الرفق بالحيوان

عناصر الخطبة

  1. حث الإسلام على الرفق بالحيوان
  2. رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالحيوان وحثه على الرفق به
  3. التحذير من إيذاء الحيوان أو تعذيبه.
اقتباس

مهما رفعَ العالَمُ الغربيُّ والشَّرقيُّ شعارَ حقوقِ الحيوانِ وجعلوا لها الجَمعيَّاتِ .. فلن يجدوا مثلَ الإسلامِ ضمنَ للحيواناتِ حُقوقَها كما ضمنَ لكلِّ شيءٍ حَقَّه .. فها هو نبيُّ الإسلامِ والإمامُ الأعظمُ يسمعُ لشكوى جَمَلٍ، ويمسحُ عنه العَرقَ، ويُعاتبُ صاحبَه، ويحفظُ له حقَّه في الأكلِ وفي الرَّاحةِ .. ومنه ما ذَكَرَه سَهْلُ بنُ عمرو -رضيَ اللَّهُ عنه-: أن رسولَ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- مرَّ ببعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ ببطْنِهِ فقالَ: “اتَّقُوا اللَّه في هذه الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ، فَارْكبُوها صَالِحَةً، وكُلُوها صالحَةً” .. فلم يتقِّ اللهَ –تعالى- من لم يُحسنْ إلى هذه الدَّوابِ التي خلقَها –سبحانَه- لمنافعَ عظيمةٍ …

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي دبَّرَ أُمورَ الكائناتِ بلطيفِ صُنعِه وعظيمِ قدرتِه أحسنَ تَدبيرٍ، وأَبدعَ المخلوقاتِ من غيرِ مثالٍ سابقٍ فصوَّرها أتمَّ تصويرٍ، وخصَّ الإنسانَ منها بما زيَّنَه من حُسنِ صورتِه في أعدلِ تقويمٍ وأبدعِ تقديرٍ .. أحمدُه حمدَ من تدَبَّرَ آياتِ قُدرتِه الباهرةِ، وشاهدَ دلائلَ وحدانيتِه القاهرةَ..

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الْعَلِيّ الْكَبِيرُ، وأشهدُ أن سيِّدَنا محمداً عبدُه الهادي البَشيرُ، ورسولُه السِّراجُ المنيرُ، الذي بعثه اللهُ تعالى فأحيا به النَّاسَ إحياءَ الأرضِ بالوابلِ المطيرِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه الطَّاهرينَ وأصحابِه الفَاضلينَ وسلَّمَ تسليماً ما لاحَ بَدرٌ مُنيرٌ ..

أما بعد: عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لاَ أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، قَالَ: فَدَخَلَ حَائِطًا -أيْ: بُسْتَانًا- لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَا رَأَى الْجَمَلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ -وهو: المَوْضِعُ الذي يَعْرَقُ مِنَ البَعِيرِ خلْف الأذنِ- فَسَكَتَ، فَقَالَ: "مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟"، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: "أَفَلاَ تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ-أَيْ: تُتْعِبُهُ".

لا إلهَ إلا اللهُ .. مهما رفعَ العالَمُ الغربيُّ والشَّرقيُّ شعارَ حقوقِ الحيوانِ وجعلوا لها الجَمعيَّاتِ .. فلن يجدوا مثلَ الإسلامِ ضمنَ للحيواناتِ حُقوقَها كما ضمنَ لكلِّ شيءٍ حَقَّه .. فها هو نبيُّ الإسلامِ والإمامُ الأعظمُ يسمعُ لشكوى جَمَلٍ، ويمسحُ عنه العَرقَ، ويُعاتبُ صاحبَه، ويحفظُ له حقَّه في الأكلِ وفي الرَّاحةِ ..

ومنه ما ذَكَرَه سَهْلُ بنُ عمرو -رضيَ اللَّهُ عنه-: أن رسولَ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- مرَّ ببعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ ببطْنِهِ فقالَ: "اتَّقُوا اللَّه في هذه الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ، فَارْكبُوها صَالِحَةً، وكُلُوها صالحَةً" ..

فلم يتقِّ اللهَ –تعالى- من لم يُحسنْ إلى هذه الدَّوابِ التي خلقَها –سبحانَه- لمنافعَ عظيمةٍ .. والتي جعلَ اللهُ –تعالى- لها مكاناً حتى في سفينةِ نوحٍ -عليه السَّلامُ- ليبقى أصلُها ونسلُها .. ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40].

بل قد يصلُ العقابُ في تعذيبِ الحيواناتِ إلى اللَّعنِ والطَّردِ من رحمةِ اللهِ –تعالى- التي وَسِعتْ كلَّ شيءٍ .. فَعَنْ جَابِرٍ -رضيَ اللَّهُ عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الَّذِي وَسَمَهُ".

يا أهلَ الإسلامِ .. لقد بعثَ اللهُ تعالى نبيَّه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- رحمةً للعالمينَ .. يقولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ -طَائِرٌ صَغِيرٌ كَالْعُصْفُورِ- فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟، رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا".

وجاءَ عَنْ عَائِشَةَ -رضيَ اللهُ عنها- أنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَمُرُّ بِهِ الْهِرَّةُ فَيُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ فَتَشْرَبُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا" .. فماذا عسى الكلماتُ أن تصفَ تواضعَ خيرِ البشرِ .. حتى مع الطُّيورِ والهِرَرِ!!

وهكذا كانَ أصحابُّه -رضيَ اللهُ عنهم-، حتى أن عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ الطَّائِيَّ -رضيَ اللهُ عنه- كانَ يَفُتُّ الْخُبْزَ لِلنَّمْلِ، وَيَقُولُ: "إِنَّهُنَّ جَارَاتٌ لَنَا، وَلَهُنَّ عَلَيْنَا حَقُّ الْجِوَارِ"، ثمَّ أتباعُهم بإحسانٍ من بعدِ ذلكَ، فهذا أبو إسحاقَ الشِّيرازي رحمَه اللهُ يمشي في طريقٍ ومعه صاحبٌ له، فعرضَ له كَلبٌ فزجرَه صاحبُه، فنَهاه الشَّيخُ، وقالَ له: "أما علمتَ أنَّ الطَّريقَ مُشتركٌ بيننا وبينَه؟".

أيُّها المُسلمُ .. اعلمْ أن ما تُطعمُه الحيوانَ فلك فيه أجرٌ .. حتى ولو لم تكنْ تعلمُ .. عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضيَ اللهُ عنهُما-، دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أُمِّ مَعْبَدٍ في نخل لها، فَقَالَ: "يَا أُمَّ مَعْبَدٍ، مَنْغَرَسَ هَذَا النَّخْلَ؟ أَمُسْلِمٌ أَمْ كَافِرٌ؟"، فَقَالَتْ: بَلْ مُسْلِمٌ، قَالَ: "فَلَا يَغْرِسُ الْمُسْلِمُ غَرْسًا، فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ، وَلَا دَابَّةٌ، وَلَا طَيْرٌ، إِلَّا كَانَت لَهُ صَدَقَةً".

وما هي ردَّةُ فِعلِ الإنسانِ المؤمنِ الذي يرجو اللهَ –تعالى- واليومَ الآخرِ .. عندما يعلمُ أن الإحسانَ إلى حيوانٍ قد يكونُ سبباً لمغفرةِ ذنوبِه جميعاً؟ .. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَا خُفَّهُ مَاءً فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟، فَقَالَ: "فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ".

بل ولو كانَ ذلك الإنسانُ ممَّن كَثُرتْ ذنوبُه وتعاظمتْ معاصيه .. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا –أي خفَّها- فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ".

سبحانَ اللهِ .. زانيةٌ يُغفرُ لها خَطاياها العَظيمةُ، بسببِ شَربةِ ماءٍ لبهيمةٍ، فكيفَ تتعاملُ بعدَ ذلك مع الحيواناتِ، يا من يسعى لمغفرةِ والذُّنوبِ والخطيئاتِ؟ .. لذلك لا تعجبْ بعدَ ذلكَ إذا سمعتَ أبا الدَّرداءَ -رضيَ اللهُ عنه- يقولُ لبعيرِه عندَ الموتِ: "يا أيُّها البَعيرُ، لا تُخاصمني إلى ربِّكَ؛ فإنِّي لم أَكنْ أُحمِّلكَ فَوقَ طَاقتِكَ".

فاحذرْ يا من يؤذي الحيواناتِ .. وانتبه يا من يُعذِّبُ البهائمَ .. فلقد دخلتْ امرأةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ .. عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ، رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ" ..

 ثُمَّ "أَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى الْمَرْأَةَ مُعَلَّقَةً فِي النَّارِ، وَالْهِرَّةُ تَخْدِشُهَا فِي وَجْهِهَا وَصَدْرِهَا وَتُعَذِّبُهَا كَمَا عَذَّبَتْهَا فِي الدُّنْيَا بِالْحَبْسِ وَالْجُوعِ .. فلا إلهَ إلا اللهُ .. أينَ ستذهبُ من حسابِ اللهِ تعالى؟ .. فإذا كانَ الحبسُ فقط حتى الموتِ جوعاً يستوجبُ النَّارَ .. فكيفَ بمن يحرِقُ الحيوانَ أو يضربُه ظُلماً حتى يموتَ؟ .. ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47].

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَقْتَصُّ الْخَلْقُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى الْجَمَّاءُ مِنْ الْقَرْنَاءِ، وَحَتَّى الذَّرَّةُ مِنْ الذَّرَّةِ" .. فإذا كانَ يُقتَصُّ يومَ القيامةِ من الحيوانِ الذي لا تكليفَ عليه ولا حِسابَ .. بل حتى من النَّملةِ .. فكيفَ بكَ يا من قالَ له ربُّه -عزَّ وجلَّ-: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(8)﴾ [الزلزلة: 7- 8].

عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضيَ اللهُ عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ جَالِسًا، وَشَاتَانِ تَقْتَرِنَانِ، فَنَطَحَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى فَأَجْهَضَتْهَا، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: "عَجِبْتُ لَهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُقَادَنَّ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ،-أي: لَيُقْتَصَّنَّ لها-".

فإيَّاكَ وتعذيبَ الحيواناتِ .. ولقد قالَ الحقُّ سبحانَه: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38].

يقول الشَّيخُ السِّعدي -رحمَه اللهُ تعالى- في تفسيرِ الآيةِ: "﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم﴾ جميعُ الحيواناتِ الأرضيَّةِ والهوائيَّةِ، من البهائمِ والوحوشِ والطُّيورِ، كلُّها أممٌ أمثالُكم خلقناها كما خلقناكم، ورزقناها كما رزقناكم، ونَفُذتْ فيها مشيئتُنا وقدرتُنا، كما كانتْ نافذةً فيكم .. ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ ما أهملنا ولا أغفلنا في اللَّوحِ المحفوظِ شيئاً من الأشياءِ، بل جميعُ الأشياءِ، صغيرُها وكبيرُها، مُثبتةٌ في اللَّوحِ المحفوظِ، على ما هيَ عليه، فتقعُ جميعُ الحوادثِ طِبقَ ما جرى به القَلمُ .. وقوله: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ أي: جميعُ الأممِ تُحشرُ وتُجمعُ إلى اللهِ في مَوقفِ القيامةِ، في ذلك الموقفِ العظيمِ الهائلِ، فيجازيهم بعدلِه وإحسانِه، ويمضي عليهم حكمُه الذي يَحمَدُه عليه الأولونَ والآخرونَ، أهلُ السَّماءِ وأهلُ الأرضِ".

فسيأتي يومٌ عظيمٌ .. يحاسبُ اللهُ تعالى فيه العِبادَ .. ويأخذُ حقَّ المظلومِ من الظَّالمِ .. حتى حقَّ الشَّاةِ التي ليسَ لها قرونٌ من التي نطحتْها بقرونِها .. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ".

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، إنه جوادٌ كريمٌ، رؤوفٌ رحيمٌ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ الذي خلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّرَه تَقديراً، وأَتقنَ ما شرعَه وصنعَه حِكمةً وتَدبيراً، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وكانَ اللهُ على كلِّ شيءٍ قَديراً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أرسلَه إلى الخلقِ بَشيراً ونَذيراً، وداعياً إلى اللهِ بإذنِه وسراجاً منيراً، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم بإحسانٍ وسلَّمَ تَسليماً كثيراً ..

أما بعد: فلقدْ راعى الإسلامُ حقوقَ الحيوانِ حتى في طريقةِ قتلِ من أمرنا بقتلِه .. وفي ذبحِ من جازَ لنا ذبحُه .. عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ قَالَ: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيْحَتَهُ".. فيجبُ القتلُ والذَّبحُ بأيسرِ وأسرعِ طريقةٍ تَزهقُ بها الرُّوحُ ويَقلُّ بها الألمُ.

ولذلك جاءَ النَّهيُ عن وسائلِ القتلِ المؤلمةِ كالحرقِ بالنَّارِ.. فلقد َرَأَى رَسُولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقَهَا بَعْضُ النَّاسِ، فَقَالَ: "مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟"، قُلْنَا: نَحْنُ، قَالَ: "إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ".

وحذَّرَ من وسائلِ القتلِ التي يُعذَّبُ بها الحيوانُ قبلَ موتِه .. فعَنْ ابْنِ عُمَرَ –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَغُلَامٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا، فَمَشَى إِلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلَامِ مَعَهُ، فَقَالَ: ازْجُرُوا غُلَامَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ–أيْ أَنْ تُحْبَسَ وَهِيَ حَيَّةٌ لِتُقْتَلَ بِالرَّمْيِ وَنَحْوِهِ-.

بل بلغتْ رحمةُ الإسلامِ بالحيوانِ حتى في مراعاةِ مشاعرِ البهيمةِ حينَ الموتِ .. فعنْ محمدِ بنِ سيرينَ أن عُمرَ -رضيَ اللهُ عنه- رأى رجلاً يجرُّ شاةً ليَذبحها، فضرَبه بالدِّرَّةِ، وقالَ: سُقها إلى الموتِ سَوقًا جميلاً .. ولمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَجُلٍ وَاضِعٌ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ، وَهُوَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ وَهِيَ تَلْحَظُ إِلَيْهِ بِبَصَرِهَا، فَقَالَ: "أَفَلا قَبْلَ هَذَا؟، تُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَتَيْنِ" .. فأيُّ حقوقٍ للحيواناتِ أعظمُ من هذا؟.

اللَّهُمَّ ألِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِـنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِـنَا، وَأَبْصَارِنَا ، وَقُلُوبِنَا، وَأَزْوَاجِـنَا، وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعَمِكَ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ قَابِلِينَ لَهَا وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا .. اللَّهُمَّ لا تَدَعْ لَنَا ذَنْبًا إِلاَّ غَفَرْتَهُ، وَلا هَمًّا إِلاَّ فَرَّجْتَهُ، وَلا دَيْنًا إِلاَّ قَضَيْتَهُ، وَلا مَرِيضاً إِلاَّ شَفَيْتَهُ، وَلا مُبْتَلَى إِلاَّ عَافَيْتَهُ، وَلا ضَالاً إِلاَّ هَدَيْتَهُ، وَلا غَائِباً إِلاَّ رَدَدْتَهُ، وَلا مَظْلُوماً إِلاَّ نَصَرْتَهُ، وَلا أَسِيراً إِلاَّ فَكَكْتَهُ، وَلا مَيِّتاً إِلاَّ رَحِمْتَهُ، وَلا حَاجَةً لَنَا فِيهَا صَلاحٌ وَلَكَ فِيهَا رِضاً إِلاَّ قَضَيْتَهَا وَيَسَّرْتَهَا بِفَضْلِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ.