خطورة الرشوة

عناصر الخطبة

  1. مفهوم الرشوة
  2. التنفير منها
  3. مضارّها وآثارها
  4. التلاعب بأسمائها
  5. التحذير منها
  6. السلامة باجتنابها
اقتباس

وباءٌ خطير، وداءٌ فتَّاك إذا وُجد في مجتمع من المجتمعات وتفشّى فيه كان سبباً لهلاكه وحلول العقوبات به؛ لأنه يترتب عليه ذهاب المروءات، وضياع الحقوق، وكثرة الظلم، وتعدُّد الأذى، إلى غير ذلكم من أنواع المضار التي تترتب على وجوده؛ ألا وهو -عباد الله-: “الرشوة”. وما… وهي: مالٌ أو مصلحةٌ تقدَّم لرئيسٍ أو حاكمٍ أو موظفٍ ليُتوصَّل…

إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه، ولا شراً إلا حذَّرها منه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعد: أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله تعالى؛ فإنَّ في تقوى الله جل وعلا خلَفاً من كل شيء، وليس من تقوى الله خلَف.

وتقوى الله جل وعلا: عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.

أيها المؤمنون: وباءٌ خطير، وداءٌ فتَّاك إذا وُجد في مجتمع من المجتمعات وتفشّى فيه كان سبباً لهلاكه وحلول العقوبات به؛ لأنه يترتب عليه ذهاب المروءات، وضياع الحقوق، وكثرة الظلم، وتعدُّد الأذى، إلى غير ذلكم من أنواع المضار التي تترتب على وجوده؛ ألا وهو -عباد الله-: "الرشوة". وما أدراك ما الرشوة؟.

وهي: مالٌ أو مصلحةٌ تقدَّم لرئيسٍ أو حاكمٍ أو موظفٍ ليُتوصَّل بدفعها إلى إحقاق باطل أو إبطال حق، وهي أكلٌ لأموال الناس بالباطل، وسُحتٌ وحرام.

وكلٌّ من المعطي لها والقابض معرَّضٌ لمقت الله تبارك وتعالى وسخطه وعقوبته، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:188].

والإدلاء بها إلى الحكام: أي تقديمها لهم بحيث يقدِّم بعض ماله ليتوصَّل من خلال ذلك إلى أكل فريقٍ من أموال الناس بالباطل، وقوله ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾: أي أن ذلك لا يحل لكم، وأنَّ الله تبارك وتعالى حرَّمه على الناس.

أيها المؤمنون عباد الله: والرشوة من خصال اليهود ومن صفاتهم التي عُرفوا بها، قال الله تبارك وتعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ [المائدة:42]، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة:62].

والسحت في الآيتين في قول غير واحدٍ من السلف: الرشوة؛ فكانت صفة لليهود يحرصون عليها، بل إنهم اشتُهروا بها وعُرفوا بها؛ ولهذا، فإنَّ تعاطي الرشوة -عباد الله- هو اتصافٌ بخصلةٍ من خصال اليهود، وصفةٍ من صفاتهم الشنيعة.

أيها المؤمنون عباد الله: وإذا حلَّت الرشوة في مجتمع نُصِر فيه الباطل وأُبطل فيه الحق، وتغيَّرت الموازين؛ ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: "إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكوَّة" أي من النافذة.

نعم عباد الله؛ كم من المضار الجسيمة والتعديات العظيمة التي تترتب على وجود الرشوة أخذاً لها وإعطاءً.

روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي".

ورواه أيضاً من حديث أبي هريرة وحديث ثوبان -رضي الله عنهما-، واللعن -أيها المؤمنون: طردٌ وإبعادٌ من رحمة الله، ولا يكون إلا في عظائم الذنوب وكبائر الآثام.

ويقال -عباد الله- للرشوة "البرطيل"، ولهذا يقال في المثل: "البراطيل تنصُر الأباطيل"، أي أنها إذا وُجدت في مجتمعٍ من المجتمعات نصرت الباطل وأبطلت الحق، وغيَّرت الموازين وأضرَّت بالناس أيّما إضرار.

عباد الله: وتغيير الأسماء لا يغيِّر الحقائق والمسميات، ولهذا لو سُميت كما هو حاصل في بعض المجتمعات، لو سميت الرشوة "هديةً" أو "إكراميةً" أو نحو ذلكم من الأسماء فإن حقيقتها لا تتغير، تبقى سحتاً ويبقى آخذها ومعطيها كلٌ منهما معرَّضٌ للعقوبة وحلول سخط الله تبارك وتعالى ولعنته.

ولهذا -أيها المؤمنون- جاءت الشريعة بمنع الهدية للعمال -وهم الموظفون أياً كانوا- لأنها تفتح باب شر عظيم.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي حُميدٍ الساعدي -رضي الله عنه- قال: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي.

فَقَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: "مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي؟ أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ".

ثُمَّ رَفَعَ -صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟" مَرَّتَيْنِ. صلوات الله وسلامه عليه.

أيها المؤمنون عباد الله: إن الواجب على كل مسلم أن يحذر أشد الحذر من موجبات سخط الله وموجبات عقوبته ولعنته سبحانه، وليأخذ نفسه في هذه الحياة الدنيا مأخذ الحزم، بُعداً عن الحرام وتجنُّباً للآثام واتقاءً للشبهات، فإن "مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ".

أصلح الله أحوالنا أجمعين، وهدانا إليه صراطاً مستقيما.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبُّ ربنا ويرضى، أحمده جل في علاه بمحامده التي هو لها أهل، وأثني عليه الخير كله لا أحصي ثناءً عليه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله تعالى.

عباد الله: روى البخاري في كتابه الصحيح موعظةً نافعة وكلمةً مؤثرة للصحابي الجليل جندب بن عبد الله -رضي الله عنه-؛ قال: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ إِلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ". وما أعظمها من موعظة! وما أجلَّها من وصية!.

ثم -أيها المؤمنون-: ليتذكر كل واحدٍ منَّا أنه يوم القيامة سيُسأل سؤالين عن المال: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ ويدخل في ذلك ما تقدَّم، ألا وهو: إعطاء الرشوة أو قبضها.

روى الطبراني في معجمه عن معاذٍ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تَزُولُ قَدمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرُهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟".

والعاقل يعِدُّ للسؤال جوابا، ويجدُّ ويجتهد بأن يكون الجواب صوابا.

اللهم وفقنا أجمعين لصالح الأعمال، وسديد الأقوال، وأعذنا أجمعين من المحرمات والشبهات، واحفظ علينا ديننا يا رب العالمين، وأعذنا والمسلمين من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:56].

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.

وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين: أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصُر من نصَر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.

اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم انصرهم في أرض الشام وفي كل مكان، اللهم كن لهم ناصراً ومعِينا وحافظاً ومؤيِّدا، اللهم احفظهم بما تحفظ به عبادك الصالحين، اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آمن روعاتهم واستر عوراتهم واحقن دماءهم يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق ولي أمرنا لسديد الأقوال وصالح الأعمال يا رب العالمين، اللهم وأصلح جميع ولاة أمر المسلمين ووفقهم لتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى.

اللهم إنَّا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين. اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين، اللهم إنا نسألك غيثاً مغيثا، هنيئاً مريئا، سحًّا طبقا، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر، اللهم أغثنا! اللهم أغثنا! اللهم أغثنا!.

اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وزدنا ولا تنقصنا، اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله، لا إله إلا أنت.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [النحل:90].