الإسراف

عناصر الخطبة

  1. نعم الله تعالى علينا
  2. أمانة المال
  3. انتشار ظاهرة الإسراف
  4. الإسراف في الإنفاق
  5. الإسراف في الاستهلاك
  6. النهي عن الإسراف
  7. من صور الإسراف
  8. ذم المترفين
  9. مفاسد السرف والترف
  10. الإسراف في المعاصي
اقتباس

إن الإسراف في الملذات والإكثار من تناول المشتهيات، والتوسع في مطالب الحياة، وكثرة الراحة، واستعمال الرقيق من الثياب، والفرش والمراكب، مما تزخر به حياة الناس اليوم، إن ذلك كله من الترف والإسراف المذموم، وقد ذم الله المترفين وبيّن مفاسد الترف. فهل تعلمون -يا عباد الله- أن المترفين هم أعداء الرسل؟! اسمعوا قول الله -عز وجل-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن نعم الله علينا كثيرة وكثيرة، لا تعد ولا تحصى، ومن جملة هذه النعم ما أمدنا الله به في هذا الزمان من الأموال التي فاضت في أيدي كثير من الناس، وقليل من الناس من يعلم بأن هذا ابتلاء وامتحان من الله لعباده، سيحاسبون على تصرفهم فيها.

أيها المسلمون: إن من أوتي مالاً فقد حُمّل مسؤولية عظيمة، قَلَّ من ينجو منها.

عباد الله: إن من الآفات الخطيرة في هذا الزمان الذي نعيش فيه، والتي وقعت بسبب المال، والتي لم ينج منها حتى الصالحون والطيبون -ولا حول ولا قوة إلا بالله-: الإسراف.

أيها الإخوة: وإن الإسراف يُعدُّ من سوء التصرف في الأموال، ذلكم الإسراف -يا عباد الله- الذي يهدد مجتمعنا الذي يقف على حافة الهاوية، والذي يوشك أن تتزلزل الأرض من تحتها فتسقط. وحينئذٍ يكون الهلاك أو الدمار.

أيها المسلمون: إن الإسراف الذي نقصده، والذي تعاني منه مجتمعاتنا، والذي هو مكمن الخطر وقع المسلمون فيه من بابين:

الباب الأول: إسراف في الإنفاق، وهو ما سُميّ في القرآن بالتبذير، قال تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(27)﴾ [الإسراء: 26، 27].

يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "التبذير هو الإنفاق في غير حق". أما الإنفاق في الحق فلا يعد تبذيرًا؛ قال مجاهد: "لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرًا، ولو أنفق مُدًّا في غير حق كان مبذرًا".

الباب الثاني من أبواب الإسراف: الإسراف في الاستهلاك، كالإسراف في الأكل والشرب واللباس والسكن، وغير ذلك، وهذه هي البلية التي نتحدث عنها، قال الله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].

إن الله -عز وجل- أباح لعباده الأكل والشرب من الحلال، ونهاهم عن الإسراف في ذلك، وهو مجاوزة الحد؛ لما فيه من المضرّة على العقل والدين؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولابد فاعلاً لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه".

أيها المسلمون: ومن الإسراف المذموم: التباهي في الملابس الفاخرة والمراكب الفخمة والبيوت المزخرفة، والمبالغة في إقامة الحفلات والولائم بالتكاليف الباهظة، كل ذلك -يا عباد الله- من الإسراف والتبذير، والتخوض في مال الله بغير حق، وستسألون عنه يوم القيامة سؤال حساب وعقاب، مع ما فيه من الضرر العاجل في الدنيا قبل الآخرة.

إن الإسراف في الملذات والإكثار من تناول المشتهيات، والتوسع في مطالب الحياة، وكثرة الراحة، واستعمال الرقيق من الثياب، والفرش والمراكب، مما تزخر به حياة الناس اليوم، إن ذلك كله من الترف والإسراف المذموم، وقد ذم الله المترفين وبيّن مفاسد الترف.

فهل تعلمون -يا عباد الله- أن المترفين هم أعداء الرسل؟! اسمعوا قول الله -عز وجل-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [سبأ: 34].

هل تعلمون -يا عباد الله- أن الإسراف والترف هو سبب هلاك الأمم؟! اسمعوا قول الله -عز وجل-: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: 16].

هل تعلمون أن المترفين يعملون على نشر الفساد في الأرض، بل ويقاومون الإصلاح؟! استمعوا إلى قول الله تعالى: (فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود: 116].

هل تعلمون -يا عباد الله- أن الترف من الأسباب التي توجب دخول النار؟! اسمعوا قول الله -عز وجل-: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ(45)﴾ [الواقعة: 41 – 45].

هل تعلمون أن الإسراف يعني أخوة الشياطين؟! اسمعوا قول الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 27]. وماذا تعني أخوة الشياطين؟! إنها تعني الانضمام إلى حزبه، وحزب الشيطان قد كتب عليه الخسران المبين والضلال البعيد: ﴿أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾ [المجادلة: 19].

هل تعلمون -أيها الإخوة- أن الإسراف يحرم الإنسان محبة الله -عز وجل-؟! اسمعوا قول الله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].

وماذا يصنع من حُرِم محبة الله؟! وهل يفلح إنسان حرمه الله تعالى من محبته؟! إنه يعيش في قلق، ويعيش في اضطراب، ويعيش في ألم نفسي، وإن أحاطت به الدنيا من كل جانب.

وغير ذلك -يا عباد الله- من المفاسد العظيمة التي تحصل بسبب الترف، من القضاء على الرجولة والشهامة التي هي من مقومات الجهاد، ومواجهة الصعوبات، ويحل محلها النعومة والكسل، والاسترخاء والميل إلى الراحة والبطالة، وبهذا تفقد الأمة قوتها، ويتغلب عليها أعداؤها، وتسقط هيبتها، وقد قيل: "الترف زمانة الأمم"، أي: مرض الأمم المزمن.

ومن مفاسد الترف أيضًا: أنه يهدم الصحة، ويضعف الجسم، ويعرضه للإصابة بالأمراض الخطيرة، فإن المزيد من الرفاهية وقلة الحركة كل ذلك يقضي على قوة البدن، ويحوله إلى بدن منعم لين، لا يتحمل أدنى مشقة، ويعرضه للإصابة بمختلف الأمراض القاتلة.

ومن مفاسد الإسراف والترف: تنويع المآكل والمشارب، الذي هو سبب للسمنة، والسمنة سبب للإصابة بتصلب الشرايين، وجلطات القلب، وموت الفجأة، وقد قرر الأطباء أن السمنة تأتي نتيجة للإفراط في الطعام والشراب وقلة الحركة.

ومن مفاسد الترف أيضًا: الإصابة بضغط الدم، ومرض السكر، وهذه الأمراض وغيرها حدثت في مجتمع المسلمين نتيجة المخالفة لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهديه في تقليل الطعام والشراب، والتحرك المفيد للبدن، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

أيها المسلمون: إن الإسراف والتبذير والترف أمراض فتاكة، وقد نهانا الله عنها حماية لنا، ورعاية لمصالحنا، فلنَحْذَر منها، ولنُحَذِّر منها، لتعود لنا قوتنا ورجولتنا، وتبقى لنا أموالنا، ولنعلم جميعًا أننا ما خلقنا في هذه الدنيا لنأكل ونشرب، ونعيش كما تعيش البهائم، وننعم أبداننا، ونزخرف بيوتنا بأمور لا داعي لها.

نحن لا نقول: إن الإنسان لا يهتم بأكله ولا بشربه، ولا نقول بأن الإنسان لا يلبس لباسًا طيبًا وحسنًا أمام الناس، لكن لا يتجاوز المعقول، وهذا التجاوز هو الذي عليه حال الناس اليوم، حتى السكن، من الطبيعي أن يحرص الإنسان على سكن يأوي إليه ويستره ويستر أولاده، لكن أن يصل الحال ببيوت المسلمين إذا دخلته وكأنك داخل متحف أو معرض، فأول ما يستقبلك في بعض بيوت المسلمين تلك النافورة التي توضع في مقدمة الدار، أما إذا دخلت من الداخل فحدث ولا حرج. أليس هذا من الإسراف الذي لا حاجة له؟! وإلا فما الفائدة من النافورة داخل البيوت!!

فاتقوا الله -أيها المسلمون-، إننا لم نخلق في هذه الدنيا لنأكل ونشرب ونعيش كما تعيش البهائم، وننعم أبداننا، ونزخرف بيوتنا، وإنما خلقنا -يا عباد الله- لنعبد ربنا، ونجاهد في سبيله، ونصبر ونصابر، ما خُلقنا عبثًا، ولا تركنا سدى، بل تحملنا مسؤولية أبت أن تحملها السماوات والأرض والجبال، وأشفقن منها: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً) [الأحزاب: 72].

كيف ينعم -يا عباد الله- في هذه الدنيا من وراءه موت وقبر؟! كيف ينعم في هذه الدنيا من وراءه بعث وحساب وميزان؟! كيف ينعم في هذه الدنيا من وراءه جنة أو نار؟! كيف ينعم في هذه الدنيا من لا يدري أين يكون مصيره الأبدي؟! كيف يسرف في مال الله من يعلم أنه محاسب على كثيره وقليله من أين اكتسبه وفيم أنفقه!!

فاتقوا الله -أيها المسلمون-، إن وراءكم حسابًا، ووراءكم نارًا، تجنبوا الإسراف والترف، فإنها والله نار حامية، وقودها الناس والحجارة، فقوا أنفسكم وأهليكم هذه النار، لا تشغلكم الدنيا فإنها والله على انقضاء وزوال، لا تفكر فيما أنت مرتحل عنه، واصرف فكرك واجتهادك إلى موردك، فإنك تعلم بأن النار مورد الجميع: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا(72)﴾ [مريم: 71، 72].

أسأل الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجنبنا الإسراف، وأن لا يجعلنا من المبذرين، الذين هم إخوان الشياطين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا(67)﴾ [الفرقان: 63-67].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…

الخطبة الثانية:

أما بعد:

عباد الله: إن المتأمل لحالنا يرى حقيقة أننا أسرفنا كثيرًا في حياتنا، أسرفنا في إنفاقنا، أسرفنا في استهلاكنا، أسرفنا في مآكلنا ومشاربنا، أسرفنا في مساكننا.

وهناك -أيها الإخوة- إسراف آخر وقعنا فيه، وهذا أبشع صور الإسراف، لكنا لم ننتبه له، ألا وهو الإسراف في المعاصي.

الإسراف في معصية الله، والتعدي على حدوده، وانتهاك حرماته، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذا النوع من الإسراف لا يتنبه له إلا من فتح الله قلبه.

فاتقوا الله -أيها المسلمون-، إن للإسراف في الذنوب والآثام عواقب وخيمة، لا يعلمها إلا الملك العلاّم، فكم أهلكت المعاصي من أمم ماضية، وشعوب كانت قائمة، فهل ترى لهم من باقية؟! ولا تزال تهدم في بناء الأمة الحاضرة، حتى تتحقق فيها سنة الله الجارية، قال -جل وعلا-: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ [الإسراء: 17]، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102].

فانظر -يا عبد الله- كيف أن الأمم السالفة من عهد نوح -عليه السلام- إلى هذا الزمان، كلما أسرفت أمة في المعاصي أجّلها الله مدة من الزمان، لعلهم يتوبون، ولعلهم يرجعون، ومع إسرافهم في المعاصي قد يدر الله عليهم النعم، ولكنه استدراج، كما قال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ [القلم: 44]، وقال -جل جلاله-: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 44].

والأمثلة على ذلك كثيرة، فتأملوا -رحمكم الله- فيمن سبقكم، فهؤلاء قوم نوح فما الذي جعل الماء يعلو الجبال الراسية ويغرقهم؟! إنه والله الإسراف في المعاصي حتى دعا عليهم نوح -عليه السلام-: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا(27)﴾ [نوح: 26، 27].

وكذلك قوم عاد، ما الذي أرسل عليهم الريح العقيم حتى أصبحوا وكأنهم أعجاز نخل خاوية؟! إنه والله الإسراف في المعاصي، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ(7)﴾ [الحاقة: 6، 7].

ثم ماذا أهلك ثمود بالصيحة يا عباد الله؟! ما الذي أهلكهم بالعذاب الأليم فماتوا عن بكرة أبيهم؟! إنه والله الإسراف في المعاصي، قال الله تعالى في حقهم: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ [القمر: 31]، وقال تعالى: (وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) [هود: 67].

وما الذي أهلك قوم لوط بأن جعل عاليها سافلها؟! إنه والله الإسراف في المعاصي، فرفعت قرية سدوم إلى أعلى السماء، حتى سمعت أصواتهم، فجعل أعلاها أسفلها، مع رجمهم بحجارة من سجيل، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ(83)﴾ [هود: 82، 83].

ثم ما الذي أغرق فرعون وقومه؟! فما الذي أغرقهم في أعماق البحار، فالأجساد غرقى، والأرواح حرقى؟! ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46]، إنه والله الإسراف في المعاصي، قال الله تعالى في شأنهم: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ(41)﴾ [القصص: 40، 41].

وكذلك -يا عباد الله- باقي الأمم السابقة، فوالله ما أهلكهم وخسف بهم إلا إسرافهم في معاصيهم؛ قال -جل وعلا-: ﴿فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 40].

فاتقوا الله -أيها المسلمون-، إن الإسراف في المعاصي أمره خطير، إنها والله تزيل النعم بمختلف أنواعها وأشكالها، وتحل النقم والفتن والمحن مكانها: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد: 11]، فالله تعالى لا يسلب نعمة أنعمها على قوم أو مجتمع أو أمة، حتى يحدثوا تغييرًا ما هم عليه من الخير والهداية إلى الشر والضلالة، ومن الطاعة إلى المعصية.

وهكذا تقتضي سنة الله وعدله أن يجزي الإحسان إحسانًا، والسوء عقابًا وعذابًا، فإن أحسن الناس كان إحسانهم لأنفسهم؛ لأنهم يجنون ثماره نعمًا ورحمة، وإن أساؤوا فعواقب إساءتهم راجعة إليهم، لا يضرون إلا أنفسهم.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين…