طرفًا يسيرًا منها عسى أن تكون ذكرى وعبرة لك.

إن الله تعالى وحده هو الذي ينفع ويضر من شاء، فاطرح عن نفسك الاعتقاد الفاسد بأن الناس ينفعونك ويضرونك متى شاؤوا ومتى أرادوا، وإنما يدخل الشيطان عليك ليجعلك تزين العبادة أمام الناس لظنك أنهم قادرون على النفع والضر، فانظر ماذا يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: "يا غلام: إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف".

واعلم أيضًا أن مما يعينك على الإخلاص والتخلص من الرياء أن الله تعالى سميع بصير، يراك ويسمعك، ويعلم ما تخفي وما تعلن: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وقال -جل وعلا-: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: 14]، وقال سبحانه: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ [الملك: 14]، ﴿أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت: 10]، والآيات في عظمة الله -عز وجل- واطلاعه وسعة علمه ومراقبته لخلقه كثيرة، وأنه سبحانه ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: 3]، فما لي أراك تراقب الناس ولا تراقب الله وهو سبحانه مطلع عليك، ألا يكفيك إطلاعه عليك وهو يقول: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36]، إذا علمت هذا القدر من الله فليعظمه قلبك وفؤادك، وعندئذ تخلص له أعمالك بلا شك.

واعلم أيضًا أن من أسباب الرياء والشرك: عدم خشية القلب من عذاب القبر والنار وأهوال ما بعد الموت، فإنه كلما ازدادت معرفتك بذلك ازداد خوفك من ربك فأخلصت له عملك.

ومن أسباب الرياء والشرك: أن تشعر باللذة والتنعم عندما يمدحك الناس، ولكنك إذا علمت قيمة هذا المدح والثناء مع ما أعده الله تعالى للمتقين في الجنة أدركت أنه لابد من صرف الأعمال كلها لله وحده، وأنك لا تبالي أرضي الناس عنك أم سخطوا.

ومما يعينك -أخي المسلم- على الإخلاص والتخلص من الرياء: تذكر الموت وقصر الأمل؛ قال الله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]، وعن ابن عمر قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".

معرفتك -أخي المسلم- بقيمة الدنيا وعدم بقائها خير معين لك على الإخلاص والبعد عن الرياء، وحسبك في ذلك قول ربك: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ [الكهف: 45]، مثل الحياة الدنيا في زوالها وفنائها كمثل هذا الهشيم الذي نثرته الرياح بيسير وسهولة.

فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوا أنفسكم وأعمالكم، وتفقدوا نواياكم، اجتهدوا في إخلاصها لله تعالى، فما جاهد أحدكم شيئًا أشد عليه من نيته، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده المخلصين.